يعرض المشهد السياسي الحزبي المغربي فرجة تُقدم صورًا وشخوصًا وخطابات قريبة إلى نوع من السوريالية أكثر مما تستجيب لأي شكل من "العقلانية" السياسية. قد يقال إن استدعاء مطلب العقلانية في حقل سياسي بالغ التركيب والتعقد مغامرة لأنه يصعب اعتماد "العقلانية الصورية" في فهم ما يجري أمامنا من تضارب على المواقع والمصالح، والمزايدة أو التنازع على الشرعيات والتمثيلية. والحال أن المغرب خرج من تجربة انتخابية (7 أكتوبر) كان من المفروض، نظريًا وعمليًا، أن تكرّس نتائجها حكمة سياسية تعزّز مبادئ التوافق الديمقراطي كما عبّر عنها بوضوح دستور 2011. ولعل خطابات وسلوكات العديد من زعمائنا السياسيين تستدعي استحضار مسرحية "تارتوف" لموليير. فهو الشخصية التي تتقدم بوصفها تميل إلى اختيار "مظاهر" خادعة إما لمغالطة الناس، أو لإغرائهم أو حتى لاستبعادهم وسحقهم. ويعرض "وجها" لا يعبر عن "حقيقته" الدفينة. وأهم خصائص التصرفات "التارتوفية" تتمثل في قدرة صاحبها على "التكيف" مع إكراهات السياق الذي يوجد فيه. ومن تمّ يتحرك "المخادع" – من دون أن يحس بالضرورة بأنه يمارس الخداع- داخل النسيج الاجتماعي مدّعيا الدفاع عن القيم والقواعد السائدة ومقدّما نفسه بأنه "شهيد" أو "ضحية" خصوم أو أعداء، ظاهرين ومتسترين، بل ويشتكي بأنه ضحية مختلف تعبيرات ومساومات "اللعبة الاجتماعية". والظاهر أن البيئة السياسية المغربية أنتجت، في السنوات الأخيرة، نماذج متنوعة من هذه الشخوص "التارتوفية". ويتعين الانتباه إلى أن استحضار هذه التسمية لا يتضمن، بالضرورة، أي حكم قيمة حول الظاهرة، أو يحمل انتقاصًا من "الكفاءات" الخاصة التي تتوفر عليها هذه الشخوص، لأن قسطًا لا بأس بأهميته من الممارسات والقيم التي دخلت الحقل السياسي وجدت ما يسندها اجتماعيا "وثقافيا". ويبدو أن نمط وقاموس التخاطب الذي اختار السياسيون سلوكه لترتيب الاتفاقات كما الاختلافات وتدبير هذا الاستحقاق، يبين إلى أي حد يعلي الزعماء من شأن "البلاغات" على حساب ضرورات الحوار، ويختارون "روايات" إما باسم الماضي، أو الدين، أو الأخلاق – الكلْمة بالمعنى المتداول، والرُّجلة..- أو باسم "النضال" لتبرير المواقف وردود الأفعال. ويظهر من خلال هذا المشهد أن الزعماء ما يزالون يعانون من خصاص ظاهر للقيم الديمقراطية، ومن إهمال للاعتبارات التربوية والتثقيفية للمناقشة الديمقراطية، سيما وأن نسبة التأطير التنظيمي الحزبي في المغرب لا يتجاوز 1 بالمئة، وأن حجم المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية ضئيل، ونظام الاقتراع هو ما هو عليه، وعدد الأصوات المحصل عليها من طرف الأحزاب الأولى، وغيرها، ضعيف قياسا إلى عدد سكان المغرب. هذه الاعتبارات كافة تطرح سؤال التمثيلية على كل المنغمسين في المعمعة السياسية أو المهتمين بشؤونها الحزبيين وغيرهم، وإدخال ما يلزم من النسبية على مفهوم "المشروعية" الانتخابية، والالتزام بدرجة ما من التواضع في التدافع السياسي. ومن البديهي أن استحضار هذه المعطيات لا يعني البتة الطعن في العملية الكلية التي بوّأت هذا الحزب أو ذاك المكانة الانتخابية التي حصل عليها. وتُعلمنا التجارب الإنسانية أنه من بين الشروط التأسيسية للعمل السياسي في الديمقراطية تتمثل في القاعدة التالية: لكي يكون المرء ديمقراطيًا يتعين عليه أن "يتكلم بطريقة ديمقراطية". ومعلوم أن هذا الشرط الثقافي والتواصلي ليس معطى طبيعيًا، وإنما هو نتاج تكوين وبيداغوجيا وجهد وتراكم للفعل الديمقراطي. قد يلاحظ هذا العجز، أحيانا، حتى في البلدان العريقة في الديمقراطية، فما بالك بالنسبة إلى مجتمع ماتزال ممارساته السياسية والمدنية مرتهنة لتقاليد مُستبطنة من التبعية، والوصاية، والدعاية. من هنا تبرز المسؤولية الكبيرة الملقاة على الفاعلين السياسيين والاجتماعيين كافة، وضرورة تشبعهم بالقيم المؤسسة للديمقراطية، بما فيها ما يدخل ضمن مجال النزاع، وأحرى في لحظات الحوار، والاجتهاد في إبراز قدرات تسعف الفاعلين على تحويل اتجاه النزاع داخل المؤسسات، وتدبيره بالطرق التوافقية، والإقناعية المناسبة، والبرهنة على الارتقاء بمستوى المناقشة العمومية إلى مستوى خلق نماذج بناءة يحتذى بها، حقّا، تغري الشباب والمتشككين وتدخلهم في معترك العمل السياسي. لا تبدو عملية التحرر من ثقل هذا الواقع عملية سهلة، لكن أهم الرهانات المطروحة على الفاعلين السياسيين والاجتماعيين كافّة يتمثل في خلق المسافة إزاء هذا التاريخ الاستلابي الماحق لكل نزوع نحو الحرية والجهر بالاعتراض، والانخراط في عملية جماعية واسعة لبناء إطار مشترك قمين بإطلاق تفكير عام حول الآليات المناسبة لاحترام القانون، والمساهمة في ترجمة الاختيار الديمقراطي إلى مؤسسات وعلاقات وعيش كريم؛ علما بأنه لا يمكن انتظار إقامة أسس ديمقراطية مُوطّدة في ظرف زمني وجيز لأن ذلك يتطلّب توفير شروط انتقال سلس، وسلمي، وتدريجي لاستعادة الثقة بين مختلف الفئات والجماعات والتيارات المستعدة للمشاركة في المؤسسات. ولذلك، فالحديث عن توطين الاختيار الديمقراطي، وإقرار مبادئ حقوق الإنسان، إنما يتساوق مع ضرورة وضع أطر مناسبة لتدبير النقاش السياسي والثقافي حول قواعد العيش المشترك، وقيم المجتمع الديمقراطي، يساهم فيه كل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين – باختلاف انتماءاتهم السياسية والإيديولوجية - لإعادة بناء مجال سياسي قادر على إنتاج التوافق الضروري لتوطيد الاختيار الديمقراطي، وخدمة المواطنين.