غسل الأموال وتمويل الإرهاب… وزارة الداخلية تضع الكازينوهات تحت المجهر    الحكومة المغربية تعزز قطاع الدفاع الوطني بإعفاءات ضريبية جديدة    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    اكادير تحتضن كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي    جدعون ليفي يكتب: مع تسلم ترامب ووزرائه الحكم ستحصل إسرائيل على إذن بالقتل والتطهير والترحيل    وليد الركراكي: المباراة أمام الغابون ستكون "مفتوحة وهجومية"    صحيفة إيطالية: المغرب فرض نفسه كفاعل رئيسي في إفريقيا بفضل "موثوقيته" و"تأثيره"    عامل إقليم الجديدة يزور جماعة أزمور للاطلاع على الملفات العالقة    بوريطة: المغرب شريك استراتيجي لأوروبا .. والموقف ثابت من قضية فلسطين    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    تعيين مدير جديد للمدرسة الوطنية للهندسة المعمارية بتطوان    المنتخب المغربي يفوز على نظيره المصري في التصفيات المؤهلة لكأس أمام أفريقيا للشباب    إقصائيات كأس أمم إفريقيا 2025 (الجولة 5).. الغابون تحسم التأهل قبل مواجهة المغرب    اشتباكات بين الجمهور الفرنسي والاسرائيلي في مدرجات ملعب فرنسا الدولي أثناء مباراة المنتخبين    السفيرة بنيعيش: المغرب عبأ جهازا لوجستيا مهما تضامنا مع الشعب الإسباني على خلفية الفيضانات    الحسيمة : ملتقي المقاولة يناقش الانتقال الرقمي والسياحة المستدامة (الفيديو)    مقاييس التساقطات المطرية خلال 24 ساعة.. وتوقع هبات رياح قوية مع تطاير للغبار    بحضور التازي وشلبي ومورو.. إطلاق مشاريع تنموية واعدة بإقليم وزان    عنصر غذائي هام لتحسين مقاومة الأنسولين .. تعرف عليه!    المنتخب المغربي الأولمبي يواجه كوت ديفوار وديا في أبيدجان استعدادا للاستحقاقات المقبلة    لمدة 10 سنوات... المغرب يسعى لتوريد 7.5 ملايين طن من الكبريت من قطر    الدرك الملكي بتارجيست يضبط سيارة محملة ب130 كيلوغرامًا من مخدر الشيرا    وزيرة الاقتصاد والمالية تقول إن الحكومة واجهت عدة أزمات بعمل استباقي خفف من وطأة غلاء الأسعار    أزمة انقطاع الأدوية تثير تساؤلات حول السياسات الصحية بالمغرب    هل يستغني "الفيفا" عن تقنية "الفار" قريباً؟    مصرع شخص وإصابة اثنين في حادث انقلاب سيارة بأزيلال    بتهمة اختلاس أموال البرلمان الأوروبي.. مارين لوبان تواجه عقوبة السجن في فرنسا    الارتفاع ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    ‬المنافسة ‬وضيق ‬التنفس ‬الديموقراطي    حوالي 5 مليون مغربي مصابون بالسكري أو في مرحلة ما قبل الإصابة    الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين تسلم "بطاقة الملاعب" للصحافيين المهنيين    ألغاز وظواهر في معرض هاروان ريد ببروكسيل    الحكومة تعلن استيراد 20 ألف طن من اللحوم الحمراء المجمدة    صيدليات المغرب تكشف عن السكري    ملتقى الزجل والفنون التراثية يحتفي بالتراث المغربي بطنجة    الروائي والمسرحي عبد الإله السماع في إصدار جديد    خلال 24 ساعة .. هذه كمية التساقطات المسجلة بجهة طنجة    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    نشرة إنذارية.. هبات رياح قوية مع تطاير للغبار مرتقبة اليوم الخميس وغدا الجمعة بعدد من أقاليم المملكة    معدل الإصابة بمرض السكري تضاعف خلال السنوات الثلاثين الماضية (دراسة)    تمديد آجال إيداع ملفات الترشيح للاستفادة من دعم الجولات المسرحية    مركز إفريقي يوصي باعتماد "بي سي آر" مغربي الصنع للكشف عن جدري القردة    الاحتيال وسوء استخدام السلطة يقودان رئيس اتحاد الكرة في جنوب إفريقا للاعتقال    عواصف جديدة في إسبانيا تتسبب في إغلاق المدارس وتعليق رحلات القطارات بعد فيضانات مدمرة    "هيومن رايتس ووتش": التهجير القسري الممنهج بغزة يرقي لتطهير عرقي    إسرائيل تقصف مناطق يسيطر عليها حزب الله في بيروت وجنوب لبنان لليوم الثالث    أسعار النفط تنخفض بضغط من توقعات ارتفاع الإنتاج وضعف الطلب    حفل توزيع جوائز صنّاع الترفيه "JOY AWARDS" يستعد للإحتفاء بنجوم السينماوالموسيقى والرياضة من قلب الرياض    ترامب يعين ماركو روبيو في منصب وزير الخارجية الأمريكي    هذه أسعار أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    غارة جديدة تطال الضاحية الجنوبية لبيروت    أكاديمية المملكة تفكر في تحسين "الترجمة الآلية" بالخبرات البشرية والتقنية    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القرآن لساناً وعربيا: معنى الرسوخ في العلم

الراسخ عالمٌ، مهما قل علمه؛ وليس العالم بالضرورة راسخاً مهما بلغ علمه. نفهم من ذلك أن الرسوخ لا يشير إلى كثرة العلم وكمه، بل هو علم نوعي، قليل بطبعه "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"، يقود صاحبه إلى الإيمان واليقين، وإلى الإسلام والإحسان، وإلى حسن الخلق وحسن المعاملة، وينأى به عن مزالق الشك ومهاوي الافتتان بالدنيا.
هذا كله مستنبط مباشرة من القرآن الكريم لساناً عربيا.
دعونا نبدأ من حيث نلتقي ونتفق جميعاً.
لا شك أن أول الراسخين في العلم عندنا هو الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد رسخ، أي ثبت، صلى الله عليه وسلم أول ما بُعث بالحق بشيراً ونذيراً. لقد ثبته الله سبحانه وتعالى بالقول الثابت. ونعرّف الرسوخ، كما هو في اللغة، بالثبات. وندرك من كون الرسول صلى الله عليه وسلم رسخ منذ مستهل بعثته أن الرسوخ هو الثبات على قاعدة من المعرفة ضرورية لكل إنسان إلا وهي العلم بربوبية الله عز وجل وبعبودية الإنسان لله عز وجل. ذلك هو الجُزَيء الأساسي المكون لمادة الرسوخ، وتلك هي القاعدة الصلبة التي يقف عليها العالم فيكون راسخاً، أو يفتقر إليها العالم فيظل يتخبط في قيعان ما لها من قرار. كلما ازداد العالم الراسخ علماً ازداد رسوخاً، وازداد ادراكا لقلة علمه؛ أما العالم المتهاوي، غير الراسخ، فكلما ازداد علماً، ازداد عجباً بنفسه، وتاه في مهاوي الأماني.
الرسوخ هو معرفة الله ربا، مالكاً لكل شيء وبيده الأمر كله، ومعرفة الخلق عبيداً لا حول لهم ولا قوة إلا بالله، والتصرف انطلاقاً من تلك القاعدة الراسخة.
تلك هي الكلمة الطيبة.
تلك هي الشجرة الطيبة: "أصلها ثابت وفرعها في السماء". الأصل الثابت هو معرفة ربوبية الله وعبودية المخلوق، وأما الفرع الذي يصل إلى السماء فهو الرفعة والجزاء الحسن الذي يناله العبد من ربه.
والكلمة الخبيثة هي الكفر بالله؛
والشجرة الخبيثة هي تلك الشجرة التي تعجز أن تغرس جذورها في تربة العبودية لله، فلم ترسخ ولم تورق ولم تثمر، فكان مصيرها أن اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27﴾، سورة إبراهيم.
الكلمة الطيبة هي كلمة الإيمان؛ والكلمة الخبيثة هي كلمة الكفر، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه مسلم: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة -من رضوان الله تعالى- يرقى بها إلى أعلى عليين؛ وإن الرجل ليتكلم بالكلمة -من سخط الله تعالى- يهوي بها إلى أسفل سافلين".
لقد رسخ الرسول صلى الله عليه وسلم منذ مستهل بعثته، وكان كلما زاده ربه علماً وأدباً ازداد اطمئنانا في ثباته. هذا كان حاله صلى الله عليه وسلم وحال جميع الأنبياء من قبله. فسيدنا إبراهيم عليه السلام كان ثابتاً بالقول الثابت ولكنه أراد المزيد من الاطمئنان، فسأل الله المزيد من العلم، فأراه الله كيف يحي الموتى فازداد علماً ورسوخاً. وهكذا كان حال الصحابة، رضوان الله تعالى عليهم، الذين أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نقتدي بهم، فكلهم نجومُ هدى، وكلهم عالمون بدينهم، راسخون ثابتون على قاعدة الإيمان والإسلام والإحسان.
العلم كمٌّ، والرسوخ محتوى نوعي من العلم.
الرسوخ علم بالضرورة، وليس العلم رسوخا بالضرورة.
العلم علمان: علم معلومات، وعلم رسوخ. وعلم المعلومات لا يغني عن علم الرسوخ. لكن علم الرسوخ يغني عن علم المعلومات.
علم المعلومات قليل مهما رأيناه كثيراً. وعلم الرسوخ أيضاً قليل ولكن خيره كثير ونفعه دائم. وعلم المعلومات له منافعه وله أضراره، وقد يكون ضرره أكثر من نفعه إن لم يقترن بعلم الرسوخ، أو الرسوخ في العلم.
جاءت عبارة "الراسخون في العلم" في القرآن الكريم لتحدد لنا معنى العلم الذي يُعتد به، ولتميز لنا من هم العلماء الذين يُعتد بهم.
يا لعظمة كلام الله، ويا لشموله!
بحسب القرآن هناك راسخون في العلم مسلمون:
"هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ"، آل عمران (7)؛
لكن هناك أيضاً راسخون في العلم من غير المسلمين:
"لكن الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا"، النساء (162).
الراسخون في العلم من المسلمين يؤمنون بالقرآن كله، ويقبلون بأحكامه كلها، ولا يتخيرون من المعاني ما يروق لهم، ولا يحملِّون الآيات ما لا تحتمل تأييداً لأهوائهم وأغراضهم.
أما الراسخون في العلم من غير المسلمين، فلا يختلفون في الجوهر، فهم متى سمعوا الحق عرفوه، ومتى عرفوه اتبعوه، لأن الحقيقة ضالتهم، لا يصرفهم عنها انتماؤهم، ولا ولاؤهم، ولا أهواؤهم.
الراسخون في العلم يقفون على قاعدة صلبة من الإيمان والنزاهة وعدم الافتتان بالرغبات وأهواء النفس. ورسوخهم إيمانهم الذي لا يتزعزع، مهما كانت الفتن؛
رسوخهم أخلاقهم: تواضعهم ونزاهتهم؛
رسوخهم: زهدهم في الدنيا وفي عروضها؛
رسوخهم: أنهم لا يخشون في الحق لومة لائم، ولا أحد يرغّبهم في باطل ولا أحد يرهبهم .
هذا الرسوخ، القائم على الإيمان والأخلاق وحسن المعاملة، هو رسوخ علماء المسلمين، الذين، حين يقرأون القرآن، ويقعون على المحكم منه والمتشابه، يقولون "آمنا به كل من عند ربنا"، وهم الجديرون بالتذكر، لأنهم هم أولو الألباب"؛
هذا الرسوخ، القائم على الإيمان والأخلاق وحسن المعاملة، هو نفسه رسوخ علماء أهل الكتاب الذين، حين يقرأون القرآن، يقولون آمنا به وبما أنزل من قبله، وإنا كنا من قبله لمسملين.
ذكر القرآن الكريم العلماء وأولو الألباب مرات كثيرة، وذكر "الراسخون في العلم" مرتين فحسب: مرة بخصوص المسلمين، والأخرى بخصوص أهل الكتاب. والرسوخ في العلم الذي ذكره القرآن، سواء بخصوص المسملين أو غير المسلمين، هو الذي يحدد من هم العلماء، العلماء الذين يُعتد بعلمهم، ومن هم أولو الألباب.
إذن من الخطل الاعتقاد أن الرسوخ في العلم يعني كثرة المعلومات، أو كثرة الإجازات العلمية والشهادات. بل الرسوخ، كما قلنا، هو قاعدة صلبة من الإيمان والأخلاق، لا سيما التواضع والنزاهة، تجعل العالم ثابتاً ثباتاً لا تزعزعه الفتن، ولا يضعضعه الخوف من أصحاب البأس والسلطان، ولا تضعفه الرغبة في ما أيدى الناس من زينة الدنيا وشهواتها. العالم الراسخ لا يرجو منصباً ولا مكانة ولا أي عرض من عروض الدنيا، لأنه قد علمَ، علم يقين، أن ما عند الله خير للأبرار، وهو يرجو أن يكون من الأبرار، وأن لا أحد يملك له ضراً ولا نفعاً، فسعى إلى مرضاة الله لا يبالي بشيء سواها.
هناك من يعتقدون أن الرسوخ لا يكون إلا في العلم الشرعي، وهذا وهمٌ بيِّن. فعلماء أهل الكتاب غير معنيين بفقهنا وأصوله، ولا بعلم حديثنا، ولا بتجريح الرواة، ومع ذلك قال عنهم القرآن الكريم إن من بينهم راسخين في العلم يؤمنون بالقرآن حين يطلعون عليه. إذن فرسوخ هؤلاء هو إيمانهم بالله وبالغيب، وتمتعهم بالحيدة والنزاهة والتواضع وعدم التعصب لنحلة أو لمذهب. إن وجود راسخين في العلم من أهل الكتاب دليل على أن الرسوخ في العلم ليس حكراً على العلم الشرعي ولا لأي مجال من مجالات العلوم والمعرفة.
الرسوخ محدد المحتوي: فهو معرفة بالله، ومعرفة بالنفس والمخلوقات، وهو أخلاق وسلوك ومعاملات تمليها تلك المعرفة؛ أما العلم فهو مفتوح لكل المجالات، فهناك الفقيه الراسخ، والفقيه غير الراسخ، والمفكر الراسخ والمفكر غير الراسخ، وعالم الطبيعة الراسخ وعالم الطبيعة غير الراسخ، وعالم الطب الراسخ وعالم الطب غير الراسخ، وهلمجرا. وليس سبب عدم الرسوخ هو قلة المعلومات، ولا قلة الشهادات والإجازات، بل هو الافتقار إلى المحتوى الإيماني والأخلاقي الذي يجعل ذلك العلم، وتلك المعلومات الكثيفة، تقف على قاعدة راسخة تمكنها من معرفة الحق واتباعه.
هب أن عالماً فقيهاً نال من الشهادات والإجازات العملية ما لم ينله غيره، لكنه محب للشهرة، ويعجبه الظهور القنوات وكثرة "التويتات" أو التغريدات، فهل هو عالم راسخ، أم هو عالِم "متهاوٍ" أو "مهزوز"؟
وهب أن امرأة في قرية تحب قراءة القرآن وكتب الفقه والعلوم تقرباً لله ونفعاً لأهل قريتها، لا طلباً لنيل الشهادات ولا لاكتساب الشهرة، وكان الناس يقصدونها مستفتين، وكانت تجيبهم إن عرفت، وتقول لا أدري حين لا تدري. تالله إن تلك المرأة عالمة راسخة رغم قليل علمها.
إن الرسوخ هو الغاية من العلم، وهو، في الوقت نفسه، وسيلة لنيل العلم، لأن الرسوخ يورث التقوى والتقوى تورث العلم: "واتقوا الله ويعلمكم الله". المتقون، أي الراسخون، موعودون بالعلم من الله سبحانه وتعالى: سواء كان علماً مكتسباً أو حكمة يوفقهم الله إليها.
نعم، لئن كان الرسوخ هو الغاية من العلم، فهو كذلك وسيلة إلى العلم، لأن الراسخ هو المتواضع، والتواضع هو المطية الموصلة إلى العلم، يقول لقمان الحكيم ما معناه: "لكل شيء مطية توصل إليه، ومطية العلم التواضع". إن التواضع هو جماع الأخلاق. ولئن كان الدين حسن الخلق، فكفى بالتواضع جامعاً لكل الأخلاق الحسنة؛ ولئن كان الدين المعاملة، فكفى بالتواضع معاملة حسنةً. كل خلق وكل معاملة بلا تواضع محض رياء مهلك. وبُعث الرسول (ص) ليتمم مكارم الأخلاق، فكانت مكارم الأخلاق كلها موجودة، إلا التواضع، فجاء به الرسول (ص)، فتمت مكارم الأخلاق. أجل، جاء الرسول (ص) بالإسلام، إسلام الأمر كله لله، وما ذاك والله إلا التواضع: أن تضع نفسك فلا ترى لنفسك حولا ولا قوة ولا فضلاً. أعاد الرسول (ص) التواضع، أي الإسلام، الذي كان دين الأنبياء قاطبة من لدن آدم حتى عيسى عليهم السلام.
إن الرسوخ، ببساطة، هو إسلام القلب للحق، لله سبحانه تعالى؛ إسلام الأمر كله لله، والتخلص من كل حول مزعوم ومن كل قوة مزعومة، والتيقن من أن الحول كله والقوة كلها لله سبحانه تعالى وبالله سبحانه تعالى. وبذلك تتحقق العبودية التي خلق الله الجن والأنس من أجلها: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون". وما من كلمة نستطيع أن نشرح بها معنى الإسلام ومعنى العبودية ومعنى التقوى ومعنى الرسوخ مثل التواضع. التواضع هو الوسيلة الوحيدة الموصلة إلى العلم؛ من لم يتواضع قلبه وتتواضع جوارحه لم يعلم، ولم يرسخ؛ ومن تواضع فقد علم ورسخ؛ وكفى بالتواضع علماً ورسوخاً، وكفي بالتكبر جهلاً ومهوىً ومهلكة.
الرسوخ في العلم هو معرفة الله وخشيته؛ ومعرفة حقيقة الحياة وأنها لا تساوي جناح بعوضة، ما يستلزم عدم الاغترار بأي شيء من مباهجها ومفاخرها، وعدم الخوف من أي شيء من مكارهها؛ ومعرفة أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا وأن الباقيات الصالحات من الأعمال خير ثواباً؛ ومعرفة الشيطان عدواً واتخاذه عدوا ومعرفة أن النجاة من كيد الشيطان الضعيف لا تكون إلا بالهروب إلى الله القوي المتين؛ فضعف الشيطان ليس أمام قوتنا نحن، فنحن لوحدنا، لا طاقة لنا بمقارعة الشيطان، وإنما يضعف كيد الشيطان أمام كيد الله المتين؛ ومعرفة أن الشيطان يجري في نفس ابن آدم جري الدم في العروق، وأن النفس أمارة بالسوء لأنها تأتمر بوسوسة الشيطان وإيحاءاته وإملاءاته ودعواته، وتأتمر بفعل تخويفه وتحزينه وتيئيسه لها وتزيينه لها السيئات؛ والرسوخ معرفة أن الصراط المستقيم هو القرآن الكريم، وهو يحتوي على كل لوازمنا العقدية والأخلاقية والتعاملية، وأن القرآن الكريم هو أغلى وأعظم وأنفع وأحلى ما هبانا الله في هذه الحياة، وطالما كان في أيدينا وقلوبنا وصدورنا فنحن أغنياء به عن كل ما سواه، وبه ندرك كل ما سواه؛ ومعرفة أن عبوديتنا لله تستلزم تسخير بدننا وجوارحنا للعبادة من صلاة وصوم وقيام ليل، وتسخيرها للعمل من أجل الخير للناس وكف الأذى عنهم، والبعد عن الكسل والتواكل.
والعالم الراسخ ذو خلق وتواضع وحسن معاملة؛
فهو بعيد عن الكبر والعجب، يرد الفضل كله لله، فحتى العلم وحتى التقوى والهداية توفيق من الله، لا فضل لأحد فيه؛
وهو حليم لا يغضب و لا يسب ولا يشتم ولا يغلظ في القول؛
وهو لا يسخر، ولا يحتقر، لأنه يعلم أنه بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه؛
وهو زاهد في الدنيا لا يسعى لشهرة ولا لجاه؛
وهو يعلم أن الأمور بيد الله فلا يخاف ذا سلطان لسلطانه؛ ولا يتقرب من ذي مال لماله؛
وهو يعلم أن طلب الثروة وطلب الرئاسة هما الذئبان الجائعان اللذين حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منهما فقال إنهما يقضيان على الدين كما يقضي الذئبان الجائعان على الغنم؛
وهو ثابت لا تزلزله الفتن ولا تضعف إيمانه؛ وهو يعلم أن أعظم الفتن فتنة الدجال، وأن مبلغ الفتن أن يصنع الدجالون من المعدن عجلاً جسداً حياً من لحم ودم، وعندما ينصرف الناس عن عبادة الله يقول لهم: " يا قوم إنما فُتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري"؛
وأخيراً، العالم الراسخ لا يرى نفسه عالماً، بل يرى غيره أعلم منه؛ ولا يرى نفسه راسخاً، بل يرى غيره أشد رسوخا منه؛ شعاراته: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"، و"إن علمت شيئاً فقد غابت عنك أشياء"، و"من قال أناعالمٌ فقد جهل"، و"من قال أنا راسخ فقد هوى"، و"من قال اتقيت فقل له ابتُليت"، و"من امتن بعلمه أضاع أجره"؛ و"من قال أنا متواضع فقد تكبر"، و"من قال أنا لم أقصر فقد فُتن"، ومن سعى إلى منصب لينال شرفاً فقد زكى نفسه وخالف أمر ربه، ومن طمع في الرئاسة فقد طمع في الحسرة والندامة.
ذلك هو الرسوخ فلا يدعينّه أحد؛
وهذا هو الرسوخ فليسع الجميعُ إليه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.