انتبه العديد من المتتبعين للشؤون السياسية والعلاقات الخارجية بين الدول إلى أنه إذا كانت السياسة، بتداعياتها المختلفة تفرّق، فإنّ المآدب تجمع؛ حتى صارت "المأدبة السياسية" مصطلحاً متداوَلاً، يدلّ على الأغراض التي تحقّقها، من جراء اجتماع الأطراف على الأكل والشرب. فكثيرا ما أسهم اجتماع قادة بعض الدول المتنازعة على طاولات وموائد المآدب في "تفاهم" بعد لقاء على المائدة. وكم من حوارات بنّاءة، انعقدت على هامش والولائم والمآدب. ولعل هذا ما دفع بدانيال شيمبيك، كبير طباخي الأممالمتحدة، إلى القول، استنادا إلى تجربته الطويلة والمتراكمة في مضمار صناعة الأكل للزعماء والملوك، إن "فُرص حلّ مشاكل الدول على موائد الأكل أكثر منها في المؤتمرات والمفاوضات". ولعل هذا ما تنبه إليه الملك الراحل الحسن الثاني، في تدبير سياسته الخارجية وتعاملاته مع قادة الدول الأجنبية؛ فقد وظف عراقة المطبخ المخزني، وإلمامه الشخصي بفنون الطبخ في تنفيذ سياسته الخارجية. وهكذا، أدرك هذا الملك، منذ أن كان وليا للعهد، أهمية المآدب في إثارة الكثير من القضايا الدولية الشائكة وإيجاد حلول لها؛ (فالحدث الأبرز الذي سوف يطبع ذاكرة الأمير الصغير هو لقاء أنفا يوم 22 من سنة 1943، لم يكن يتجاوز سنه الرابعة عشرة حين رافق والده إلى دعوة من لدن الرئيس فرانكلين روزفلت، ليجد نفسه جالسا في المائدة نفسها مع أقوى رجل في العالم. وقد كان هناك الوجه الأسطوري وينستون تشرشل، الوزير الأول البريطاني، والجنرال جورج كارليط مارشال رئيس القيادة العسكرية... والجنرال جورج سميث باتون، الذي كان مسؤولا عن الأسلحة التي جاءت إلى المغرب آنذاك. خلال هذا العشاء، عبر روزفلت للسلطان محمد الخامس عن ميولاته لتحرر المغرب من الاستعمار....) 1) وبعدما أصبح ملكا، وظف إلمامه بفنون الطبخ في تنفيذ سياسته الخارجية والدفاع عنها عبر التأثير على مدعويه من رؤساء الدول والملوك والأمراء خلال مجالستهم حول الخوان الملكي. وهكذا، سبق أن صرح، خلال أحد استجواباته الصحافية حول سؤال بشأن اهتمامه بالطبخ المغربي، بأن (الطبخ يمكنه أن يحقق ما لا تقوى حتى الدبلوماسية على تحقيقه) (2). الخوان الملكي واستقطاب النخب الحاكمة الأجنبية استمد الملك الراحل الحسن الثاني من ولعه بفنون الطبخ منذ صغره وإشرافه على أدق تفاصيل المطبخ الملكي، ليقوم بابتكار مجموعة من الأكلات والوصفات والتي كان من أهمها ما سمي ب"الخوان الملكي" الذي تحوّل على يد الملك الراحل إلى أداة استجلب بها استحسان مكونات النخبة الأجنبية من ملوك الدول وأمرائها ورؤسائها واستخدمها كأداة فعالة في الدبلوماسية الملكية؛ (فالخوان الملكي، الذي يقدم بالقصر، ابتكره الحسن الثاني وأضفى عليه لمساته. وقد أعجب بالخوان العديد من الرؤساء والملوك الذين زاروا المغرب؛ منهم الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، والفرنسي جاك شيراك، وقداسة البابا يوحنا والعديد من الرؤساء والملوك العرب، وعلى رأسهم الملك فهد والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والرئيس السينغالي عبدو ضيوف والغابوني عمر بانغو... ويتضمن الخوان الملكي أو قائمة الأكل الملكية كشكولا من الأكلات المغربية التي أضفى عليها الراحل لمسات خاصة، تقدم في البداية سلطة معسلة متنوعة تتكون من طماطم معسلة، والباذنجان المعسل، والجزر المعسل، وبعد ذلك يتم تقديم شواء ملكي، وهو عبارة عن لحم خروف مشوي، يعد بطريقة تبقى سرا من أسرار المطبخ الملكي وسرا من الأسرار التي أخذت من الراحل، يبخر اللحم ثم يتم حشوه بعد ذلك بتوابل ومواد تجعل مذاقه أكثر لذة. أما الأكلة الرئيسية الثانية في الخوان فهي سمك على الطريقة المغربية محشو بالأرز والزيتون والحامض، وبمجرد تقديمها إلى الضيوف، يقدم إلى جانبها عصيرا الزنجبيل والحليب باللوز، وهما نوعان من العصير لا يقدمان إلا في حفلات ومآدب القصر الملكي. وبالنسبة إلى الأكلة الثالثة، فهي عبارة عن دجاج مطبوخ على الطريقة الصويرية، فهو منزوع من العظم ومحشو بالكفتة والتوابل، وكان يقدم إلى كل ضيف في طاجين خاص. وفي مرحلة رابعة يتم تقديم طاجين المقفول بملح العجل المعسل وهو عبارة عن لحم فخذ عجل طري، مطبوخ ببصل صغير، ويحتوي على مرق معسل. وفي الأخير تقدم وهي في الخوان عبارة عن أطباق مشكلة من الفواكه وكؤوس الآيس كريم. وبين الطبق والآخر يقدم صوربي بالزنجبيل وآخر بالتمر عبارة عن آيس كريم محلى، وقد ابتكرهما الراحل الحسن الثاني، ويتم تقديمهما خلال الفترة الفاصلة بين تقديم الأكلات الرئيسية. ويبقى المغزى من ذلك هو جعل المدعوين يغيرون مذاق لسانهم عند الانتقال من أكل طبق إلى آخر، وذلك حتى يتسنى لهم تذوق الطبق الموالي والاستمتاع بنكهته وتوابله) (3). بروتوكول الخوان الملكي كان للملك الراحل الحسن الثاني اهتمام شخصي بكل ما يتعلق بجزئيات بروتوكول إعداد المائدة الملكية، حيث كان الملك الراحل يسهر شخصيا على كل ما يتعلق بتفاصيل هذا البروتوكول؛ فقد كان يولي اهتماما خاصا بأفراد الخدم المكلفة بالمائدة الملكية، سواء بزيهم التقليدي أو بالموسيقى التي تصاحب الوجبات الملكية. وقد ظهر ذلك في المؤتمرات والقمم العربية والإسلامية التي نظمت بالمغرب في عهده. وهكذا، (كان الملك الحسن الثاني يسهر شخصيا على إعداد واختيار الأطباق التي قدمت إلى الضيوف من الملوك والأمراء والرؤساء الذين حضروا مؤتمر القمة الإسلامية في المغرب سنة 1984، كان شخصيا يسهر على اللمسات الأخيرة للأطباق التي قدمت للضيوف في دار القمة بالقصر الملكي بفاس... فقد تشكلت المآدب الملكية الرسمية حينها من أكثر من 100 مائدة، جلس حول كل مائدة 10 مدعوين، كان بالقاعة حوالي 100 نادل كانوا يرتدون الجابادور الأبيض والطربوش الأحمر. وكان الملك يعطي أوامره بلغة الأعين، ويتحدث إلى حاجبه حين يريد إبداء ملاحظة أو نقل معلومة إلى الطباخين والساهرين على جلب الأطباق وتقديمها. كان الملك يحرص شخصيا على شرح وتفسير مكونات وإعداد الأطباق التي ستقدم إلى ضيوفه. وحينما بدأ تقديم العشاء كانت الأمور تسير بانسيابية، كل الأطباق كانت توضع على جميع الموائد في اللحظة نفسها بما فيها المائدة الملكية، كما كانت ترفع منها أيضا في وقت متزامن على نغمات الطرب الأندلسي) ( 4) وإلى جانب الخوان الملكي، لعب بعض أكلات المطبخ المغربي دورا سياسيا في تسهيل عقد اتفاقية وجدة مع الرئيس القذافي التي كانت الإدارة الأمريكية تعتبره من أشد أعدائها في المنطقة العربية والمغاربية. وبالتالي، حرص الملك الراحل، في إطار تحييد أحد الخصوم الممولين لجبهة البوليزاريو وأحد المعارضين للنظام الملكي بالمغرب، على أن يتم إبرام هذه الاتفاقية بعيدا عن أعين السفير الأمريكي بالرباط. وبالتالي، فتنفيذا للتعليمات الملكية، (تم استقبال السفير الأمريكي بكل ما لذ وطاب من أكل مغربي يسيل له لعاب الأمريكيين المعروفين بحب الطعام، من طواجين اللحم والدجاج والبسطيلة وأنواع السلطات والفواكه وموائد كعب الغزال وغيرها من أصناف الحلويات، ما إن تنتهي أكلة حتى يباغت السفير بقصعة من الكسكس والحمام المحمر... رافقت موائد ريد برامج فرجوية متنوعة حافلة بالمرح والتبوريدة وفرق الشيخات، أتخم السفير وعاش لمدة يومين مقطوعا عن إدارة بلاده، ففي الوقت الذي كان ينهم الطعام في جو من الفرجة والفنتازيا، استفرد الراحل الحسن الثاني بالعقيد ووقع معه اتفاقية الوحدة، تحركت هواتف واشنطن تبحث عن تفسير لما يجري، لكن السفير كان خارج التغطية يستمتع بما لذ وطاب من طعام....) (5). نقل الخوان الملكي في الزيارات الرسمية وخلال زياراته الرسمية إلى الخارج، سواء إلى بعض الدول العربية والإفريقية أو إلى فرنسا، كثيرا ما كان ينقل معه خوانه الملكي على ظهر الباخرة مراكش. وهكذا، حول، خلال زيارته لليبيا في 1989، الباخرة مراكش إلى شبه قصر متنقل، أقام فيه صالونا فخما، وقاعة فخمة للأكل لتنظيم استقبالاته الرسمية (6). فقد كان قبل كل سفر يأمر بتغيير ديكور الباخرة، من لدن مهندس ديكور قصوره الفرنسي أندريه باكار، كما كان ترافقه، إلى جانب مستشاريه والمكلفين بالبرتوكول، مجموعة من الخدم وطباخي القصر. وبالتالي، فقد كان يستغل دبلوماسيا رسو الباخرة الملكية في أي مرفأ في طريق رحلته، لتنظيم مآدب رسمية بطابعها المخزني يدعو إليها رؤساء دول عربية أو إفريقية، كما حدث خلال رسو باخرته بالجزائر في 1988(7) أو كما حدث خلال زيارته البحرية لفرنسا بمناسبة انعقاد المؤتمر الإفريقي بلابول في 1990، حيث استغل رسو الباخرة الملكية بميناء ( Saint-Nasaire)، حيث استضاف بعض قادة الدول الإفريقية لمأدبة على متن الباخرة منافسا بذلك مأدبة الغذاء التي نظمها الرئيس فرنسوا ميتران الذي كانت له مواقف سياسية من نظام العاهل المغربي، وقدم إلى ضيوفه الأفارقة أطباقا مخزنية شهية ودسمة مخالفة للأطباق الرئاسية التي تتكون في مجملها من فواكه البحر. (8). وقد بقي الملك الراحل الحسن الثاني موظفا لخوانه إلى حين وفاته، حيث (كان آخر عشاء رسمي حضره الملك الحسن الثاني هو ذلك الذي أقامه على شرف رئيس الدولة اليمنية علي عب دالله صالح بقصره بالصخيرات، وبالرغم من أن ذلك العشاء كان رسميا، فإنه اتخذ طابعا خاصا وحميميا، واقتصر على بعض الشخصيات المهمة داخل الدولة. لذلك، لم ترصف كما جرت العادة موائد عديدة للمدعوين، واقتصر العشاء على ثلاث موائد بما فيها المائدة التي جلس إليها الملك وضيفه علي عبد الله صالح، وإلى جانبهما كان يجلس كل من الأمير سيدي محمد ولي العهد وشقيقه المولى رشيد وعبد الرحمان اليوسفي الوزير الأول وإدريس البصري وزير الداخلية. وقبل الجلوس إلى المائدة، أخذ الملك ضيفه في جولة قرب الشاطئ، وظلا يتجولان لمدة طالت إلى درجة أن البعض بدأ يساورهم الخوف على صحة الملك؛ لأن الجو بالرغم من أنه كان عليلا فإنه كانت تتخلله نسمات برد خفيفة، لكن الملك عندما عاد إلى ضيوفه كان منشرحا، وقال لهم: لقد حكى لي الرئيس اليمني ما قاله للرئيس الجزائري، حول قضية الصحراء. وقد دافع عن موقفنا، كما لو كان مغربيا قبل أن يستدرك وهو لا يستطيع أن يخفي السرور الذي خلفه لديه حديث علي عبد الله صالح قائلا: بل إني أعتبر الرئيس علي عبد الله صالح مغربيا). الخوان الملكي واستقبال البعثات الأجنبية بعد وفاة الملك الحسن الثاني، تواصل توظيف الخوان الملكي في مختلف الاستقبالات التي نظمها الملك محمد السادس للملوك والأمراء والرؤساء خلال زياراتهم الرسمية للمغرب. فخلال أول زيارة للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى المغرب (9)، أقام العاهل المغربي الملك محمد السادس حفل عشاء رسمي على شرف الأول وصديقته فاليري تريفلير. وكشفت صحيفة (باري ماتش)، الصحيفة الفرنسية الوحيدة التي سُمح لها بتغطية الحدث، عن قائمة الطعام الملكي الذي تم تقديمه إلى هولاند، حيث اشتمل الطعام الملكي المغربي المقدم للرئيس وصديقته عى: سلاطة معسلة، بريوات بالتكتوكة، بريوات بالكبد الدسم، بريوات بالزيتون، فول مشرمل، وبعد ذلك تم تقديم الطبق الرئيسي المُشكل من: شواء ملكي، سمك متنوع مقلي بالشرمولة، بسطيلة بالدجاج واللوز، طجين لعجل بالبرقوق والجلجلان ومزين باللوز، القرعة الحمراء محشوة بالكسكس وملج العجل وسبع خضر وأخيرًا بسطيلة بالحليب والتفاح المعسل. أما قائمة المشروبات فكانت عبارة عن الشاي بالنعناع، حليب اللوز وعصير الزنجبيل. وقد نشرت هذه الصحيفة الفرنسية، على موقعها الإلكتروني، صورة لبطاقة الطعام المسماة ب(الخوان) التي تضمنت الأطباق الملكية التالية : وقد افتتحت هذه المأدبة بإلقاء العاهل المغربي خطابا تضمن ما يلي: "الحمد لله وحده٬ والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه٬ السيد رئيس الجمهورية٬ أصحاب السمو الملكي٬ حضرة السيدة٬ أصحاب المعالي والسعادة٬ حضرات السيدات والسادة٬ إنه لمن دواعي المسرة والسعادة٬ أن أستقبلكم - فخامة الرئيس- وأعضاء الوفد الهام المرافق لكم٬ متوجها إليكم٬ أصالة عن نفسي ونيابة عن الشعب المغربي٬ بعبارات الترحيب في مدينة الدارالبيضاء٬ هذه الحاضرة التي تعد في مقدمة مدن المملكة٬ التي تلتقي فيها عناصر ثقافية وإنسانية تغذي الوشائج المتينة التي تجمع بلدينا الصديقين. ومصدر سعادتي٬ أنني أستقبل في شخص فخامتكم رئيس دولة عظيمة٬ هي فرنسا التي يكن لها كافة المغاربة مشاعر المودة العميقة والتقدير الكبير. ومما لا ريب فيه٬ أن العلاقة القائمة بين بلدينا٬ ذات الطابع الاستثنائي٬ تستمد تميزها من تاريخنا المشترك العريق٬ ومن الروابط الثقافية والإنسانية٬ التي تجمع شعبينا على نحو عز نظيره. كما أنها تزداد رسوخا ومتانة بشكل مطرد٬ ولا سيما بفضل المبادلات الاقتصادية ذات الآفاق الواعدة. السيد الرئيس٬ إن المغرب وفرنسا مؤهلان بطبيعتهما لتبوء مكان الصدارة٬ ضمن شراكة مستقبلية٬ بين ضفتي حوض المتوسط. وفي هذا الصدد٬ يتطلع المغرب٬ الذي يحظى منذ سنة 2008 بوضع متقدم لدى الاتحاد الأوروبي٬ إلى مواصلة تطوير جهوده بمعية هذا التكتل٬ وذلك من خلال إبرام اتفاقيات جديدة. وموازاة مع ذلك٬ فإن بناء اتحاد مغاربي مستقر ومتضامن٬ يشكل دائما أولوية جيوستراتيجية جوهرية بالنسبة للمملكة. وإني لعلى يقين من أن انبثاق نظام مغاربي جديد٬ الذي ما فتئنا نتطلع إليه٬ سيمكن البلدان المغاربية الخمسة من العمل٬ من منطلق حسن النية الخالصة٬ على إطلاق ديناميات التضامن والتكامل والاندماج التي تزخر بها المنطقة. ومن هذا المنطلق٬ سيكون للمبادرة المسماة 5+5٬ وللانسجام الإستراتيجي الذي يتمتع به غرب المتوسط٬ مردودية أفضل٬ من حيث القرب الجغرافي والإنساني٬ وشتى التوافقات والترابط اللوجستيكي٬ والحلقة الطاقية. وعلى هذا الأساس٬ فإن المغرب عازم٬ وبشكل خاص٬ على العمل٬ في انسجام مع فرنسا٬ من أجل انبثاق معاهدة أورومتوسطية جديدة من شأنها أن تخلق٬ في نفس السياق٬ المزيد من التوافق في الديمقراطية والتضامن والازدهار. وفي هذا الصدد٬ فإنني واثق من أن ما تقترحونه وتدافعون عنه٬ في موضوع "البحر الأبيض المتوسط للمشاريع"٬ ليشكل تصورا وجيها ومحفزا من شأنه أن يدشن٬ بشكل عملي وملموس٬ بناء صرح تشاركي جديد في المتوسط.(...) السيد الرئيس٬ إن المملكة المغربية٬ التي ما فتئت تعمل من أجل التوصل إلى حل عادل ونهائي٬ للصراع الدائر في الشرق الأوسط٬ لتعبر عن أملها في أن يوفق المجتمع الدولي إلى إعطاء دفعة جدية لمسلسل السلام الفلسطيني الإسرائيلي٬ وإلى وضع حد فاصل لاحتلال ما فتئ يهدد المنطقة بأوخم العواقب٬ هذه المنطقة التي تواجه في الفترة الأخيرة امتحان الانتقالات العسيرة. وفي هذا السياق٬ فإننا نتأسف كذلك٬ لعدم تمكن المجتمع الدولي من وضع حد نهائي للمأساة الإنسانية التي تضرب السكان المدنيين في سورية٬ وعجزه عن مساندة تنسيق الخطوات المتخذة على الميدان من قبل المعارضة٬ التي تعرف حاليا مرحلة من التشتت٬ وهو ما يؤخر انتقالا سياسيا لازما ولا محيد عنه في هذا البلد. ومن ناحية أخرى٬ فإن لبلدينا نفس التطلع تجاه القارة الإفريقية٬ بخصوص مصالحها٬ هذه القارة الغنية بمواردها الإنسانية والثقافية والطبيعية. ومن ثم، فإننا نشاطركم٬ فخامة الرئيس٬ نفس الرؤية الواضحة٬ فيما يخص الحاجة الملحة لإيجاد شروط السلام والأمن والاستقرار لكل البلدان الإفريقية٬ لأن توفير هذه الشروط يظل ضروريا لتمتين الأسس الضامنة لإرساء الديمقراطية والتقدم والتنمية البشرية. وبهذه المناسبة٬ أود أن أجدد دعم المملكة المغربية للعمل الذي قامت به فرنسا٬ بكل حزم وشجاعة٬ والذي مكن دولة مالي الشقيقة٬ من استعادة سيطرتها على كافة أراضيها والحفاظ على توجهاتها الوطنية المشروعة. السيد الرئيس٬ إن المملكة المغربية٬ التي تعتز بتاريخها٬ تسير بإيمان وحزم على درب تحقيق مشروعها المجتمعي المنفتح والخلاق٬ القائم على أسس قوية٬ تجتمع حولها شتى المكونات. وهو ما مكن المغرب من ترسيخ نظام مؤسسي تسوده قيم احترام الفرد والتضامن مع الجميع٬ نظام مؤسسي يجمع ويوائم بين التعدد والخصوصيات الترابية والثقافية. وتلكم هي الرؤية التي اعتمدناها في ورش الجهوية المتقدمة٬ ونحن واعون كل الوعي٬ بأهمية مخطط الحكم الذاتي المقترح لجهة الصحراء٬ باعتباره السبيل الوحيد لحل الخلاف الإقليمي الذي ما زال٬ مع الأسف٬ يرهن المستقبل المغاربي. السيد الرئيس٬ إن المملكة المغربية لتقدر٬ حق التقدير٬ الالتزام المستمر الذي تبديه فرنسا نحوها من أجل إنجاح شتى المشاريع الأساسية التي تعتمدها ومختلف الأوراش المهيكلة التي تطلقها. إنني لواثق من أن زيارة الدولة٬ التي تقومون بها للمغرب٬ ستمكننا من تقوية شتى أوجه التقارب التي تجمع بلدينا وشعبينا وترسيخها. ومما لا شك فيه أن شراكتنا ستزداد قوة وثراء في كل مجالات الأنشطة الكفيلة بتحقيق الآمال والمزيد من التقارب. وعلاوة على الآفاق الواعدة بين بلدينا٬ فإن طموحنا لكبير في أن يسهم كل من المغرب وفرنسا حول المتوسط٬ في بلورة حلول مجددة وخلاقة من أجل إرساء أخلاقيات جديدة في العلاقات بين إفريقيا والعالم العربي-الإسلامي وأوروبا ٬ أخلاقيات تعطي الأولوية لقيم التآزر والتضامن وتدفع بالتنمية البشرية المستدامة قدما إلى الأمام٬ وتحول الفوارق الاجتماعية والاقتصادية إلى عناصر إيجابية لخلق الثروات المشتركة. حضرات السيدات والسادة٬ أرجوكم أن تقفوا معي تكريما للسيد فرنسوا هولاند رئيس الجمهورية الفرنسية٬ وتقديرا للصداقة بين الشعبين المغربي والفرنسي٬ وللثقة والمودة المتبادلين اللذين يجمعان بلدينا على الدوام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته". وجوابا على الكلمة التي ألقاها العاهل المغربي ألقى الرئيس الضيف خطابا مماثلا٬ أشاد فيه بالطابع الفريد للعلاقة التي تربط بين فرنسا والمغرب٬ والتي "تتجاوز التناوب والتغيرات السياسية٬ بل تتجاوز حتى الأشخاص". وقال الرئيس الفرنسي بأن "المغرب تربطه علاقة وثيقة بفرنسا وبسكانها وبتاريخها وبلغتها٬ كما أن فرنسا تربطها بالمغرب علاقات متعددة إنسانية وثقافية واقتصادية. ويتقاسم بلدانا ثروة لا تقدر بثمن ألا وهي التطلع إلى مستقبلهما بنفس الثقة دون حاجة إلى العودة إلى الماضي والحكم عليه". وذكر٬ في هذا الصدد٬ بأن فرنسا لن تنسى أبدا أن "جنودا مغاربة كانوا قد جاؤوا للكفاح بشجاعة نادرة من أجل تحرير فرنسا خلال الحربين العالميتين٬ ولكي لا ننسى أن الجنرال ديغول كان قد اعتبر محمد الخامس رفيق تحرير " حيث كان جلالته "قائد الدولة الوحيد الذي حظي بهذا الشرف".(10) كما جدد الرئيس الفرنسي٬ بهذه المناسبة٬ ثقة فرنسا في المغرب٬(11) مبرزا ما تتوفر عليه المملكة من "مؤهلات هامة٬ وعلى ساكنة متنوعة وفتية٬ واستقرار لم يسقط أبدا في الجمود واحترام للتقاليد لا يبعده البتة عن متطلبات الحداثة". وأشار الرئيس الفرنسي إلى الموقع "الفريد" للمملكة كصلة وصل بين البحر الأبيض المتوسط والعالم العربي وإفريقيا٬ مؤكدا أن المغرب عرف كيف يبني نموذجا يستوعب بشكل تام كل مكون من مكونات هويته٬ سواء كان عربيا- إسلاميا أو أمازيغيا أو صحراويا- حسانيا أو مكونا إفريقيا وأندلسيا وعبريا ومتوسطيا. (12) وخلال مأدبة العشاء تحلق حول المائدة الملكية حوالي 450 شخصية سياسية وعسكرية ودبلوماسية، شملت رئيسا مجلسي النواب والمستشارين٬ ومستشارو صاحب الجلالة٬ وأعضاء الحكومة٬ وأعضاء الوفد الرسمي المرافق للرئيس الفرنسي٬ وأعضاء من الجالية الفرنسية المقيمة بالمغرب وعدة شخصيات مدنية وعسكرية. وقد كشفت مجلة "باري ماتش" الفرنسية عن بعض أدق تفاصيل استقبال الملك محمد السادس للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في حفل العشاء بالقصر الملكي بالدارالبيضاء يوم الثالث من أبريل 2013، من خلال وصف أزياء الأميرات الحاضرات (13) وأيضا سرد ما تم تقديمه من أكلات متنوعة لضيف المغرب والوفد المرافق له. كما لم يفت الصحفية الفرنسية أن تصف الأجواء داخل القاعة الشاسعة التي نُظم فيها حفل العشاء بالقصر الملكي بالدارالبيضاء على شرف الرئيس الفرنسي، حيث كان يسود صمت شبه ديني، تقول بيكوزي، مع بعض الابتسامات التي كانت تحوم حول المائدة الملكية التي اقتسمها الملك وضيفه وصديقته والأميرات وشقيق الملك الأمير مولاي رشيد فضلا عن رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران. ولفتت الصحفية الانتباه إلى ما اعتبرته نشازا في حفل العشاء بالنسبة إلى المغاربة الذين لا يتركون شيئا يغفل عنهم إذا تعلق الأمر بملكهم، فقد رفع هولاند كأسه الفارغة على شرف الملك احتفالا بعلاقة الصداقة بين الشعبين المغربي والفرنسي، مشيرة إلى مثل هذه الطقوس لم يعتد عليها المسلمون بعد... وأردفت موفدة المجلة الفرنسية إلى القصر الملكي بأن المشروبات قدمت إلى الضيوف والحاضرين في كؤوس من "كريسطال باكارا"، وكانت عبارة عن كأس شاي بالنعناع، وحليب باللوز، ومشروب من الزنجبيل. وعموما، فالخوان الملكي إلى جانب كل مكونات الطبخ المغربي بتنوعاته المختلفة أصبح يلعب دورا أساسيا في السياسة الخارجية للدولة، الشيء الذي ظهر بالخصوص في الاهتمام الدولي بالأطباق المغربية خلال تظاهرة كوب 22 التي انعقدت بمراكش. كما انعكس أيضا من خلال التظاهرات الاقتصادية والثقافية الدولية التي يقيمها المغرب بالخارج، حيث يخصص جناح خاص للتعريف بمكونات المطبخ المغربي وأطباقه. بالإضافة إلى أن الكثير من الدول الأجنبية، خاصة الإفريقية والأوربية، أصبحت تستقدم ممونين مغاربة، بما فيهم شركة رحال ممون المملكة بامتياز، لإقامة مآدبها الرسمية وغير الرسمية. هوامش: 1- المشعل عدد 295 من 13 إلى 19 أكتوبر 2011 – ص 11 2- في حوار للملك الراحل مع صحيفة إيطالية، صرح بأنه هوايته في الطبخ بدأت عندما (كنت لا أزال صغيرا، وكنت أذهب كثيرا إلى المطبخ لآكل قليلا من المربى ومن المبردات، كنت أهوى رصد عمل الطباخين عند إعدادهم لطرائق طهيهم. ثم إنني وجدت نفسي في المنفى طيلة سنتين ونصف، في ذلك الوقت كنت زيادة على دراسة الطب والتوراة والإنجيل أنتفع بأوقات الراحة لأخلق صنفا جديدا من الطعام، وعلي أن أقول إن هذه الألوان التي كنت أطبخها على مهل كانت في الواقع جيدة. إن الذواقة مسألة خيال، فلا بد أن تتجانس التوابل فيما بينها مثلما يقع للعطور والألوان ...)، الحسن الثاني الطباخ الذي ابتكر الخوان الملكي للضيوف الكبار– الأيام – م س- ص 17. 3- إنياس دال – كيف تعلم الحسن الثاني أن المعلومة سلاح – فبراير كوم بتاريخ 29 يناير 2012. 4- نجاة أبو الحبيب – الطريق إلى طباخ الحسن الثاني – الأيام عدد 551 بتاريخ 28 دجنبر 2012 – ص 17. 5- سياسة الطعام تخضع أمريكا – المشعل – م س – ص 11 HASSAN HAMDANI- Le palais flottant de Hassan II. TEL QEL 14-20 juin 2013. P 44 6- خلال زيارته لليبيا في 1991 للمشاركة في تدشين النهر العظيم، كان الملك ينظم مآدب العشاء على متن الباخرة على شرف مرافقيه من مستشارين ورؤساء الأحزاب وغيرهم. 7- لقد حاول الملك الراحل الحسن الثاني، من خلال ذلك، أن يظهر استقلاليته كملك في مقابل الخطاب الذي افتتح به الرئيس ميتران هذه القمة الإفريقية والتي ربط تقديم المساعدات الفرنسية بمدى التحسن الديمقراطي في الدول الإفريقية. Ibid – p 46 8- لم تكن زيارة الرئيس فرانسوا هولاند عادية، فقد أتت بعد الزيارة الرسمية الأولى، بكل دلالاتها الرمزية إلى الجزائر. كما أتت في سياق إقليمي مغاربي مضطرب ومتأثر بتحولات الربيع العربي في ليبيا وتونس من جهة، وبالتدخل الفرنسي في شمال مالي، وكذلك في سياق مناخ شديد التنافسية الإستراتيجية والأمنية بين المغرب والجزائر من جهة أخرى. 9- اختار الرئيس الفرنسي هذه الإشارة التاريخية والسياسية ليعتذر ضمنيا عن سنوات الاستعمار وما شهدته من انتهاك الفرنسيين لحريات وحقوق المغاربة. ويبدو أنه اعتذار جديد بعد اعتذار ضمني للجزائر، وإن كان الاعتذار للمغاربة مختلفا باختلاف العلاقة التاريخية مع الدولتين (الجزائر والمغرب. 10- تعتبر هذه الإشارة من رئيس فرنسي اشتراكي إشادة بالنموذج المغربي في تعامله مع المستجدات السياسية التي عرفتها المنطقة المغاربية والإفريقية الشيء الذي يتعارض مع كل التحليلات التي كانت تتوقع تراجعا في العلاقات الفرنسية المغربية شبيهة بفترة صعود الرئيس الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران سنة1981، والتي شهدت في بدايتها توترا مرتبطا بقضايا حقوق الإنسان. 11- في خطابه أمام البرلمان الذي ألقاه في اليوم الموالي للمأدبة، جدد الرئيس هولاند إشادته بالتاريخ المشترك للدولتين، حيث ذكر بتضحيات المحاربين المغاربة، وجعل منهم ذاكرة مشتركة بين الأمتين الفرنسية والمغربية. 12- أهدى الرئيس الفرنسي ورفيقته الأسرة الملكية حقائب من الحرير مزينة بأحجار كريمة، من توقيع المصمم الشهير أليكسيس. 13- وصفت موفدة المجلة الفرنسية كارولين بيكوزي، الصحافية الوحيدة التي سُمح لها بحضور حفل العشاء الملكي، أزياء الأميرات: زوجة العاهل المغربي الأميرة سلمى، وأختاه الأميرتان مريم وحسناء؛ حيث ارتدت عقيلة الملك قفطانا ذا لون بني فاتح "بيج"، مزين بالذهب وطقم من المجوهرات، بينما ارتدت أخوات الملك قفطانا أسود مزين بخيوط من ذهب وفضة، يتوسطه حزام مرصع ببعض الأحجار الكريمة، بخلاف الفستان الطويل والأسود الذي كان تلبسه رفيقة الرئيس الفرنسي فاليري تري فيلر.