حُصِدت جائزة الغونكور للعام 2016 من قِبل رواية "أغنية هادئة" لمغربية الأصل ليلى سليماني. الرواية أسالَت الكثير مِن المداد خاصة أنها ثالث رواية مُسطّرة بقلَم مِن أصل عربي تحوز الجائزة الفرنسية العريقة، بعد اللبناني أمين معلوف والمغربي الطاهر بن جلون. تبدأ الرواية برائحة الدماء وآثارها في أرجاء الشقة الصغيرة، وجثة الطفل ذي العامين، وقَيء الأم وانهيارها الذي تمثَّل في صرخة كأنها عِواء أنثى ذئبٍ مكلومة. ثم الشرطة التي تتجول في المكان، والطفلة التي خبَت مقاومتها للموت، والإسعاف التي جاءت لتنقل لويز وضحايا ذلك القَدر الكبير مِن العُنف أقدَمت عليه، والجيران المتحلقون خارج الشقة المدماة.. مشهدٌ كامل من الرعب والقَرف صوَّرته ليلى سليماني بعدَسةِ لُغتها السلِسة البسيطة. إنه مشهد النهاية، النهاية المأساوية لِ لويز وآل ماسّي. هل سيؤدي هذا الاسترجاع (flashback) إلى حرقِ أحداث الرواية أو جعل القارئ يفقد الرغبة في مواصلةِ قراءتها؟ الرواية لا تُعنى بتشويق القارئ مِن خلال أحداثها، بقدر ما تحاول تحليل مجموعات من المواقف مِن زاوية نظر الشخصية الرئيسية ولو أدى ذلك إلى التأرجُح في الزمن. وهذه هي أبرز سِمات الرواية النفسية التي تبحثُ في المؤثرات السيكولوجية الداخلية والخارجية التي أدت إلى الحدَث الرئيس عِوض السير بالأحداث في خطٍّ تصعيدي ترتفع وإياهُ أنفاس القارئ قبل أن تتهاوى مع مشهد النهاية. ولأن الرواية تبدأ بالصدمة الأولى فإنّ كل ما يليها مِن فقرات لا يتعدى أن يكون أغنيةً هادئة.. فكرة الرواية في الأساس مقتبسة عن جريمة حقيقية. وهي إذن (الفكرة) ليسَت بالشيء المُميز لذاته، ولكنها أثّرت في الروائية فتناولتها بأسلوبها، وحوّلتها من خبر جريمة اعتاد الناس القراءة عنه يوميا على صفحات الجرائد إلى تحفة أدبية تكادُ شخصياتها تنبعث عبر الورق. وهنا تتجلى موهبة ليلى سليماني. المميز في أغنية هادئة، أنها تطلّ على القارئ بأكثر من وجه واحد.. هي زوايا للنظر يمكن لكل واحدٍ أن يتناول الرواية منها على طريقته وحسَب ما يمليه عليه حسّه الفني والنقدي، وقد التقطتُ أنا سبعا منها. سأعرُج عليها بلا إسهاب، مع ثقتي أنّ القارئ النبيه قد يلتقط غيرها أو يتعمق في شِعابها أكثر. 1-هل الشر أصيل في الإنسان؟ الشر بحسب المؤلفة بذرة شيطانية مغروسة داخل كل إنسان فينا، حقيرة متجاهلة، لكن ما إن تمتد يدٌ لها أو أيادٍ لتتعهدها بالرعاية حتى تنمو وتشرئِب بعنقها نحو السماء مُخلِّفة خسائر لا تُحصى، مُحرقةً كل ما يقف في طريقِها بلا تمييز بين أخضَر ويابس ولا حي وميت. لويز كانت امرأة طيبة.. أو هكذا كانت تبدو طوال حياتِها الماضية.. لكن هل يُمكن وصف إنسان ما بأنه طيِّب أو شِرير؟ شابةً، تزوّجت لويز برجل أساءَ مُعاملتها، وعاشَت الفقر والقهر: اشتغلَت خادمةً ومربية في البيوت رافقَت المَرضى، سلّت عن العجائز، أبدَعت في رِعاية الأطفال، تحملّت ذلك دون أن تئنّ أو تشتكي أو تتذمّر. ابنتها ستيفاني التي كانت ترافقها خلال خِدمتها في البيوت، أنهكَها التمييز الصارخ الذي يبديه مشغلو أمها بينها وبين أولادِهم على الرغم مِن لطفهم الظاهر.. التمييز الذي يُبديه القدر حين يهب بعض الناس كلَّ شيء ولا يَمنح الآخرين أي شيء.. ستيفاني فشلت في ممارسة الخُضوع، ثم فشِلت في الدراسة ثم غادَرت إلى مكانٍ غير معلوم تاركة أمها تُجابه رياح الأقدار وحيدة بلا سَند. استقر الحال بالمرأة الأربعينية النحيلة أخيراً في بيت آل ماسيه، أحبّتهم وأحبت الطفلين ميلا وآدم.. لكن يبدو أنها أحبتهم بعنف، إذ ما إن بدا لها أنّ دورها يوشك على الانتهاء حتى عمدت إلى قتلِهم وقتل نفسها، كالقطّة التي تأكل أطفالَها ربما؟ أم أن الحب قد تحول إلى حِقد؟ مهلا، لكن القطة لا تقتل نفسَها ! هيكل الدجاجة كأني به أجمَل وأبلغ جزءٍ في الرواية.. لعلّه الجزء الذي يقول كل شيء: كانت ميريام ماسّيه، مشغلة لويز حريصة متيقظة، كأي أم واعية، في كل ما يخص تغذية طفليها. وكانت تراقب كل ما يتواجد داخل الثلاجة على الرغم من ضيق وقتها وقلّة تواجدها في المنزل. خاصة بعد أن لاحظت أن المربية أو "النونو" كما يسمونها في الأوساط الراقية، لا تتردد في إعطاء الطفلين الطعام المُتقادِم. وقد كانت تعليماتها للويز بهذا الصدد دقيقة واضحة، لكن النونو لم تمتثل. لم تنظف الثلاجة، كما أمرت ميريام، ولم تُلق ما ترى ربة البيت أنه طعام فاسد، هي التي صارت تشعر أنها أكثر من مجرد مربية عند آل ماسيه.. هي التي تعيش البؤس والحرمان، وتُطاردها الضرائب والديون، والمعرضة للطرد من الغرفة الحقيرة التي تأويها. وهكذا حَدث أن قررت ميريام أن تقوم بنفسها بعد مغادرة لويز ذات مساء بإلقاء كل ما تحويه ثلاجتها من طعام منتهي الصلاحية، خاصة تلك الدجاجة الكاملة التي لم تُأكل منها نتفة واحدة. في الصباح الباكر، كعادتهما، التقَت المرأتان عند الباب، تدخُل لويز وتُغادر ميريام، لتعود هذه الأخيرة في المساء مُصادفةً مشهدا من فيلم رعب في لم يكن في الحسبان: هيكَل الدجاجة التي ألقَتها في الليلة الماضية، مُشذبا من اللحم نظيفا من الدهن، بلا كسر ودون أن تنقصه عظمة واحدة، متربعا على طبقٍ وسط مائدة المطبخ ! في تحد واضح، أخرجت لويز الدجاجة الملقاة مِن كيس الأزبال، وأكلَت منها هي وجعلت الطفلين يتنافسان على ذلك آمرةً إياهما ألا يُفسِدا تناسُق الهيكل العظمي، كما علِمت ميريام من ابنتها ذات الأعوام الخمسة. كيف تجرأت لويز على تحدي صاحِبة البيت على هذا النحو؟ هل كان ذلك أول دليل على أن المربية بدأت تفقد قدرتها على الصبر والتحكم؟ بالنظر إلى التراكمات النفسية التي عاشتها لويز، واعتبارا للفترة العمرية الحرجة التي صادفت وجودها في بيت بول وميريام، وما يعتريها من اضطرابات هرمونية تؤثر على المزاج.. فإنه لا شك أن الجواب هو نعم. 2- هل من السليم أن نترك أطفالنا للمربية؟ لم تكن ميريام شَخصية سيئة، ولقد كانت لطيفة في تعاملها مع لويس إلى الحد الذي جعل زوجها يذكرها دونما مرة بأنها هي صاحبة البيت وليست لويز. لويز بدورها، لم يسبق –بحسب علم الوالدين- أن أساءت معاملة إيما آدم، بل إن الطفلين أحباها واعتبراها أما بديلة. وكل ما فعلته ميريام هو أنها سعت لتحقيق الحلم الذي طالما راودها في أن تصبح مُحامية هي التي عشقت القانون ودرسته، لكنّ زواجها وإنجابها طفلين في عمر مبكر جعلها تؤجل هذا الحلم، وربما تلغيه لولا.. لولا ظهور لويز. كانت ميريام امرأة بائسة بحقّ، ظروفها المادية كانت قاسية، هيأتها رثة.. كانت تعرف أن بوسعها قلب الوضع لصالحها، لكن لمن تترك طفليها الجميلين؟ من تأتمن عليهما؟ ثم ظهرت لويز.. كانت رقيقة كملاك، أحبتها ميلا منذ أول لقاء.. واختارتها بعد أول دعابة أطلقتها لويز، ثم صارت هذه الأخيرة جزءا من الأسرة. وبفضلها استطاعت ميريام أن تغيب عن البيت نهارات كاملة، وهي وزوجها في غاية الاطمئنان. عمل ميريام هذا، سيحسن من وضع آل ماسيه المادي، وسيصنع الفرق. كأن المؤلفة تريد أن تقول بذلك، أنّ كلّ ما يجنيه الأثرياء على هذه الأرض ما كان ليتم لولا الفقراء والبؤساء من مواطنيهم. الغني يحتاج إلى الفقير حتى يزداد غنى، بينما تزداد أوجاع هذا الأخير وإحباطاته، ليشعر في داخله أنه كدجاجة أُكل لحمُها وجلدُها وشحمها وتُرك في صَحن هيكَلُها الذي لا يصلح لشيء.. إنها الصورة البليغة. 3- عاصمة الأنوار حناءٌ على شعر مُقمّل ثمة مثل أمازيغي يقول: "رْحني خْ تيشي" ترجمته الحرفية "الحناء على رأس المقمّل" ويستعمل للسخرية ممن يحاول تزيين وضع رديء دون معالجته من الداخل أولا. لويز تعيش في باريس، عاصمة الأنوار التي يحلم الكثير من الشباب في عالمنا بالهجرة إليها، والعيش بين أحضانها. بينما تصور ليلى سليماني الوجه القبيح والنَّتن لهذه المدينة من خلال حياة امرأةٍ يقهرها الفقر وتُثقلها الديون والضرائب. في باريس توجد مناطق رمادية مخصصة للبؤساء يعيشون فيها دون أن يحق لهم التعبير عن غضبهم ويأسهم..كأن باريس تخفيهم داخِلها، مغطيةً إياهم بقناعها البهي ذي الألوان الزاهية.. لويز، امرأة فقيرة، وعوض أن تساعدها الدولة تقهرُها وتُثقل كاهلها بديونٍ تخصّ منزلا لم تعد تمتلكه، هي التي تسكُن غرفة بائسة (استوديو) لا تدخلها إلا ظلاما خوفا مِن عيون مالِكها المُتطلِّب. كيف يعقل أن تضم الجمهورية الفرنسية مَوئل إحدى أعرق الثورات في تاريخ البشرية أُناسا مثل لويز؟ أناسا لا مأوى لهم؟ أين حقوق الإنسان؟ بل أين هي الإنسانية؟ ومع ذلك فإن هؤلاء الذي يجب عليهم أن يكدّوا ليلَ نهار دون أن يستطيعوا توفير أبسط حقوقهم (السكن اللائق) إنهم أناسٌ يعيشون داخل باريس، إلا أنّ كل نصيبهم منها، مشاهدة مواطنيهم المُرفهين داخل المحلات والمطاعم والتفرُّج على واجِهات المحلات الزجاجية وقِطع الثياب الغالية، دون أن يكون لهم أي حق في اقتناء شيء مِن ذلك. ما الذي تفعله الرأسمالية المتوحشة بالعالم؟ 4- هل يحمي الحذر من القدر؟ لا بد لكل من يقرأ الرواية أن يضع نفسه مكان آل ماسّيه ويسأل: ألم تكن هناك إشارة واحدة على أن لويز يمكن أن تكون قاتلة؟ تصوّر الروائية بعض تجليات السلوك العدائي عند لويز، لكنها تجليات طفيفة وغير مؤكدة، إذا استثنينا قصة الدجاجة. لويز عاشت بين آل ماسيه لسنين وقبل ذلك عاشت بين أناس يحترمونها، عاشت كأنها كأسٌ ظل يُملأ ويُملأ ولَم يحن له أن يفيض إلا حين صار في منزل ميريام وبول.. صِدقا لا يحمي الحذر من القدر. 5- والمرأة والتحرر والوظيفة لويز كانت تجمع كل صفات المربية الصالحة. وقد اختارها بول وميريام بعناية من بين عدة مربيات، حَرِصا على أن لا تكون عَجوزا ولا مُدخِّنة ولا مُحجبة.. وإن لم يكن من الممكن ائتمان مربية فيها كل مواصفات الإنسان الرصين المتزّن نفسيا على أطفالنا، فإن نساء العالم كلهّن مخيرات بين الجلوس في البيت لرعاية الأولاد، أو الخروج للعمل.. 6 - ال "تمغربيت" في الرواية في الرواية مغربيتان: وفا وميريام، وكلتاهما منسجمتان تماما في المجتمع الفرنسي، مع فارق أن ميريام مولودَة في فرنسا وذات أصل مغاربي، ووفا مغربية تنتظِر تسوية وضعية إقامتها داخل الأراضي الفرنسية، معتمدة في ذلك على الزواج من رجل فرنسي لا يجمعها به غير المصلحة. لكن هناك رائحة أخرى لتمغربيت في الرواية: ميريام الأم الثكلى خلال بحثها عن مربية، كانت تتجنب أن تتعثر بواحدة من أصل مغاربي، وقد عللت ذلك لزوجها بكونها لا تريد أن تُفاجأ ذات يوم بطفليهما وهما يتبادلان مع مربيتهما كلمات عربية. لم تكن تريدها محجبة أيضا، كأن ميريام المغاربية الأصل تتفادى كل ما يمت بصلة لأصلها وفصلها.. السبب لا تشير إليه الرواية، وبهذا يبقى باب التخيلات مفتوحا للقارئ. 7- أغنية هادئة: الأغنية الهادئة، أو تلك التي تبدو لنا هادئة، حين نصخي السمع إليها بتركيز قد نتفاجأ بوجود عدد غير يسير من الآلات الموسيقية، أوركسترا كاملة: كمنجات، وفيولات، وكونترباز، وهارمونيكا، وناي، وبانفلوت، وأورج، وأحيانا طبل وكورال أيضا. لكننا لا ننتَبه لأنّ اللحن الهادئ يغمرنا.. الأغنية أيضا تختلف عن الموسيقى بأن فيها غناءً، فهل تسرقنا الألحان من سماع ما يقولُه المغني؟ هل نُصغي إليه وإلى وجعه؟ الأغنية الهادئة لا تُخفي أشياء ولكنها تضمّها بين الأصوات المتعددة، وما علينا إلا أن نركز جيدا حتى يتبدى لنا أقل صوت وأرقّ نغم. و ما هذه التي بين أيدينا إلا أغنية هادئة واحدة من بين أغنيات عِدة. [email protected]