هل يكون بلاغ بنكيران آخر مسمار يدق في نعش الحكومة المرتقبة؟ أم هو مناورة محسوبة لخلط الأوراق من جديد؟ حقيقة يصعب التكهن بجواب واضح، إذ إن نص البلاغ حمال أوجه كما يقال، ومفتوح على كل التأويلات والاحتمالات، فالبعض فهم منه الإعلان الصريح وشهادة وفاة لحكومة تحتضر منذ ولادتها بعد نتائج 7 أكتوبر، والبعض رأى فيه غضبة ابن كيرانية على المواقف "الصبيانية" لأحزاب لم تحترم المنهجية الديمقراطية...واختارت سياسة التأزيم والبلوكاج ولم تغلب مصلحة المغرب والمغاربة.... بعيدا عن النقاشات البسيطة والسطحية ينبغي أن يطرح سؤال عميق، لماذا اختار الحكام الحقيقيون هذا الوضع غير المسبوق في تاريخ المغرب السياسي؟ وما هي مكاسبهم منه؟ وهل هو اختيار أم اضطرار فرضته نتائج الانتخابات البرلمانية غير المتوقعة؟ المؤكد أن حزب العدالة والتنمية لا ولن يكون الحليف الإستراتيجي والمثالي للمخزن، رغم الخدمات الجليلة التي قدمهاله، ورغم التنازلات الكارثية. ولمن نسي عليه تنشيط الذاكرة بتسريبات ويكيليكس. فالمخزن يعاني أزمة ثقة سياسية وثقافية وأخلاقية مع الإسلاميين المفروضين عليه بحكم الظرفية التاريخية، لأن العدالة والتنمية يضعه ودهاقنته أمامإحراج أخلاقي مزمن بسبب نظافة اليد وعدم تورطه في ملفات الفساد، وعدم قابلية مسؤوليه واستعصائهم على التورط والتوريط. ومن المؤكد أيضا أن المخزن يعلم علم اليقين أنه لا يستطيع أي حزب أن يكون بديلا عن ابن كيران وحزبه...وأن أي محاولة لإقصاء الحزب عن الحياة السياسية والحكم المحدود هو مغامرة غير مأمونة العواقب...لهذا لم تبق إلا المناورة بدهاء وتهييء الأجواء للقبول بالوصفة المخزنية الجاهزة..التي هي القبول بالتأويل الملكي العملي للنص الدستوري الغامض، والذي سيتجه في الغالب إلى تكليف الحزب الثاني بتشكيل الحكومة وهو اختيار يؤيده العرف الديمقراطيالمقبول والمتعارف عليه عالميا. وقد يختار المخزن الانقلاب الأبيض على المسار الديمقراطي لدستور 2011، كما فعل سابقا عند تشكيل حكومة جطو. أما إعادة الانتخابات فهي مغامرة أخرى لا يريد المخزن خوضها، لأن تكلفتها السياسية كبيرة جدا...وما إرسال المستشارين الملكيين لابن كيران لتحريك المفاوضات إلا إشارة أولى في هذا المسار؛ ما معناه: أعطيناك الوقت الكافي وحقك الدستوري كاملا في تشكيل الحكومة لكنك فشلت، فلم يتبق لنا إلا التدخل لإنقاذ مصالح البلد. واختيار الانقلاب الدستوري مبرر في عرف المخزن بأن الفاعل السياسي غير مؤهل وغير مدرك لجسامة المسؤلية،بدليل أنه لم يستطع حسم الخلاف دون تدخل ملكي تحكيمي أو تفسيري تنفيذي؛ وقد مهد خطاب داكار لذلك. إن تسارع الأحداث وتراكمها منذ التكليف مرورا بالبلوكاج الجزئي والكلي المصطنع أو الحقيقي يجعلنا أمام احتمالين: إما أن الأحزاب تلقت أوامر واضحة أو إشارات مخزنية لتأزيم المفاوضات مرة ولتمييعها مرة أخرى وجعل مهمة ابن كيران مهمة "هوليودية مستحيلة"، وإما أنها شعرت بأن المخزن ضعيف إلى درجة أنها تكلفت بالدفاع عن حقها في اقتسام كعكة الحكومة، وخرجت عن حدود الأدوار المرسومة المعتادة...وهنا لا بد من عدم إغفال السؤال عن فقدان المخزن لتحكمه في خيوط اللعبة، بسبب تضارب المصالح في محيط الملك، وتنوع اختيارات صانعي القرار منمستشارين ومقربين.