استضاف مركز مغارب للدراسات في الاجتماع الإنساني مساء بحر الأسبوع الماضي بمقره بالرباط د.عبد الرزاق بلعقروز، أستاذ الفلسفة بجامعة سطيف بالجزائر، ورئيس قسم الفلسفة بنفس الجامعة سابقًا، ورئيس الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، وقد أطر الأستاذ لقاء في موضوع: "أنماط العقلانية: رصد ونقد". استهل د.بلعقروز محاضراته بعرض مجموعة من الإشكالات المتعلقة بالعقلانية، منها: التساؤل عن وظيفة العقل؛ وهل المشكلة في كونه أداة من أدوات الإدراك يختص بها الكائن الإنساني أم المشكل في نمط تطبيقه؟ ثم عرض الأستاذ لبعض الجوانب التاريخية المتعلقة ب"العقلانية"، وأظهر أنه من المتعذر فصل الحداثة عن العقلنة، كما بيّن أن الإشكال في العقلانية مرتبط بالنظر إلى وظيفة العقل؛ إذ تحول النظر إليه من كونه أداة للنظر في المعرفة إلى النظر في نظام الحقيقة، وأبان أن كل مشاريع التحضر والنهضة أضحت تعمل على هذا المفهوم دون وعي إبستمي. كما دعا الأستاذ المحاضر إلى ضرورة فك الارتباط بين العقلانية والكونية؛ وأظهر أن الكونية كما مورست هي كونية بالخط المائل، وذكر بلعقروز أن العقلنة شكلت ضمن الحداثة كرؤية للعالم ولنظام في الوجود، مبرزا أن العقلانية التي تحققت هي عقلانية لها ثلاث صفات: عقلانية منفصلة عن القيم، وعقلانية مرتبطة بإرادة القوة؛ وعقلانية تدمر الخصوصيات الثقافية. ثم عدد ملامح نمط العقلانية الحداثية؛ أما الملمح الأول فهو عقلنة الرؤية إلى العالم؛ إذ إن الرؤية للعالم أداة منتجة لفهم الثقافة، ونتج عن عقلنتها رفض ثنائية الجسد والرؤية، وانقلاب الرؤية إلى الكون، وذلك من خلال تجديد النظر إليه واعتباره مادة تنتظمها قوانين داخلية، وفيها ما يكفي لتفسيرها، ونتج عن ذلك إفراغ العالم من مرجعية الكتب المقدسة، وإحلال نظرية العلم والرصد التجريبي، وإفراغ العالم من مضامين الوحي، والاقتصار على الأدوات الإدراكية العقلية والحسية في مصادر المعرفة. أما الملمح الثاني فهو عقلنة التنظيرات الاجتماعية والسياسية، ومنه عقلنة الدين؛ إذ حل رجال القانون مكان رجال الدين، وقلب وإفراغ المفردات التي كانت تتجذر في المفردات الدينية، واستبدال المؤاخاة باعتبارها مقولة مسيحية بمقولة التضامن، وتحرير الدين من الدلالات الماورائية، والأسس المتعالية، والسعي إلى تأسيس ما سماه روسو بالدين الطبيعي. والملمح الثالث من ملامح العقلنة عقلنة التاريخ، وذلك بالنظر إلى الحركة التاريخية نظرا عقلانيا علميا، واعتبار التاريخ حركة غائية. وبعد هذا التجوال في ملامح العقلنة، انتقل بلعقروز ليعدد مآلاتها ونتائجها، ومنها: نزع القداسة عن المعرفة، واختزال المعرفة في تلبية دوافع القوة والهيمنة، فصارت المعرفة أداة من أدوات غزو الطبيعة والهيمنة، وارتبطت المعرفة بالصراع وإرادات القوى. ومنها أيضا هيمنة العقل الأداتي، واستعماره لمجالات الحياة، وإفراغ الحياة العامة والخاصة من أي مدلولات مرتبطة بالقيمة والمعنى. وبعد ذلك تساءل المحاضر عن الأفق الإنساني البديل، ولماذا المرور إلى العقلانية الغربية؟ وقال المحاضر إن هناك اتجاهات داخل المنظومة الغربية تدعو لتصفية الإنسان من هذه العقلانية، كما عرج بلعقروز على ما وسمه ب"العقلانية ثنائية القطب"، مستندا إلى تنظيرات بيغوفيتش والمسيري وباومن وغيرهم من منتقدي الحداثة الغربية، والانطلاق من الوحي كمصدر من مصادر المعرفة، وإبراز التكامل بين الضمير والطبيعة، والمادة والروح، والعقل والإيمان، والتأكيد على تكامل الملكات الإنسانية.