على الرغم من الإصلاحات المسجلة في دستور 2011 بشأن تخليق الحياة العامة ، والتأكيد على ضرورة محاربة ومعاقبة الفساد والوقاية من كل أشكال الانحراف ، ووضع الآليات اللازمة لذلك ، وإنشاء ودسترة هيئات للحكامة والمراقبة والمحاسبة ، فان ظاهرة الفساد ببلادنا لا زالت تكتسي طابعا نسقيا وعاما . ولا تخرج عن هذا التشخيص مكونات منظومة العدالة ، التي لا زالت تعاني اختلالات عميقة على مستوى التخليق ، بدءا بالقضاء ومرورا بالمحاماة وباقي المهن القضائية والقانونية . إن مهنة المحاماة بالمغرب لم تستطع النأي بنفسها عن معضلة الفساد ، حيث لا زالت تعاني من ضعف في آليات المراقبة والمساءلة ، ومن تراجع في أخلاقيات الممارسة المهنية والتشبت بالأعراف والتقاليد ، الأمر الذي ينتج عنه شيوع ممارسات منحرفة تضر بصورة المهنة ، وتؤثر على تعزيز ثقة المواطن فيها . ولا يمكن البتة مقاربة الموضوع بمعزل عن الأسباب والعوامل التي أنتجت ورعت هذه الوضعية ، والتي نذكر منها الزيادة المثيرة في عدد الملتحقين بالمهنة ، حيث بلغ مجموع المحامين برسم سنة 2014 : 11303 محاميا ومحامية بحسب الإحصائيات الرسمية الصادرة عن وزارة العدل والحريات ، علما أن أزيد من 5000 منهم انضموا في السنين العشر الأخيرة ، وبصرف النظر عن مراعاة التناسب بين الاحتياجات الحقيقية للمهنة وعدد الملتحقين بها، ودون أن يواكب ذلك أية إجراءات مصاحبة من شأنها توسيع مجالات عمل المحامين ، مما أضحت معه المهنة واجهة لامتصاص عطالة خريجي الجامعات ، ، وهو ما أفرز بالتالي ممارسات منحرفة وشادة ، اعتبر أصحابها أن مراكمة الثروة بكافة الوسائل يعتبر أمرا مشروعا ومقبولا . لهذا ترسخ في ذهن العديد من الملتحقين الجدد بالمهنة أن الفساد هو المرادف للثروة ، بينما النزاهة هي المرادفة للفقر، وكل ذلك بسبب سيادة مشهد سوريالي يمكن توصيفه كالتالي :« الاستحواذ المهني وعدم المساواة الاقتصادية » . كما وجبت الإشارة إلى أن من أسباب تفشي ظاهرة الفساد ضعف التأطير المهني والأخلاقي من طرف الهيئات ، وتخلفها في الكثير من الحالات عن إعمال صلاحياتها القانونية في مجال المراقبة والتفتيش والبحث والتأديب ، بل وحتى في حالة إعمال هذه الصلاحيات ، وإصدار قرارات تأديبية في مواجهة المتورطين في قضايا فساد مهني ، فإنها غالبا ما تنكسر على صخرة القضاء بسبب نظره في الطعون المقدمة في مواجهة قراراتها . إن الطابع النسقي والعام الذي تعرفه ظاهرة الفساد ببلادنا كما تم التنويه به ابتداء ، يقتضي القيام بدراسة بنفس الأبعاد لهذه الظاهرة ، تتناول كل المتدخلين فيها ، وللتدليل على صحة هذه المقاربة يمكن الإشارة إلى المشكل الذي تعاني منه الفئة العريضة من المحامين ، والمتمثل في احتكار قضايا حوادث السير من طرف أقلية من المحامين قد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة على مستوى كل محكمة ابتدائية، حيث يتحول ضحايا حوادث السير الى ضحايا للسمسرة ، وفي وضع يجبرون بمقتضاه على قبول محامين للدفاع عن حقوقهم ومصالحهم دون اختيار منهم . ولوضع حد لهذه الظاهرة والتصدي لها ، يتعين وفضلا عن تأديب المفسدين التعامل بنفس درجة الحزم مع المنتمين لباقي المؤسسات والإدارات المتدخلة في قضايا حوادث السير وبمشاركة فعالة من طرف النيابة العامة ، وليس من قبيل الصدفة أن الإدارات والمؤسسات المعنية تعتبر الأكثر تضررا من آفة الرشوة حسب البارومتر العالمي الصادر عن منظمة ترانسبرانسي خلال سنة 2013 ، حيث بينت النتائج المتحصل عليها من طرف المغرب ان القطاعات الأكثر تضررا هي الصحة والأمن بنقطة 2 ، 4 على 5 ، والإدارات العمومية بنقطة 1 ، 4 على 5 ، ثم النظام القضائي بنقطة 4 على 5 . ومن مظاهر الفساد المهني كذلك احتكار بعض المكاتب بعينها للنيابة عن البنوك والمؤسسات العمومية والشركات الكبرى وشركات التامين ، مما يعتبر منافسة غير شريفة ، رغم ان نشاط هذه المؤسسات يتسع لكل المحامين ، مما حدى ببعض الدول كتونس مثلا الى التفكير في وضع مشروع قانون التوزيع العادل لقضايا الدولة . كما وجبت الإشارة كذلك إلى شكل آخر من أشكال الفساد المهني مرتبط بتحرير العقود ، فهناك العديد من المحامين يتعاملون مع كتاب عموميين يقومون بتحرير العقود ويسلمونها للمحامي ليضع طابعه عليها مقابل مبلغ مالي زهيد ( حتى لا أقول أتعاب ) ، وبذلك يتقاضى الكاتب العمومي أتعابا أكثر من المحامي رغم كونه لا يتوفر على إطار قانوني يؤهله لتحرير العقود ، ورغم انه ليس ملزما بنفس التحملات المرتبة على عاتق المحامي. ان أية محاولة لتخليق مهنة المحاماة تظل مرتبطة بشكل وثيق بمسار تخليق منظومة العدالة ، وكذا بمسار تخليق الحياة العامة ، مع ما يقتضيه ذلك من إعمال مبدأي المسائلة وعدم الإفلات من العقاب باعتبارهما من أهم المعايير الرئيسية لقوة وصلابة النظام الوطني للنزاهة في البلدان الديموقراطية . ويمكن القول أن تخليق مهنة المحاماة يجب أن يرتكز على مقاربة شمولية ، تجمع بين البعد القانوني المبني على تحصين المهنة في مواجهة كافة أشكال الفساد ، وبين البعد الأخلاقي المرتكز على قواعد السلوك المهني . لقد أصبح ملحا مراجعة القانون المنظم للمهنة بما يضمن إعادة النظر في شروط الولوج لها ، وفي إجراءات البحث التي تتم حول المرشحين لها ، وجعل التكوين المستمر للمحامين الرسميين إجباريا ، وتوسيع مجالات عمل المحامين ، ومراجعة اختصاصات المؤسسات المهنية ، بما يسمح بتوسيع دائرة المراقبة والمحاسبة، من قبيل تحديد مدة انتخاب النقيب وإعطاء الجمعية العمومية للهيئة صلاحية المراقبة والمحاسبة المهنية تجاه مجلس الهيئة، ومراجعة مسطرة التأديب عن طريق تقييد سلطة النيابة العامة في هذا الشأن، وكذا الحد من السلطة التقديرية للقضاء في الحالات الخطيرة وفي حالة العود وإشراك المحامين في الهيئات التي تبث في الطعون التأديبية ، كما اقترح ذلك الرئيس السابق لجمعية هيئات المحامين بالمغرب بمناسبة الحوار الوطني لاصلاح منظومة العدالة كما أضحى لزاما على هيئات المحامين صياغة مدونة قواعد السلوك المهني انسجاما مع ما أقرته المبادئ الأساسية بشأن المحامين التي اعتمدها مؤتمر الأممالمتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد بهافانا سنة 1990 ، وكذا إعادة النظر في الأنظمة الداخلية للهيئات ، وتضمينها آليات جديدة لتتبع المسار المهني للمحامي ، وتكثيف وسائل المراقبة والتفتيش من طرف النقيب ومجلس الهيئة ، ومأسسة الأعراف والتقاليد المهنية في صلبها ، بما يضمن إضفاء طابع الالزام عليها ، ومراقبة مدى احترامها بحزم وصرامة . إن مجالس الهيئات مطالبة أيضا بإبداع وخلق آليات جديدة ومبتكرة للتصدي لظاهرة الفساد المهني ، من قبيل إحداث « لجنة مكافحة الفساد » يعينها النقيب ، ويحدد مهامها وطريقة عملها النظام الداخلي للهيئة ، كما هو معمول به في العديد من التجارب المقارنة ( نقابة المحامين ببيروت نموذجا ) ، وكذا التفكير في خلق مرصد لتتبع مؤشرات التخليق ، وتوفير قاعدة بيانات إحصائية تمكن مجلس الهيئة من آليات فعالة للتتبع والمراقبة والزجر ، كما أنه لا شيء يمنع مجلس الهيئة من إبرام اتفاقيات تفاهم وتنسيق وتعاون مع الإدارات المعنية بتوطيد النزاهة والحد من الفساد بمهنة المحاماة ، من قبيل وزارة العدل والحريات ، ووزارة الداخلية ، ووزارة الصحة ، والإدارة العامة للأمن الوطني ، وإدارة الدرك الملكي، والهيئة المركزية للوقاية من الرشوة ... علما أن الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد التي سيتم تنفيذها على مدى عشر سنوات ( 2016 – 2025 ) ، تشكل سياقا داعما بامتياز لمثل هذه المبادرات . كما وجبت الإشارة إلى أن تخليق مهنة المحاماة لا يمكن أن يتم بمعزل عن تحمل الدولة لمسؤولياتها كاملة بشان دعمها لأنظمة التغطية الصحية والاجتماعية للمحامين ، وكذا خلق إطار قانوني لصندوق تقاعد المحامين ، كمؤشرات ايجابية قادرة على بعث الثقة والاطمئنان في نفوس المحامين ، مع ما يخلقه ذلك من أثر ايجابي على صيرورة التخليق . وبناء عليه ، نؤكد أن هيئات المحامين لا تستطيع بمفردها مقاومة هذه الظاهرة ، بل يجب التنسيق والتعاون بين كل المتدخلين في منظومة العدالة ، وصياغة رؤية شاملة للإصلاح ، دون أن يعني ذلك الدعوة الى عدم تحمل المؤسسات المهنية لمسؤوليتها فيما يتعلق بمحاربة الفساد وتخليق المهنة ما دام من صميم مهامها الحد من الأساليب غير الأخلاقية في الممارسة المهنية ، والعمل على خلق نوع من تكافؤ الفرص وضمان التنافس النزيه والشريف بين المحامين. *محام بهيئة المحامين بالقنيطرة