حركية مُتسارعة متفاعلة تؤثر وتتأثر، ولا تعترف بالسُكون أو الاستكانة؛ كهُدنة عابرة تكاد تنقلب إلى حرب، أحد طرفيْها سياسي من جهة، ومثقف ومفكر من جهة ثانية، أما موضوع السجال فهو التوزيع العادل للسلطة! تلك بعض أوصاف طبيعة علاقة العلوم الإنسانية والاجتماعية بالعلوم السياسية والممارسة السياسية، وما نتج عن ذلك من إيديولوجيات فلسفية وفكرية وسياسية مختلفة من أجل مجتمع عادل ومُتكافئ الفرص، ومبني على مبدأ ما لقيْصر لقيْصر... لذلك نشهد بعد نهاية كل حرب أو نزاع إقليمي أو دولي تبني "سلة تدابير" جديدة لاحتواء انتظارات مجتمعية وفكرية وسياسية تتطلبها المرحلة، ويلعب فيها المثقف أو المفكر دورا كبيرا من خلال إدارة نقاش عمومي كثيرا ما يتخذ من الجرأة والعقلانية أساسا لكل المرتكزات الإيديولوجية. سنة 2016 وما طبعها من تطورات على الساحة السياسية، وكذا الفاعلين السياسيين، جعلتنا نعيشُها بكل انفعالات الدهشة أحيانا، والتضامن والنقد الذاتي أحيانا أخرى، وبكثير من التأمل والتفكير. لم تكن سنة 2016 نقطة نهاية لتداعيات ما سُمي "الربيع العربي"، وما خلفه من مآس إنسانية، من قتل ودمار وتهجير في أكثر من بُقعة في الوطن العربي، بل فتحت قوسا جديدا للتشتت والانقسام والتيه الإيديولوجي والطائفي، وعودة لُغة الانقلابات العسكرية في أكثر من بلد. لم تكن سنة 2016 عُنوانا لنهاية تداعيات الأزمة الاقتصادية وما رافقها من سياسة التقشف وموجات غير مسبوقة للجُوء، هربا من الحرب والجفاف والعنف نحو أوروبا، بحثا عن مكان آمن وفرصة للعيش الكريم، وكانت مناسبة مُربحة لتُجار البشر وقناصي ضحايا الإرهاب الذي أصاب قلب أوروبا في أكثر من مناسبة خلال هذه السنة، سواء في باريس أو نيس أو بروكسيل أو أنقرة أو إسطنبول أو القاهرة مؤخرا. سنة التحولات السياسية الكبرى في أوروبا كانت 2016 سنة المواعيد والتمارين الديمقراطية بأوروبا، وعلامة دالة على أن هناك ما يُشبه النار تحت الرماد، ساعد في إشعالها كُتاب وفلاسفة وإعلاميون؛ وهو وضْعٌ استغله سياسيو أحزاب اليمين واليمين المتطرف للتمدد في صفوف الطبقة الوسطى والطلبة والعاطلين في أوروبا بشكل غير مسبوق.. أضف إلى ذلك إصلاحات دستورية وإدارية وقطاعية لم تُراع الجانب الاجتماعي، فأخرجتْ الأوروبيين إلى الساحات العمومية للتظاهر والاحتجاج ضد قانون الشغل وسياسات التقشف والإرهاب… في فرنسا وإيطاليا واليونان وإسبانيا وانجلترا وغيرها. 2016 كانت أيضا سنة ضرب فيها الإرهاب الأعمى بقوة، وتمددت شعارات أحزاب اليمين مُقابل تراجع في شعبية أحزاب اليسار التي خيبت آمال مناصريها، وفشلت في ابتكار آليات للخروج من الأزمة الاقتصادية. هكذا ضرب اليمين الشعبوي بقوة كل المعاقل الانتخابية لليسار العاجز عن تحقيق انتظارات ناخبيه؛ وبكل مكر سياسي زادت أحزاب اليمين المتطرف من جرعة الخوف من الإسلام والهجرة والإرهاب، وقدمت في المقابل وصفة الهوية الوطنية ومصلحة أبناء الوطن أولا وأخيرا! وبهذا الشكل سقط تباعا كل من دافيد كامرون، بعد نتائج عكسية لاستفتاء من اقتراحه هو، لخروج أو بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي في 23 يونيو 2016، وسقط ماتيو رينزي أيضا بعد نتائج عكسية لاستفتاء من اقتراحه هو لتعديل دستوري للفصل الخامس وإلغاء الغرفة الثانية (مجلس الشيوخ الإيطالي) يوم 4 دجنبر 2016 …! وسيُغادر الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بعد نهاية ولايته الرئاسية. وبالطريقة نفسها سيُغادر الرئيس الأمريكي باراك أوباما البيت الأبيض بعد نهاية ولايتيْه الرئاسيتيْن. في المقابل ارتفعت أسْهم اليمين في بريطانيا التي تنتظر قرار المحكمة في نهاية يناير 2017 بخصوص إجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي. وأيضا كل مؤشرات التنافس الرئاسي بفرنسا لسنة 2017 تذهب في اتجاه انحصاره بين اليمين واليمين المتطرف! في إسبانيا، وبعد إعادة الانتخابات التشريعية مرتيْن دون تحقيق أغلبية مريحة، وبعد شبه شلل سياسي دام حوالي 10 أشهر، خرج تحالف حكومي بزعامة ماريانو راخوي عن اليمين، واستقال بيدرو سانشيز، زعيم الحزب الاشتراكي، وتراجعت شعبية الحركات الاحتجاجية الممثلة في حزب بوديموس. وبصعوبة بالغة استطاع فان دير بيلين، مُمثل حزب الخضْر بالنمسا، يوم 4 دجنبر كسب الانتخابات الرئاسية المعادة بعد إلغاء انتخابات ماي الماضي من طرف المحكمة لخروقات في مسطرة التصويت، بعدما كان نوربرت هُوفر، زعيم اليمين المتطرف، قريبا جدا من كرسي الرئاسة. أما في ألمانيا فاستغلت أحزاب اليمين والحركات الاحتجاجية، كبيغيدا مثلا، سياسة المستشارة أنجيلا ميركل المنفتحة على الهجرة واللجوء واعتبارها قيمة مضافة لألمانيا. وركبت هذه التيارات على الأحداث الإرهابية بكل من باريس وبروكسيل ونيس، وأخيرا حادث دهس شاحنة لسوق ببرلين يوم 19 دجنبر 2016، مخلفا 12 قتيلا و48 جريحا. بمكان الحادث أشعلت الشموع ونثرت الورود، وصرحت المستشارة ميركل: "لا نريد العيش رهينة الخوف والألم، سنجد القوة للعيش كما نحب في ألمانيا، أحرارا، معا ومنفتحين...."؛ لتنادي أحزاب اليمين المتطرف بتحصين ألمانيا من المهاجرين ومن الإسلام خصوصا. وضعٌ سياسي وانتخابي جعل من إعادة الثقة في السيدة ميركل للتقدم للانتخابات التشريعية للمرة الرابعة ضمانة لمواجهة تمدُد اليمين ولوضع حد لمفاجآت اليمين، وخاصة حزب البديل من أجل ألمانيا خلال الانتخابات التشريعية لسنة 2017. وفي فرنسا، وتحت وقع ضربات الإرهاب والأزمة الاقتصادية وسياسة التقشف التي نهجتها حكومة هولاند الاشتراكية، تمت تمهيديات لاستعراض قوة اليمين في نونبر 2016، أفرزت فوز فرانسوا فيون ونهاية المسيرة السياسية لساركوزي، في انتظار تمهيديات اليسار في يناير 2017، ثم الرئاسيات في أبريل 2017، إذ يُنتظر دور ثان بين فرانسوا فيون ومارين لوبين في مباراة انتخابية حصرية بين اليمين واليمين المتطرف! لقد زادت سنة 2016 المشهد السياسي ضبابية أكثر في علاقته مع الإديولوجيات والمرجعيات السياسية والاقتصادية، إذ لم يعد اليسار خالصا ولا اليمين خالصا، بل حتى الوسط تماهى مع المتطرف، ما يجعل كل الاحتمالات والتحالفات مفتوحة في انتخابات سنة 2017، بدءا بانتخابات هولندا في مارس 2017 وتطلع حزب الحرية لزعيمه المتطرف خيرت فيلدرز، وأيضا انتخابات فرنسا في أبريل وماي من السنة نفسها، وتطلع مارين لوبين المتطرفة لتكون أول سيدة لقصر الإيليزي في تاريخ فرنسا، ثم تشريعيات ألمانيا وتطلع حزب البديل من أجل ألمانيا الرافض لاستقبال المهاجرين والطامح إلى تسيير أقوى اقتصاد في أوروبا. ولأن الشيطان يسكن في التفاصيل، فإن الممارسة السياسية أبانت ثغرات حاول كل تيار إصلاحها عبر آليات جديدة، كالديمقراطية التشاركية أو الديمقراطية المباشرة؛ أو عبْر تبني خيارات جديدة، كاليسار الليبرالي أو الطريق الثالث لصاحبه طوني بلير، الذي استلهمه من عالم الاجتماع البريطاني مايكل يُونْغ، أي ما يُعرف ب"الاسْتحقاقراطية" أوالميريتُقراطية في كتابه "صعود الاستحقاقراطية سنة 1958". سنة أخرى من المفاجآت اللاتينية وفي البرازيل، عزل مجلس الشيوخ في غشت 2016 السيدة ديلْما روسيلف، الرئيسة المنتخبة ديمقراطيا، بتهمة تزوير تقارير مالية من أجل تسهيل إعادة انتخابها؛ وهو العزل الذي اعتبره العديد من المراقبين بمثابة "انقلاب برلماني"، وذهبوا إلى القول إن أغلب من صوت بعزلها في مجلس الشيوخ متهمون في قضايا فساد ورشاوى… ومن بين أبرز الأحداث على الصعيد الدولي في أمريكا اللاتينية سنة 2016 عودة العلاقات الدبلوماسية بين كوبا والولايات المتحدة بعد 54 سنة من الحصار والعقوبات الاقتصادية؛ إذ سنشهد في مارس الماضي المصافحة التاريخية بين أوباما وراوول كاسترو في هافانا، عاصمة كوبا، وبداية صفحة جديدة بين البلديْن. وفي هذا السياق تصر سنة 2016 أن تكون أكثر تميُزا، وأكثر استفزازا، وأكثر إثارة من خلال عدد من الأحداث والوقائع. فهل وفاة فيديل كاسترو في نونبر 2016 مثلا، وهو المُعْتزل للسياسة منذ مدة طويلة، تصلح أن تكون مقدمة لسنة 2017 ساخنة حاملة لمنظومة عالمية جديدة؟ وهل بموته كآخر "حارس وفي" للمعسكر الاشتراكي، نقول مرحبا لليمين الشعبوي وليسار الكافيار؟ لكن مهلا، فمن جهة أخرى، لا يجب علينا الانسياق التام وراء كل التأويلات والتنبؤات بنهاية هذا المعسكر أو ذاك، فعملاق المسرح الأمريكي آرثر ميلير مثلا، وهو المعروف بأسلوبه الواقعي / السيكولوجي، أصدر سنة 1949 مسرحيته الشهيرة "نهاية تاجر متجول"، ينتقد فيها بحدة الحُلم الأمريكي بكل ما يحمله من حريات الاستهلاك والإنتاج والرأي والتعبير وحقوق الإنسان، ورغم ذلك ظل الحُلم الأمريكي يسكن وجدان الملايين في العالم! تقوية القطب الروسي عرفت روسيا في شتنبر 2016 انتخابات مجلس الدوما التي اكتسبت أهميتها في إجرائها في مناخ إقليمي ودولي مختلف عن سابقه، كما أنها تُعد أول انتخابات بعد رئاسيات 2012 التي قادت فلادمير بوتين إلى الكريملين. وقد استطاع حزب روسيا الموحدة الفوز بأغلبية مريحة في مجلس الدوما أو الغرفة السفلى للبرلمان الروسي، ما يعني إعطاء المزيد من القوة للرئيس بوتين وانتصارا لسياسته الخارجية، سواء في أوكرانيا أو سوريا، في انتظار رئاسيات 2018 وسط ترقب لمشاركته فيها من عدمها. لقد شهدت سنة 2016 العودة القوية لروسيا بوتين، كفاعل جيوستراتيجي كبير، وعززت دورها في إدارة أزمات دولية، كسوريا وجزر القرم بأوكرانيا، وإعادة رسم خريطة تحالفات اقتصادية وعسكرية جديدة. وفي المقابل عرفت سنة 2016 تراجعا أمريكيا على مستوى التأثير الدولي، وهو ما ينتظره المواطن الأمريكي من دونالد ترامب الرئيس الجديد ... لكن حادث مقتل كارلوف أندريي، السفير الروسي بالعاصمة التركية أنقرة يوم 19 دجنبر 2016 يحمل أكثر من دلالة (حادث اغتيال)، نظرا للدور الكبير الذي لعبه في إعادة الدفء إلى العلاقات الروسية / التركية، وأيضا تقدم حلف روسيا في أزمة سوريا وسقوط مدينة حلب. كما أن الاغتيال والاختراق الأمني كان الهدف منه هو إعادة علاقات بوتين وأردوغان إلى مرحلة الصفر، والدفع بالمنطقة إلى المزيد من التصعيد والمزيد من الاشتعال الذي يخلف ضحايا أبرياء وتهجيرا للأوطان...! غير بعيد عن روسيا، فاز الجنرال رومين راديف (53 سنة) القريب من سياسة بوتين يوم 13 نونبر 2016 بنسبة 59 في المائة مقابل 37 في المائة لمنافسته السيدة تْسيتسكا تشاسيفا، رئيسة البرلمان البلغاري، في الدور الثاني في رئاسيات بلغاريا، وهي الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي منذ 2007؛ وهي انتخابات أظهرت أن عقلية ووجدان الشعب البلغاري لازالت خاضعة للتأثير الروسي بالمقارنة مع تأثير دول الاتحاد الأوروبي... وفي اليوم نفسه، أي 13 نونبر 2016، جرى الدور الثاني من رئاسيات مُولْدافيا، حيث فاز إيغور دودون عن الحزب الاشتراكي، القريب من سياسة بوتين أيضا أمام منافسته السيدة مايا ساندو، المسؤولة السابقة في البنك الدولي وزعيمة حزب الحركة والتضامن بمولدافيا. وقد اقترح دودون إلغاء الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي والدخول في الاتحاد الجمركي الأوروآسيوي الذي يضم كلا من بلاروسيا وروسيا وكازخستان.. كما اقترح إجراء انتخابات تشريعية مبكرة سنة 2017 لتغيير الحكومة الحالية، وتقوية العلاقات مع روسيا ورومانيا وأوكرانيا. وليس فقط الرئيسان الجديدان لكل من بلغاريا ومولدافيا من صرحا بالرغبة في تقوية العلاقات مع بوتين، فلائحة "الغزل السياسي" لفلاديمير بوتين أيضا تضم كلا من مرشح اليمين الفرنسي في رئاسيات 2017 فرانسوا فيون، وأيضا الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، الذي فاجأ بنجاحه كل التنظيمات السياسية والإعلامية والمؤسسات المالية الأمريكية، وسيكون مساندا بأغلبية مريحة للحزب الجمهوري في الكونغريس الأمريكي، وألحق هزيمة غير متوقعة بهيلاري كلينتون، مُدللة الحزب الديمقراطي. كل هذه التفاعلات السياسية والانتخابية سيكون لها حتما أثر على علاقات هذه الدول مع المغرب وعلى مآل العديد من الملفات الكبرى بالبلاد، لذلك مطلوب من الحكومة المغربية القادمة التوفر على أكثر من قراءة للخريطة السياسية الدولية الجديدة، ابتداء من أول شهر من سنة 2017 ...