لا يستطيع أحد أن يجزم ما إذا كانت سعيدة بالفعل، ولكن هذه المرأة تؤكد أنها كذلك. في أواخر الأربعينات من العمر.. مازالت تحتفظ بمسحة جمال. لَم يسبق لها الزواج وهي تؤكد أنها زاهدة فيه. تركَت، بعد وفاة والديها، بيتَ الأسرة التي صارت تتقاسَمه مع شقيقِها، وفضّلت على ذلك السكن في شقة من شُقق السكن الاقتصادي تبعُد عن مقرّ عملها بزمَنٍ لا يقلّ عن ساعتين؛ إحداها تقريبا تقضيها في المشي، وأخرى بين انتظار الحافِلة المهترئة وركوبها. وبين ذهاب وإياب، حوالي أربع ساعات تضيع منها يوميا في التنقل مِن العَمل إلى الشقّة الصغيرة المنعزلة التي اقتنتها بمُدخّرات العمر. وقد كان يمكنها أن توفّر على نفسها كل ذلك بأن تبقى في بيت العائلة الكبير، بين جيرانها وذكرياتها.. فلا تحتاج لتكون في مقرّ عملها غير دقائق معدودة في اليوم. وجدتُني دون وعي مني أنظر بعين الاتهام لمن يتقاسم معها إرث العائلة: هل اختارت العيش وحدها هربا من شقيق عدائي أحمق يفرض عليها أسلوب حياة معين؟ هل تعمّد إزعاجها حتى يكون البيت له وحده؟ هل له زوجة تسيء معاملتها؟ هل له أطفال يعبثون بغرفتها أثناء غيابها؟ لعلّها في وجودهم لا تستمع بحياتها.. وإن لم يكن للأمر صلة بشقيقها فلمن يكون إذن؟ لم أستطع مقاومة شغفي لمعرفة الإجابة، ليس لأني فضولية، ولكن لأني ابنة بيئتي، وأعرف أنّ المرأة في المجتمع الذي أقيم بين أحضانه، تحتاج إرادة قوية جدا وشَجاعة لا تُضاهى حتى تستطيع التحرر من إطار الأهل والعائلة.. فهي (المرأة) لا تعيش وحدها إلا إذا كان ذلك من مُتطلّبات العَمل أو الدراسة. وإلا فإنها تسكُن دائما مع أقاربها: أب وأم، أشقاء، زوج، أبناء.. هذه السيدة فعلت العكس تماما. انتهزتُ أول فرصة سانحة وسألتها. "لا أعاني من أي مشاكل مع أخي، على العكس من ذلك؛ ما أريده، في الغالب، هو ما يكون.. وشقيقي لا زوجة له ولا أبناء. بعد أن رحلتُ من البيت صار يعيش وحيدا.." وتستطرِد: "أنا أهنَأُ عيشاً لوحدي، أُشكِّل حياتي كما أريد، لا أحد يُملي علي طلباتِه، لا أدينُ بشيءٍ لأحد.. آكُل ما أشتهي، كما أشتهي. أنام وأسهَر كما يحلو لي، لا أحد يُسمعني تعليقا، ولا أحد يمنّ علي، أتمتع بالهدوء المُطلق، إني أعيش كأميرة كأميرة!" ألا تفكرين في الزواج؟ في هذا العمر؟ ! لا. لقد اعتدت نمطا محددا من العيش، لن أُغيِّره الآن، لا مجال لذلك. ثم تحدثت عن العنوسة وعن كلام الناس الذي لا تعيره اهتماما، وعن راحتها التي هي أهمّ من كل شيء. كانت تتحدث، وتجيب عن أسئلتي –التي حاولتُ ما أمكن أن أرفقها بين الفينة والأخرى بتعليق حتى لا أبدو كما لو أني أُحقِّق معها- وهي تُطلق ضحكات متواصلة كأنها تريد أن تؤكِّد لي بالمَلموس، أنها مُرتاحة تماما. وخلال ذلك كنت أحاول التقاط شذرات من كلامها وإعادة تجميعه كَلَوحة البازل. هذه المرأة، بتركها بيت العائلة الذي يوجد في وسط المدينة، وقدومها للعيش في منطقة نائية أغلب سكانها من الموظفين الذين يخرجون صباحا ولا يعودون إلا بعد أن تغيب الشمس مُنهكين صامتين لا يُكلمون أحدا ولا تجمَع بينهم غير تحيات عابرة تلّف الألسنة دون أن تُلاقي بين العيون.. قدومها للعيش في منطقة بعيدة عن المدينة ومرافقها، منطقة أغلب سكانها يمتلكون سيارات تُسهّل مرورهم إلى قلب المدينة النابض، هي التي لا تزال تستعمل الحافلة.. إنها لا تفعل هذا بحثا عن الهدوء فقط. يعيش الإنسان الكثير مِن المواقف المُوجعة، لكنه لا يَجرؤ دائما على التصريح بها. أن تبدو للآخر ضعيفا.. كأن تبدو له عاريا، الوضع محرج في الحالتين، والحرج يُفاقِم من حدّة الوجع ولا يخفّف منه. لذلك أعتقد أنّ محدثتي لم تكن تستطيع أبدا أن تخبرني أنها قد اختارت، بمحض إرادتها، هذه العزلة الإجبارية فِرارا مِن شيء لم تعُد تطيقه.. " الناس ينظرون إلى المرأة التي اختارت عدم الزواج نظرة امتهان واحتقار، ولا يأخذون العبر من حَكايا أولئك النسوة –وما أكثرهن- اللواتي تزوجن وعِشن أسوأ تجارب الحياة، فكان نصيبهن إما الاستمرار في خوض حياة ليست كالحياة، أو الطلاق وتحمّل نظرات الآخرين التي تتراوح بين شفقةٍ واستِهجان. لقد حاولتُ دونما مرة أن أتعرّف على رجل صالح بغرض الزواج، لكن كان يتبيّن لي بعد كل لِقاء أنّ أولئك الذين أُقابِلهم يبحثون عن امرأة موظّفة تحمِل عنهم جانبا من أعبائهم المادية، أكثر مما يبحثون عن إنسانة من لحم ومشاعر تشاركهم الحياة ذاتها.. " قالت محدثتي. وبدا لي أنّ تِكرار ظهور نفس النَمط من الرجال في حياتها قد جعلها تنفُر من الزواج، الذي لا ترى نفسها فيه أفضل مِن بقرة حلوب، كلّ ما فيها صالح للاستغلال: نسلُها، حليبها، لحمها.. وربما يكون شعورها بغروب رونق الشباب وترهّل الجسد، هو ما جعلها على قناعة تامة بأنّ ما من سبب يمكن أن يجعل الرجال راغبين فيها غير مُرتَّبها، وشقتها، ونصيبها من بيت العائلة، فهذه الظاهرة المُتمثلّة في وقوع الشخص (ذكرا أو أنثى) في نفس النَمط من الشُركاء العاطفيين، يرى علماءُ النفس أنّها لا تحدث عن طريق الصدفة، ولكنّ أُسلوب تفكير الشخص: ظروفه وتجاربه السابقة.. يجعله يختار، عن طريق اللاوعي، أشخاصاً بسِماتٍ نفسية مُحدّدة. محاوِرتي تدرك أيضا أنّه ليس بمقدورها إنجاب أطفال، لذلك لا تفهم، بحسب قولها، السبب الذي يجعلها تجلُب رجلا للعيش معها (هي قالت أنّها تَجلبه !) حتى تخدِمه، وتسمَح له بمُشاركة مِساحتها الخاصة ثم التأمُّر عليها أيضا ! تقول: "لدي من المال ما يَكفي لقَهر تقلُّب الزمن.. فلماذا أتزوج إذن؟" أجبتها بسؤال: هل أنت سعيدة هكذا؟ سعيدة جدا إذن هذا خير وبركة.. كانت تتحدث وتتحدث، وكانت تقول كلاما بين السطور..كلاما لم تبح به.. لكنه كان ينضح من إيماءاتها ونبرة صوتها.. إنها باتخاذها قرارَ العيش وحيدة، تعرف أنها معرّضة لكل أشكال المخاطر، وأبسَطها أن تُلمّ بها بعض الحمى، فلا تجد من بين الأهل والأقارب، أو الجيران (بما أنها لا تُحادث أحدا منهم) مَن يضع على جَبينها قِربة ماء مُثلجّ، إنها لا تعزل الزوج فقط مِن حياتها، ولكن كلّ المعارف.. كأنّها سئِمت نظرات الناس إليها لأنّها لم تتزوج، سئمت انتقاداتهم ونصائحهم وتوجيهاتهم وخلطاتهم ووصفاتهم.. هي لم تكن على استعداد لأن تقبل بأي زوج حتى تُرضي أولئك المحيطين بها، فقد كانت تبحث عن رجل بمواصفات معينة، وبما أنّها لم تتعثَّر به في الطريق، فقد قررت أن تفرّ من بيت العائلة، وما يحيط به من جيران ومن يزورونه مِن معارف.. اختارت أن تبتَعد عن كل الآخرين الذين تقول لها نظراتهم بلا هوادة سواء قصدوا ذلك أم لا بأنها "فاشلة" وإن تعلَّمت وحصَلت على وظيفة ! لقد قرّرت أن تمسَحهم كلَّهم مِن حياتها. ويكفيها مِن البَشر زُملاء العَمل، ورُكاب الحافلة، والباعة الذين تتبضّع من عندهم ! لقد كان بإمكانها أن تبقى وتواجه، لكنها مِن الناس الذين لا يُحبون المواجهة، ويفضلون العيش في اطمئنان بعيدا عن مُنغّصات العيش التي قد يكون الآخر أو الجَحيم، على رأي جان بول سارتر، هو الحامِل لها ! في ما فعلته هذه المرأةُ الوحيدة، والمُنكسِرة جدا ردٌّ على ذلك التفكير النمطي الذي لا ينظر إلى المرأة إلا باعتبارها ماكينة للزواج والإنجاب، ثم تربية الأطفال.. حيث يتعين على المرأة أن تعيش وفق هذا النمط في قلق دائم: فهي في قلق مِن أن لا تتزوج، وبعدَه في قلق من أن لا تُنجب، وقبله في قلق من أن لا تستطيع تحقيق ذاتها.. حياتُها قَلقٌ في قلقٍ.حتى إذا ما حُرمت إحدى هذه النعم، اعتَبرت نفسَها امرأةً عديمة الجدوى. كأن الله ما خلقها إلا لتُحافظ على النَّسل شأنها في ذلك شأن بقية الكائنات الحية التي هي دون الإنسان. لا أعرف إن كانَت مُحاوِرتي سعيدةً بالفعل أم تُخفي شجناً لا تُفصح عنه.. لكنها امرأةٌ شجاعة، وإن فرَّت ولَم تواجه، أليس بعض الفرار شجاعة؟ قلتُ لها في نهاية لقائنا إنّ الناس يعتقدون أنّنا؛ رجالا ونساء، يجب نعيش لنسلُك سبيلا محدّداً : ندرس، نشتغل، نتزوج، ننجب.. إنهم لا يفكرون أبدا أنّ الغرض الأسمى من وجودنا على هذه الأرض هو أن نكون سُعداء. قالت وعيناها تلمعان وهي تشدّ على يدي بحرارة: "نعم، أن نكون سعداء ! هو ذاك تماما !" تركتُها وأنا أفكر في أنّ هذه الحياة نعمةٌ وُهِبناها دون أن نعرِف متى ستُسلَب منا بالتحديد، لذلك فإن أقلّ ما يمكننا فعله، هو أن نعيشها على طريقتنا وبالصيغة التي نريدها نحن.. وفق نموذجنا نحن.. لا أن نكون قوالب جاهزة لما اتخذه غيرنا.. أن تعثُر على نفسك، وأن تكون أنت.. هذه هي السعادة الحَقّة! [email protected]