الإشكال في هذا البلد هو تجاذب بعض نخب المجتمع ، بين فهوم وتصرفات يغلب عليها حكم القيمة ، الذي يأتزر بمسمَّياتٍ وعناوين ، منها : الاستبلاد ، والتعسف ، و العداء ، و السذاجة ، وأحيانا كل هذه الأسماء مجتمعة تناسب التوصيف . ما بين تصريف المخزون الفكري ، والموقف العدائي ، والتمويه القسري، بالإمعان في صرف النظر عن الإشكالات الحقيقية التي يُرادُ لها أن تغيب ، ومن ثم يُحصَر الاهتمام في موضوعات : إما محسومة شرعا وقيما وتنزيلا ، أو هي مدار الأخذ والرد ، والاجتهاد بالمعنى اللغوي ، فليس كل صاحب رأي مجتهد ، والعكس صحيح . فهل من الفهم السليم تضييق الواسع في مسألة ارتداء اللباس الساتر لجسد المرأة : برقعا كان ، أم نقابا أم حجابا أم خمارا ؟ هل من المقصد الشرعي - مثلا- إخفاءُ وجوه صبايا لم تكتمل لديهن معالم الأنوثة، بل لم تنضج بعد ؟ هل من المفيد شرعا والمستساغ منطقا "طمس" براءة طفلات تحت مسمى الالتزام بالدين، فمتى خاطب النبي الكريم أسماء- رضي الله عنها - بوجوب الاستتار والستر ، أليس عند البلوغ ؟ وهو مرحلة بداية النضج الجسدي والنفسي والجنسي ؟ وإلا هل يدّعي بعض من يتنطّع في الدين أنه "أحرص" على العرض ، و"أقدر" على التنظير للورع ، ودرء المفسدة ؟ ومن أوحى إلى النبي الكريم بإبداء المرأة وجهَهَا وكفّيْها ، في قوله تعالى :" ولا يبدين زينتهنّ إلا ما ظهر منها"النور31. كما يقرر جمهور أهل العلم ، دون إثارة للحكم الشرعي لدى جمهور العلماء بالقول بالحجاب المُجْزئ : هل هو الساتر للوجه والكفين ، أو المُبدي لهما ؟ ومن أراد الأفضلية والحسنى والزيادة بالمبالغة في الستر، فهل يسمح لنفسه بتخطيء المقتنع بالرأي الأغلبي ؟ وهل يدرك حجمَ الانحباس في قضية محسومة، يُجعَل منها قضية قيمية ترتبط بالحياء والعرض ؟ الأمر الآخر: لما ذا يصرّ بعض المتدينين على تجسيد أحادية الرأي والفهم وإلزام الآخر المنتمي للدائرة الواحدة بصوابية رأيه، مع ما في هذا الرأي من "تشدد ّ"و"غلو"، و"إغفال" أو "تناسٍ" لتداعيات إثارة أمورٍ ، ليست من القضايا المصيرية التي دونها خرط القتاد، ومن ثَمّ يمكن أن تزيد من سخط العداء للدين ، وتثير حَنَق المتربصين بكل ما يمت إلى الدين بصلة، فيسقط أصحاب هذا الفكر في إسار ردود الفعل التي تحبس العقول قبل الأنفاس ، وتشغل الناس بجزئيات الأمور، في الوقت الذي هم مطالبون فيه بالإجابة عن قضايا الإنسان المعاصر، في علاقته بربه ودينه وهويته ووطنه ،والسعي لتزيل مفاهيم كبرى ، من قبيل العدل والحرية والمواطنة ، والاستفادة مما تتيحه الحضارة الإنسانية في ربط العلاقات الإنسانية ، وتبشير المتطلعين إليها بنظرة الإسلام السمحة في حرية الاختيار، داخل المرجعية الواحدة ، وإلا لماذا تعددت المذاهب الفقهية، واتسعت صدور علماء الأمة وعقولهم ، إلى درجة الأخذ بمذهب المخالف احتراما للمذهب الذي يأخذ به أهل بلد ذلك الفقيه. وإذا كان العتاب مقصودا به فئة من الناس يرون في "البرقع" قضية كبرى ، بالرغم من الفهم الأحادي، فكذلك اللوم يتوجه إلى فئة من المثقفين ، نكصت عن الأدبيات التي تؤطر ثقافة الحقوق لديها ، واتخذت من القضية الطارئة مشجبا ، مع أن الأمر لا يغدو كونه حرية شخصية نذر الحقوقيون أنفسهم للمنافحة عنها في محافلهم ،فكيف يتوارى الفكر المهووس بشعار الحقوق ، في مسألةٍ هي حقٌّ شخصي تُقِرُّه المواثيق الدولية لحقوق الإنسان ؟ ولماذا تخبو الأصوات وتجفُّ الأقلام ؟ بل لماذا تُدَبَّج المقالات حول الحق في الاختيار ، ثم يُلقى بها في ثلاجة المواقف المتعسفة ، والخنادق الآسرة ، كلما تعلق الأمر بما يرتبط بالدين ، دون تبرير لفهم أحادي لمقتضياته؟ بل لماذا يتحول "قادة" الكلمة ، و"دعاة" الحق إلى أصنام بشرية لا تسمع ولا تُبصر ولا تُغْني شيئا ؟ فهل هي مواقف الفكر و"الإيدلوجيا" التأحيدية ؟ أم هو العنف المعنوي الذي يُصَرَّفُ كلما أتيحت له قنوات التصريف ، وآليات التكييف ؟ أم هي الحقيقة الكاشفة حين تُوزن المبادئ والأفكار، وتُسْبَرُ الأغوار، وتُختبر مساحات الرأي ، فإذا هي قيعان لا تُمسك ماء ولا تُنبت ثَمَرا . وهنا لا بد من التذكير بأن القيم والمبادئ الإنسانية ، بصرف النظر عن مُنتِجها أو مُستقِبِلها هي المشترَك الإنساني والقِسْمة البشرية التي تلتقي حولها الفِطراتُ السوية، والعقول النيرة ، والقلوب السليمة، لذا لا ينبغي أن تغدو مثل هذه المماحكات الثانوية ملهاة ، ولا نتمنى أن تصبح مأساة ، وأعظم المآسي التنازلُ عن جوهر القيم التي يؤمن بها الإنسان ، ولذلك تظل قضية لبس "البرقع" أو عدمه ، قضية حرية ، وإلا لماذا لا يُصادَر حقُّ المرأة في التعري ، أو " المحافظة" في لبس ما تراه مناسبا ، حتى ولو كانت حريتها تصادم حرية المجتمع ، فهل يُسمَح بإكراهها على شيء لا تقتنع به ؟ إن التحدّيَ الكبير ، هو كيف نستطيع إقناع إنسان بالفعل ، وليس كيف نحكم عليه بالأثر، كفانا من أحكام القيمة، لأنها تظل هوامش لإسقاط الموروثات الثقافية ، والنوازع النفسية ، وتبديدِ وقت ثمين في حياة الإنسان ، يا ليته يعرف كيف يستثمره.