مطماطة، إنها مسقط رأسي، بلدتي الصغيرة الجميلة التي تنفست فيها أول صعداء، هي الآن ومنذ أيام تعيش على صفيح ساخن، نعم إنه ساخن رغم برودة الطقس وبرودة ضمائر هؤلاء الذين منحهم الناس أصواتهم...وها هم الآن يريدون إخراس هذه الأصوات التي خرجت تحتل الشوارع وتنادي بأعلى صوتها رفضا للذل والمهانة والتهميش. مطماطة، هي بلدة صغيرة، تقع في ذلك المنتصف من الهامش، بين الطريق التي تربط مدينتي تازة وفاس، رزقها الخالق عيونا متفتقة عذبة، طبيعة خلابة بغابات كثيفة، و وديانا متعددة تصب في ثاني أكبر سد بالمغرب (سد إدريس الأول) ليرد لها الجميل هو الآخر فيرخي بموجه كلّ ربيع على جنبات الطريق الوطنية، فيصير المكان روضة من رياض الجنّة. إنها أكثر وأكبر من مجرد قرية صغيرة على الهامش، اسألوا المستعمر الفرنسي عنها إن كنتم لا تعلمون، واسألوه لماذا أولاها أهمية بالغة ربّما ما كان ليوليها مدنا قائمة بذاتها...مطماطة في عهد الاستعمار كانت أكثر من "قرية" وأكثر من "مدينة"، كانت عنوانا للتميّز المجالي، كانت تضم شركات فلاحية كبرى ك "صوجيطا" و "صوديا" التي كان يقصدها مهاجرون من الجزائر وتونس قصد العمل، لأن إشعاعها الإقتصادي كان متميزا وخلق فرصا عديدة للشغل استوعبت اليد العاملة المحلية واستقدمت أخرى من مدن وقرى مغربية وحتى عربية شقيقة. مطماطة كانت "مدينة صناعية" كذلك، تضم ثلاث شركات كبرى لصناعة "الدوم" لم تبقى منها إلا ذكراها في حكايات شيوخ المنطقة و ضمانها الاجتماعي.. فلازالوا يتوصلون به إلى اليوم من تلك الشركات الفرنسية (تصعب المقارنة هنا)...أيضا كانت بها محكمة وبريد، ومدرسة فرنسية إجبارية لتعليم أبناء الفلاحين الذين يشتغلون في هذه الشركات الفلاحية بالمنطقة، وكان يخصم من أجر الفلاح إن هو تغيب إبنه عن الدراسة...أما الآن فإن تلاميذ ثانوية مطماطة لا يتوفرون على أستاذة لمادة الفرنسية منذ بدأ الموسم الدراسي، ولا يتوفرون على نقل مدرسي يرفع عنهم معاناة الطريق، وعورة التضاريس و قساوة المناخ...أغلب شبكتها الطرقية عبّدها المستعمر ولازالت شاهدة على جودة البناء، في مقابل أخرى شيدت حديثا صارت عبارة عن تجمعات متفرقة من الحفر لا غير، كل شيء هنا تقريبا شيده الاستعمار...حتى شبكة الكهرباء والماء والسكك... إنهم لم يضيفوا شيئا يستحقون الشكر عليه إلا من بعض المبادرات التي تتخذ طابع الاحسان لا شكل التنمية، يا ليتهم تركوا مقر هذه الجماعة التي تعتبر أكبر تجمع مؤسس للنهب بالمنطقة..يا ليتهم أبقوها على حالها مثلما تركها الاستعمار فقط...كان مقرّها عبارة عن ملعب ل "التّنس"..على الأقل كنا سنستمتع بفرجة بهيجة لمباريات التنس...بدل أن نتفرج الآن على سرب السيارات التي تخرج وتدخل من أبوابها دون حسيب ولا رقيب، وبدل أن نتفرج على المنازل والشقق التي تشترى هنا وهناك بأموال ساكني المنطقة... الذين لازالوا يصنعون أكواخا بدائية من الطين وأغصان الأشجار...وبهذه المناسبة لابد أن أذكر تعليقا "فايسبوكيا" لأحد الأعضاء بالجماعة الذي وصفهم في تعليق له ب "المخرّبين" الذين يقطعون الأشجار لصناعة منازلهم، لا أدري كيف جعلتني هذه الكلمة (المخربين) أستحضر خطاب الإسرائيليين وهم يتحدثون عن الفلسطينيين بعد أن أخذوا أراضيهم واستوطنوا ديارهم...ربّما هناك وجه شبه... مطماطة كان بها مستشفى للتوليد(في عهد المستعمر) ومستودع للأموات وأطباء وممرضون، صار هؤلاء يتناقصون تدريجيا؛ فهذا يتقاعد وذاك يرحل، وهذه مصلحة تقفل وتلك مصلحة تعلّق...والسكان الطيبون صابرون، تحول المستشفى إلى مجرد مستوصف صغير لا ينفع إلا في الإسعافات الأولية..ومع وتيرة القتل التدريجي لهذه الخدمة الصحية في المنطقة...صار السكان وجها لوجه أمام ممرض واحد يصول ويجول في المستوصف بمفرده، هو الممرض والبواب وصاحب المفتاح...قبل أيام فقط سلّم مفاتيح "الحانوت" لأنه بلغ تقاعده فكانت تلك النقطة التي أفاضت الكأس... ماذا تفعل حوالي 15 ألف نسمة وأكثر إزاء هذا الوضع، حتى ذلك "المرابي" -مثلما يناديه شيوخ المنطقة في ذكرياتهم المسترجعة – لم يعد هنا..ولكنّ الكنيسة باقية هنا (وإن كانت في أسوء حال) تأبى إلا أن تشهد على ذكراه وكرمه، كان هذا الرجل يمنح الدواء مجانا للسكان ويقدم لأبنائهم الكتب والدفاتر والأقلام مجانا لتحفيزهم على طلب العلم، وكان يقدم الحليب للنساء المرضعات والحوامل. كان يحب الفن أيضا ويعزمهم لمشاهدة الأفلام في "سينماه" الصغيرة...ماذا يفعل السكان وقد رحل "المرابي" منذ زمن بعيد (الاستقلال)..ورحل الأطباء بعده..وها هو يرحل آخر ممرض اليوم... طبيعي أن تخرج النساء أولا منتفضات على هذا الوضع، فهن أكثر الفئات تضررا، وطبيعي أن يتبعهم رجالهم وأبناءهم في مسيرات كافرة بالظلم والمهانة والتهميش...وطبيعي جدا أن أكتب هذه الأسطر بكل حسرة على حال مسقط رأسي، بلدتي الجميلة التي أعلى من شأنها المستعمر وجعلها مركزا للتنمية ... لينتهي بها الأمر وقد اغتالها أبناءها ممّن يمثّلون أصوات الناس وثقتهم، ممن يفترض فيهم أن يكونوا أكثر حبّا لها وغيرة عليها من المستعمر... اطمئنوا سادتي، لن ننادي بالاستعمار مجدّدا، بل سننادي بالحرية والكرامة من داخل هذه الجغرافيا الصغيرة لنرسل رسالة للوطن، هذه الأرض لنا من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها...لن نرحل عنها، بل سنرحّل كل اللصوص خارج ترابها...إن قصر الزمان أو طال سيكون مصيرهم كذلك... وعلى هؤلاء الذين يحكمون هذا الوطن أن يكونوا على يقين تام بأن مواطنينا طيّبون ويحبّون السلم ويجنحون إليه وإن على حساب شيء من كرامتهم...ولكنهم حين يمسون (بضم الياء) في أساسيات وجودهم كبشر، وحين تصل بكم الوقاحة لتهددوا وجودهم سيمحون وجودكم بالمقابل، فإما أن تحافظوا على هذا الوجود المشترك ولو مع أدنى حدود كرامة العيش..وإما أن تحاولوا النفي فيتم نفيكم...أن تحاولوا حذف وجودهم فيحذفوا وجودكم، وأنتم من سبق بالحذف..وقاعدة الحذف معروفة.. [email protected] https://www.facebook.com/rachid.sociologie.7