تعيش المنظومة التربوية المغربية خلال الفترة الراهنة شنآنا وتصدعا غير مسبوق في تاريخها بسبب التوظيف الممنهج السيء والسمج للمناهج التربوية والتعليمية والبيداغوجية في إذكاء نار الصراع بين تياري الحداثة والمحافظة /"الأخونة". فمباشرة بعد الخروج السيء لكتب مادة التربية الإسلامية، التي تم تشذيبها وتهذيبها من أي زيغ أو انحراف قد ينتصر للتزمت والتطرف والرجعية.. تأكد أنه في ثنايا هاته الكتب لازال يعشش نفسا وهابيا غاية في الحقد على كل ما هو فلسفي تنويري حداثي عقلاني، خاصة من خلال كتاب مادة "التربية الإسلامية" للسنة الأولى بكالوريا، -الذي جاء حافلا بنصوص لفقهاء وعلماء الشريعة الذين أشهروا تاريخيا عداءهم للفلسفة والعقل- وبالتحديد في درس الإيمان والفلسفة الذي تم من خلاله الانتصار للمتعصب السلفي الأصولي ابن تيمية الذي يرى أن الفلسفة على نقيض تام واختلاف مع الشريعة، وأكثر من ذلك فقد ذهب بعيدا في تكفيره للفلاسفة، وعلى رأسهم أرسطو من خلال اتهام مخجل لهذا الأخير، بالكفر وعبادة الأصنام، واتهم بالزندقة المروجين للمنطق الأرسطي – بالرغم من أن أرسطو كان من الموحدين والمنزهين لصفات الخالق وأول من وضع البرهان لإثبات وجود الله-. ابن تيمية –هذا- الذي لا يزال فكره وعقيدته الشاذة ومنذ ثمانية قرون على وفاته سبب ويلات المسلمين ومكمن تطاحنهم وتشرذمهم بسبب غلوه وغلو عقيدة أتباعه من التكفيريين المتنطعين الاستئصاليين من نحل القاعدة وداعش وفلول "الإخوان" و"بوكو حرام" وغيرهم كثير من الفئات المضللة في تاريخ الإسلام.. والتي جرّت على المسلمين عزلتهم وتقوقعهم الفكري وانحصارهم بعيدا عن الشعوب والأمم... يأتي هذا الصراع في إطار سلسلة تاريخية موصولة من محن المحاصرة والتضييق على الفلسفة وشيطنتها طيلة العقود الأخيرة وما تبع ذلك من دمجها وتذويبها في مادة الفكر الإسلامي، لإفراغها من شحنتها وتوهجها وتألقها العقلاني، مما فسح المجال عميقا "للأخونة" التي أصبحت ضاربة أطنابها في كل مناحي الحياة المغربية.. مما عمّق النظرة المستريبة لكل ما يرتبط بالثقافة والفن وذلك بإخضاعهما لرقابة الدين وفق ثنائية الفضيلة والرذيلة والنظيف والعفن.... وما يستتبع ذلك من نبذ وتحقير. ولعل هذا الصراع بين أنصار الفلسفة وأنصار الشريعة له جذوره الضاربة في تاريخ هاته الأمة.. والذي تمخضت عنه العديد من الأسئلة الإشكالية في حينه، من ذلك هل الدين يعارض الفلسفة؟ وهل الفلسفة تتناقض مع الدين؟ وكأن الفلسفة جاءت خصيصا لمناكفة الدين ومحاربته.. ولو عدنا إلى المرحلة الحقيقية التي أوصلتنا لهذا الحيص بيص بين الحكمة والشريعة سنجد أن أول من قاد هذا الصراع بعمق وأوقد ناره أبو حامد الغزالي الذي كفر الفلاسفة ' من خلال مصنفيه تهافت الفلاسفة ومقاصد الفلاسفة بسبب مسألة "قدم العالم"، إلى أن جاء شيخ الفلاسفة العقلانيين أبو الوليد ابن رشد فدحض تراهات الغزالي وغيره من خلال مصنفه الشهير "تهافت التهافت" الذي ينتصر للخوض في الفلسفة باعتبارها تساعدنا على التوصل إلى المعرفة الحقيقية التي تكمن وراء الأشياء، انطلاقا من العلم والمعرفة لا الجهل والفتاوى المتزمتة الشاذة.. فالشريعة التي أوجبت النظر بالعقل في الموجودات أوجبت –كذلك- النظر الفلسفي في استعمال البرهان المنطقي لمعرفة الخالق.. فهذا الفيلسوف الكندي يرى في رسالته إلى الخليفة العباسي المعتصم أن الدين لا يخالف الفلسفة بل يعتبرهما شيئا واحدا لأنهما يبحثان معا عن الحقيقة وطريقا واحدا في البرهان.. كما أن الفيلسوف الفارابي حاول التوفيق تطبيقا لهذا المبدأ بين الحقيقة التي جاءت في التفلسف والحقيقة التي جاء بها الوحي.. وفي نفس السياق جسد الفيلسوف ابن طفيل العلاقة بين الدين والفلسفة من خلال قصته الفلسفية الرائعة الشيقة "حي بن يقضان" وغير هاته الأسماء كثير من عباقرة فلاسفة الإسلام ومفكريه المتنورين الذين شكلوا مصدر إثراء واغناء للحضارة الإنسانية... فخلف من بعدهم خلف لم يستوعبوا الفهم السليم للدين الذي لا يخرج في عمومياته وصلبه عن نسق فلسفي إلهي عام، أو ما يسميه الفيلسوف هيجل بالحقيقة الخالدة التي لا يمكن إدراك سموها إلا بالعقل حين يقول: في حقول الدين يمكن للإنسان أن يقطف ثمار الفلسفة.. ليخلص –هيجل- إلى أن أسباب الصراع بين الفلسفة والدين في تاريخ الإنسان يرجع إلى خصوصية المنهج المعتمد في إدراك الموضوع على الرغم من وحدته على "مستوى الماهية". إن تسرب مثل هكذا خطاب مكرس للرتابة المبلدة للحواس في ثنايا الدرس التربوي المغربي –أعتقد جازما- أن خلفية مقيتة تحرك خيوطه بأنامل إيديولوجية رفيعة الغرض منها الإضرار بمبدأ إعمال العقل وقتل وإنهاك ملكة التساؤل والنقد والتضييق على الفلسفة باعتبارها مجرد هرطقة وزندقة وخروج عن الدين.. وهذا ينم عن ذهنية غائلة في التحريم هدفها تكريس النكوص واللا تفكير واللا تأمل وتبييء مناخ معاد لحرية التعبير، وبطبيعة الحال إذا كان الإنسان لا يمكنه أن يصير إنسانا حقا إلا بالتربية، إنه ما تصنع منه التربية على حد قول كانط ولا يمكن أن يحيا إنسانيته في أقصى مداها إلا بممارسة التفلسف، فإن أهمية التربية من أهمية الفلسفة وأهمية الفلسفة من أهمية التربية... ومن تم فإن الحاجة إلى الفلسفة في برامجنا التربوية والتعليمية، أصبحت ضرورة ملحة، لارتباطها بطبيعة وفطرة الإنسان، المبنية على التساؤل فعندما قال "سقراط" مقولته الشهيرة.. "أيها الإنسان أعرف نفسك بنفسك".. كان يقصد أن الإنسان لا يمكنه أن يتعرف على نفسه إلا من خلال الفلسفة، وهي النصيحة التي تلقفها الغرب فأصبحت ما يصطلح عليها بأم العلوم-الفلسفة- ضرورة ملحة في الكليات والجامعات والمعاهد، ولابد أن يدرس الطالب مبادئ علوم الفلسفة وتاريخها وأبرز مفكريها ومدارسها ليوسّع افاقه المعرفية ونظرته للحياة ويحسن التفكير والإنصات والحوار والنقد والتصنيف والتحليل والجدل والتفنيد والإستقصاء والاستجواب... وأعتقد أن مكمن الحلقة المفقودة التي طرحها مفكرو العروبة والإسلام من التنويريين من أمثال محمد عبده وشكيب أرسلان والطهطاوي وغيرهم كثيرمطلع القرن الماضي في سؤالهم لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟ ! يبدأ من هنا، أي من هذا السؤال الإشكالي الأنطولوجي الخطير، من يريد اغتيال العقل يريد ضمنيا اغتيال الفلسفة وما يستتبع ذلك من دعم قوى الاستبداد والتخلف والإرهاب والدجل والنكوص والإصطفاف مع الرجعية والظلامية والاتجاهات الخوارجية المناقضة للفهم السليم للدين والخارجة عن نسقه العام !! *شاعر/عضو اتحاد كتاب المغرب