عشرات السيارات مصطفة في وضعية متأهبة للحركة، بداخلها أشخاص من أعمار مختلفة، يحتسون ما طاب لهم من أصناف الخمور، وبين الفينة والأخرى يرمون القنينات الفارغة من النافذة..يتجمعون في هذه الساحات بشكل مؤقت، قبل أن "تنتبه" السلطات لعددهم الكبير، فتقوم بطردهم، ليبحثوا عن مكان آخر لإتمام الشرب. هي "ساحات عامة للسُّكْر العلني"، توجد في كل مدينة تقريبا، خاصة المُدن الساحلية، حيث يحرص المتعاطون للخمور على ركن سياراتهم في أماكن مطلة على الشاطئ، فتقوم السلطات بطردهم عندما يثيرون انتباهها كثيرا، وتتجاهلهم أحيانا أخرى. في أكادير، تتجمع سيارات كثيرة ب"تالبرجت القديمة"، قرب أقدم مصلى في المدينة، وهو مكان عال يتيح رؤية البحر بشكل جيد، ما يثير الزوار، ويشجع متعاطي المسكرات على القدوم إليه. الأمر نفسه بالنسبة إلى "واد إكم" بين الصخيرات وتمارة، أو "عنق الجمل" قرب المنزه بالرباط.. لكل مدينة مكانها المفتوح الخاص الذي يرتاده هؤلاء المواطنون من أجل احتساء الخمور. "لم يعد أصحاب السيارات من متعاطي الخمور يقصدون تالبرجت القديمة، بعد منعهم من قبل السلطات"، يقول مواطن أكاديري لهسبريس؛ ثم يضيف: "هناك أماكن كثيرة تعرف هذه الظاهرة القديمة بكل مدينة بالمغرب تقريبا، حيث يهرب المستهلكون من غلاء الأثمان في الحانات". "يقصد بعض المُستهلكون بسياراتهم المكان المُسَمّى أفغانستان، أو قرب أكادير أوفلا، ومؤخرا اهتدوا إلى مكان بعيد عن أكادير، يوجد في طريق تادارت بين شجر أركان في طريق جبلية، تبدأ شمال قصبة أكادير أفلا، وعلى بعد منها بأقل من خمس كيلومترات تقريبا". معرفة مسبقة لا أحد يستطيع أن يجزم بأن أصحاب السيارات المعنيين يعرفون بعضهم البعض، وأن رابطا ما يجمعهم غير رغبتهم المشتركة في تناول بعض قناني الجعة أو الخمر، بعيدا عن أعين أسرهم وأعين السلطات التي تُجرّم بيع واستهلاك الخمور بالنسبة للمسلمين؛ إلا أنه لا أحد يستطيع أن يضمن عدم تعارفهم بعد أن "يكرعوا" كل تلك القنينات في المكان نفسه، فتنفتح شهية تبادل الحديث عن الأحوال والمآلات لديهم.. يتجاوز عدد السيارات المائة أحيانا، خاصة في نهايات الأسبوع، إذ يبحث مجموعة من المواطنين عن مكان آمن لاستهلاك النبيذ والخمور، التي يتم شراؤها بشكل علني من محلات تجارية، ليتم قصد هذه الساحات لاستهلاكها في الهواء الطلق، بعيدا عن أعين السلطات، وبعيدا أيضا عن "البارات" التي تفرض أثمانا غالية. زجاج وسياقة بين السيارات يطوف شبان يجمعون القنينات المتناثرة، لإعادة بيعها، لكن يبدو أن القنينات المقذوفة من النوافذ غير صالحة كلها للبيع، فالملاحظ أن هؤلاء الشبان يبحثون عن قنينات خاصة، ويتركون غيرها لعدم وجود مشتر لها؛ وهذا ما يفسر وفرتها في كل أرجاء هذه الساحات، وتناثر قطع الزجاج في كل مكان. كما أن هناك في العديد من تلك الساحات شبان يبيعون السجائر بالتقسيط، وأحيانا حبات "الزريعة والكاوكاو" لمن نسي أن يجلب "القَطعة" معه، حسب توضيحات متحدثين لهسبريس. بعد غروب الشمس يبدأ أصحاب السيارات السكارى في العودة إلى منازلهم، بعد أن تناولوا الكمية التي جلبوها معهم.. يسوقون سياراتهم في حالة سُكْر، عائدين إلى مقرات إقامتهم، وينتشرون في شوارع المدينة مثل السائقين العاديين. تعرف سلطات المدينة هذه الساحات، وتعرف أين كان هؤلاء السائقين، أو يفترض بها أن تعرف، لكنها تتجاهلهم ولو إلى حين، تماما كما تتجاهل أرباب السيارات الذين يركنون سياراتهم قرب "البارات" والفنادق، إلى أن يعودوا إليها في حالة سكر طافح، متجهين نحو مقرات سكناهم. وحدها بعض الحوادث المتفرقة تبين أن السائق كان في حالة سكر، خاصة الحوادث الخطيرة التي ينتج عنها قتلى أو جرحى في حالة خطيرة. أمام أبواب البيوت قد يكون هؤلاء المستهلكين يهربون بعيدا عن أعين الناس ببحثهم عن أماكن بعيدة للسكر، إلا أن هناك فئة أخرى تقصد الأماكن غير المضاءة في الأحياء الشعبية لتناول الخمور ليلا، وتتخلص من القنينات الفارغة في المكان نفسه، دون أي احترام لنظافة الأزقة ولا سلامة المارة من الزجاج المنكسر. "غالبا ما أجد قنينة فارغة من الخمر أو أكثر أمام باب منزلي صباحا كلما أردت الذهاب إلى عملي.. أجد باب منزلي متسخا ببقايا الأطعمة وأعقاب السجائر وقناني الخمر"، يقول مواطن يسكن بحي الوفاق بنسركاو بأكادير، ثم يزيد: "سبق أن قدمت شكايات عديدة في الموضوع دون جدوى، فالمدمنون يبحثون دائما عن الأماكن المظلمة، وللأسف فالزقاق الذي يتواجد فيه بيتي قرب مدرسة الفارابي غير مضاء بشكل جيد، ما يتيح للسكارى مكانا مناسبا للاختباء". ورغم أن القانون المغربي يعاقب بالحبس لمدة تتراوح بين شهر واحد وستة أشهر، وبغرامة يتراوح قدرها بين 150 و500 درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط، كل شخص وجد في حالة سكر في الأزقة أو الطرق أو المقاهي أو الكباريهات أو في أماكن أخرى عمومية، إلا أن المجتمع والسلطة يتكيفان مع وضع هذه الفئة التي تقصد هذه الأمكنة، ويتجاهلانها إلا في حالة الحملات الأمنية والدوريات الموسمية. يذكر أن مستهلكي الخمور بالمغرب من المنتظر أن يضخوا ما يقارب 125 مليار سنتيم في الميزانية العامة، على شكل رسوم على أنواع المشروبات الكحولية والنبيذ وجميع أنواع الجعة، وفق قانون مالية 2017.