بالنظر إلى أهمية الأحداث التي ميزت المشهد السياسي في المغرب خلال سنة 2016، يمكن تركيز الاهتمام على أربعة أساسية: انتخابات 7 أكتوبر الحدث الأول: إجراء الانتخابات التشريعية في موعدها القانوني، وإفراز اقتراع 7 أكتوبر لنتائج مفاجئة، سواء على مستوى التراجع الملحوظ في شعبية أحزاب مثلت إلى حدود 2011 عصب المشهد الحزبي وفاعليه الحاسمين في التوافقات الكبرى التي قام عليها النسق السياسي المغربي ومسار الإصلاح الديمقراطي الذي عمر لأكثر من 50 سنة، أو على مستوى استمرار مسلسل الانزياح المباغت لإرادة الناخب على قواعد التأطير القبلي الذي عادة ما تتحكم فيه عوامل التوازن السياسي الذي تستلزمه الهندسة الانتخابية، إن على مستوى التقطيع الترابي للدوائر وتوزيع المقاعد، وإن على مستوى النظام الانتخابي والإصلاحات التي همت تخفيض العتبة. ولعل أهم ما يمكن قراءته لهذا الحدث هو أن: (1) هذه الانتخابات قد عرفت تحولات عميقة في المزاج الانتخابي، تعرضت معها الهندسة الانتخابية لرجة كبيرة ألزمت الدولة على اتخاذ مجموعة من الإجراءات الاستباقية للحد من الخسائر على مستوى التقليل من الكلفة السياسية لهذا الانفلات غير الاعتيادي لاختيارات الناخب. وقد استهلت ذلك بورش التحضير للانتخابات التشريعية ل7 أكتوبر 2016 بإجراء تخفيض للعتبة الانتخابية في الدوائر المحلية إلى 3%، واستتبعته بمراجعة استثنائية محدودة للوائح الانتخابية العامة (القبول ب250 ألف طلب تسجيل جديد)، وبإفراز تنافس سياسي وانتخابي "شرس" تميز بزخم وتواتر في الأحداث وبكثافة شعورية عالية / Intensité émotionnelle. (2) تأكيد الخلخلة التي جرت على مستوى المواضعات الكبرى لنظام الانتشار المجالي للأصوات في 25 نونبر 2011 و4 شتنبر 2016. فبمقارنة نتائج 7 أكتوبر مع نتائج انتخابات 2011 و2015، نلاحظ أننا إزاء تطور متسارع نحو "تعادلية مجالية" حادة ما تزال غير واضحة بشكل كاف، سواء على مستوى الثنائية الفكرية والسياسية أو على مستوى الخصائص السوسيو-مجالية؛ حيث يبرز في هذا التقاطب المجالي حزبان (العدالة والتنمية- الأصالة والمعاصرة)، زادا في عدد مقاعدهما وفي عدد الأصوات المحصل عليها (57% من مجموع العمالات والأقاليم في 2016 مقابل 39% في 2011)، وقد ارتفعت عدد الدوائر التي احتلا فيها المرتبة الأولى من حيث الأصوات (ما يناهز 71% من مجموع العمالات والأقاليم في 2016 مقابل 52% في 2011). عدم تأثير الحملة والبرامج الانتخابية في اختيارات الناخب؛ حيث إن تقارب أحجام أصوات الحزبيين الأول (العدالة والتنمية) والثاني (الأصالة والمعاصرة) مع حصيلتيهما في انتخابات 4 شتنبر 2015 يزيد من احتمال أن الناخب حسم تصويته قبل بدء الحملة، وأن العوامل المستحضرة في اختياراته ترتبط بمختزلات معلوماتية/Raccourcis d'informations ولدت لديه قناعات سياسية- انتخابية بشكل مبكر أفضت إلى حدوث تمثل ذهني لأقرب الأحزاب إليه. (4) العودة القوية للأعيان في التنافس الانتخابي بعد تراجعهم في انتخابات 2011 و2015 (حالة حزب الأصالة والمعاصرة: ما يناهز 2/3 الفائزين أعيانا جددا على النيابة الانتخابية). (5) عدم مطاوعة اختيارات الناخب الاستباقية التقنية التي وقفت وراء تخفيض العتبة إلى 3% على مستوى الدوائر المحلية؛ حيث البلقنة تراجعت من 18 حزبا ممثلا في مجلس النواب السابق إلى 11 حزبا. (6) بروز مؤشرات على تشكل ثنائية قطبية حادة بمنسوب سياسي متزايد يؤكده بشكل نسقي: - شيوع التصويت المفيد أكثر من غيره: - استقرار المسار السياسي المنبثق على دستور 2011 بحفاظ الحزب الأول (العدالة والتنمية) والثاني (الأصالة والمعاصرة) على أحجام الأصوات المحصل عليها في الانتخابات الجهوية ل 2015، وتحقيق نسبة مشاركة غير ضعيفة (43%)، تقع بين نسبة الأزمة (37%) المسجلة في الانتخابات التشريعية ل2007 ونسبة الانفراج (45%) المسجلة في الانتخابات التشريعية ل2011. استمرار الاحتجاجات الاجتماعية الحدث الثاني: استمرار الاحتجاجات الاجتماعية التلقائية الخارجة عن التأطير السياسي والنقابي التقليدي، وهو ما يؤشر على توتر علاقة المجتمع بمؤسسات الدولة وافتقاد هذه العلاقة إلى التوازن المطلوب عادة لتأمين ما يسمى في اصطلاح "سوسيولوجية الحركات الاجتماعية" بالرضى بالعيش المشترك. فبحكم التطور التاريخي الذي عرفته ثقافة المواطنة والوعي بالحقوق خلال العشر سنوات الأخيرة، ابتداء من خطاب الملك حول المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في 18 ماي 2005، والذي اعتبر فيه "الكرامة" قيمة مركزية لإنتاج الأثر الاجتماعي لسياسة عمومية أفقية ترنو إلى تجاوز العجز البنيوي للسياسات الاجتماعية القطاعية، ومرورا بالحراك الاجتماعي لبداية 2011 المعروف اختزالا بحركة 20 فبراير، وانتهاء بدستور يوليوز 2011، أصبح المجتمع مهيئا للتعاطي مع مفهوم "الحق في العيش الكريم" ليس كعطية تجود بها السلطة تعبيرا على رضاها عليه، وإنما كواجب على الدولة تأمينه بجميع مؤسساتها لأي مواطن ومواطنة ليس فقط على سبيل المساواة في المعاملة وتكافؤ الفرص، وإنما أيضا على سبيل الإنصاف. فأصبح المواطن مع تقدم الوعي بقيمة "الكرامة"، أكثر تحررا من الخوف في التعامل مع "سلطة القهر المشرعن" الذي تمثله قرارات المصالح العمومية، فأصبح الأهم في تصوره ليس استواء سلوكه مع ما تنص عليه المساطر، وما يفرضه الموقع الاجتماعي "للمؤسسة" من وجاهة وسمو يقتضي احترام وجودها الاعتباري وسط المجتمع بوصفها ذات وظيفة تنظيمية حائزة على الشرعية الملزمة للخضوع والتسليم بأدوارها الضبطية للسلوكات اليومية للأفراد والجماعات. استمرار الاحتجاجات بعد خمس سنوات على الحراك الشعبي لبداية 2011 يعني أن هناك تطورا غير مسبوق في الوعي بالحقوق لدى المواطن العادي أدى إلى بروز دينامية اجتماعية بأبعاد سياسية تتجاوز السقف المتفاوض عليه في مختلف التوافقات المعلنة وغير المعلنة بين الدولة، كمؤسسات مالكة لسلطة القهر المشرع، وبين الأحزاب والنقابات، باعتبار مؤسسات للوساطة السياسية والاجتماعية تقوم بوظائف التمثيل المؤسساتي للمجتمع ومصالحه الاجتماعية، والدفاع عن حرياته وحقوقه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية بشكل يؤمن التعبير عن إرادة "الأمة" في تدبير الشأن العام. ولعل في الاحتجاجات الاجتماعية التي شهدتها سنة 2016 في مجموعة من المدن، في أكتوبر المنصرم، بسبب الاحتجاج على غلاء فاتورات استهلاك الماء والكهرباء، أو بسبب وفاة بائع السمك (محسن فكري) بالحسيمة نتيجة "الحكرة" والمس بكرامته، وإقدام على الأقل ثلاثة أشخاص على إحراق أجسادهم، كحالة "مّي فاتحة" بائعة الفطائر بمكناس التي أقدمت على إحراق جسدها احتجاجا على التعامل السلطوي لرجل السلطة، ما لا ينبغي اجتزاؤها من سياق تحول قيمي عميق يعرفه المجتمع لا تستطيع الدولة، أو لنقل على الأقل، أعوانها من مواكبته والتأقلم معه، بسبب عوامل عدة، نذكر منها على وجه الخصوص، وجود أزمة اجتماعية حادة بسبب البطالة وقلة فرص العمل القار، وعدم قدرة الأعوان العموميين على تجاوز التمثل التقليدي للسلطة، وشيوع الرشوة والابتزاز واستغلال النفوذ. التزامات المغرب المدنية والسياسية الحدث الثالث: تقديم المغرب لتقريره الدوري السادس حول تقدم التزاماته في ما يخص العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية خلال الدورة 118 للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، المنعقدة بجنيف بين 24 أكتوبر و4 نونبر 2016 بعد تأخر دام سبع سنوات. في هذا الصدد، فقد أكد تقرير خبراء اللجنة أن وضعية الحقوق المدنية والسياسية في المغرب ما تزال تشوبها مجموعة من العوائق في ما يتعلق بالملاءمة الناقصة مع مقتضيات العهد الدولي، أو عدم حصانة الحقوق والحريات في بعض المقتضيات الوطنية (الدستورية والقانونية)، وما يرتبط بسلوك الأعوان العموميين وبتعاطيهم مع المقاربة الحقوقية التي تستلزم احترام حقوق الأفراد والجماعة واحترام الحريات في مختلف تدخلاتهم لتنظيم مناحي الحياة العامة وما يرتبط بالقضاء أو بممارسة السلطة وحفظ النظام العام، وما يهم الكفايات المؤسساتية والاجتماعية لبعض السياسات العمومية القطاعية. انحباس مشاورات الحكومة الحدث الرابع: استمرار انحباس المشاورات السياسية الممهدة لتشكيل الحكومة لمدة تزيد على شهرين ونصف، وإن بدا الأمر في أول وهلة على أن المهمة ستكون يسيرة، خصوصا وأن سرعة تكليف الملك لبنكيران برئاسة الحكومة وحرصه على الالتزام بمنطوق الفصل 47 من الدستور واحترام نتائج اقتراع 7 أكتوبر. في هذا السياق، لعل ما يمكن استفادته من هذا الحدث وما ارتبط به من مواقف سياسية، هو أن: (1) أدوار ووظائف أحزاب الحركة الوطنية في المشهد الحزبي المغربي ما تزال قائمة، وإن اختلف السياق واللاعبون، كما أن مهام الأحزاب الإدارية هي هي... يبقى فقط حزب العدالة والتنمية هو الجديد الذي يريده جزء يسير من الشعب "الانتخابي" في زمن ما بعد الحراك الديمقراطي رمزا لامتداد معركة التحرير ومحاربة الاستبداد والديمقراطية، فهل يصمد في معركة احترام الإرادة الشعبية؟ سؤال أصبحت الإجابة عنه صعبة بعد كل ما وقع من تعثر في مسار المشاورات الممهدة لتشكيل الحكومة المقبلة، وبعد فشل أحزاب الصف الديمقراطي (أحزاب الكتلة والعدالة والتنمية) في اعتبار نتائج اقتراع 7 أكتوبر الأخير فرصة لإحياء مشروع الكتلة التاريخية كأرضية نضالية من أجل انتقال ديمقراطي حقيقي. (2) شيئا فشيئا تتأكد فرضية أننا بصدد تحللات متسارعة لأحزاب وبعث جديد لأخرى. ومن المفيد في هذا السياق أن نأخذ تصريح أخنوش، عقب لقاء الثلاثاء المنصرم مع رئيس الحكومة المكلف، محمل الجد حينما علق سلبا على حزب الاستقلال بنعت قيادته الحالية بالحرايفية ديال السياسة... هذا التصريح يؤكد أن هناك في الدولة وفي الأحزاب من يحتوي وظيفة السياسي في مهام سياقية مؤقتة تابعة تقتضيها حاجات التأثيث السياسي للمشهد الحزبي؛ لأن أي احتراف للسياسة إنذار بخطر زوال التفوق السلطوي للخبرة الإدارية للمخزن ومصالح القوى المالية المرتبطة به... أما قبول الدولة اليوم بحزب المناضلين في هذه اللحظة فهو مؤانسة دون طيب خاطر بممثلي "العامة" في ممارسة السلطة على سبيل المهادنة المفترضة لجبر خواطر الجمهور المتعطش للحرية. (3) ليس من السهل ولا من الاعتيادي ما وقع السبت 24 دجنبر؛ حيث انتقل مستشاران للملك إلى مقر رئاسة الحكومة لإبلاغ بنكيران رسالة الملك بحرصه على تشكيل الحكومة في أقرب الآجال ... لعل في هذه الرسالة ما يؤكد أن النسق السياسي المغربي يعرف تحولا عميقا وأن موازين القوى لم تعد تشتغل بالطريقة نفسها التي جرت عليها العادة في تشكيل الحكومات السابقة... هناك فرق، وما طريقة تكييف تدخل الملك مع الفقرة الأولى من الفصل 42 من الدستور إلا دليل على أننا بصدد تغير جوهري في منطق إدارة المصالح المرتبطة بممارسة الحكم بالمغرب... فاليوم يؤثث المشهد السياسي مشروعان يتعايشان ليس فحسب برغبة الأقوى تاريخيا ووجاهة في النظام الدستوري للمملكة، بل بضرورة يفرضها التسليم بواقع الحال الذي من مستلزماته استحضار الشرعية الانتخابية. (4) هناك منطقان على الأقل في فهم ما يجري من انحباس في المشاورات الممهدة لتشكيل الحكومة: منطق حزب أو أحزاب المناضلين الذي يفكر باللغة المعيارية لتعليل عدم الاضطرار إلى اللجوء إلى تدخل الملك لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء الحزبيين المعنيين بالأمر، ومنطلق حزب أو إتلاف أحزاب الأعيان والقوى الاقتصادية والمالية المتغلغلين في النسق السياسي للدولة الذين يفكرون بلغة مستوحاة من قاموس تدبير الخلاف وتنازع المصالح لتعليل فرضية وجوب استمرار العرف التوافقي المبني على ثقافة السلطوية المصلحية كواقع محتوم على أي اتفاق سياسي بين الأحزاب... بين هذين المنطقين، يوجد شرخ ثقافي وقيمي يصعب حل "إمساك العصى من الوسط" إلا إذا ما حصل ما يسمى في قاموس التدبير بالإيذان بالحركة من قبل رأس القيادة le Top management. * أستاذ السوسيولوجيا السياسية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، جامعة الحسن الثاني- الدار البيضاء