يرتبط الحديث عن استقلال القضاء بشكل يكاد يكون ملازما باستقلاله عن التأثير الخارجي، ولذلك تتم المطالبات المهنية والحقوقية بضرورة سن قوانين تسد منافذ التأثير والتدخل في القضاء، وقلما ما يتم الحديث عن الاستقلال الداخلي للقضاء داخل المحاكم. ونقصد، في هذا المقال، بالاستقلال الداخلي للقضاء بالمحاكم الطريقة التي يتم بها تدبير الشؤون الداخلية للمحاكم بما له علاقة بالعمل القضائي وكيفية ‘سناده وتوزيعه بين القضاة أنفسهم، وما إذا كان لذلك تأثير على استقلالية القرار القضائي وسد منافذ توجيهه خارجيا أحيانا باستعمال آليات داخلية. ومناسبة إثارة هذا الموضوع الآن تعود إلى كون المحاكم المغربية على مستوى محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية تعرف في هذه الأيام 1 عقد جمعياتها العامة. فما هي الآليات القانونية الموجودة لدعم الاستقلال الداخلي للقضاء بالمحاكم؟ وكيف يمكن تطويرها؟ أولا: الإطار القانوني الحالي لدعم الاستقلال الداخلي للقضاء بالمحاكم: الإطار القانوني المتاح حاليا في المغرب لدعم خيار الاستقلال الداخلي للقضاء بالمحاكم هو مؤسسة الجمعيات العامة، التي تتكون على مستوى محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية من جميع القضاة وأعضاء النيابة العامة تحت رئاسة المسؤولين القضائيين بهذه المحاكم وبحضور رئيس مصلحة كتابة الضبط؛ وذلك قصد مناقشة القضايا الداخلية للمحاكم وتوزيع الهيئات القضائية والشعب والغرف والأقسام وتحديد أيام وساعات انعقاد الجلسات، فيما لا تعرف محكمة النقض المغربية جمعية عامة مشكلة من جميع المستشارين بها، وإنما فقط جمعية عامة مصغرة تسمى "مكتب" تتكون من الرئيس الأول لمحكمة النقض والوكيل العام للمحكمة نفسها ورؤساء الغرف بها وأقدم محام عام 2 وأقدم مستشار في كل غرفة 3. وبالنظر إلى تاريخ وسياق إقرار هذه المقتضيات القانونية التي تعود إلى سنة 1974، فإنه يمكن أن نحكم عليها من الناحية القانونية الصرفة وبغض النظر عن الممارسات الواقعية بأنها كانت جد متقدمة في تلك الفترة، بحيث مكنت القضاة في المغرب من الآلية القانونية التي تجعلهم يناقشون كل شيء وبإطلاق داخل هذه الجمعيات العامة، بحيث لم تضع أي تقييد. ويتضح ذلك من عبارة "تنظيم المصلحة الداخلية للمحاكم" الواردة في المرسوم المنظم للجمعيات العامة، فضلا عن اختصاص توزيع القضايا والشعب والغرف والأقسام على القضاة وهذه القضايا. وطبعا هذا الإطلاق التشريعي غير المعهود في تحديد اختصاص الجمعيات العامة بالمحاكم منذ سنة 1974 كان يمكن - لو مورس من لدن القضاة- أن يفضى إلى ممارسات متطورة وتراكمات يمكن البناء عليها لتطوير هذه التجربة؛ لكن للأسف من الناحية الواقعية لم يمارس القضاة عبر تاريخ المغرب - مع بعض الاستثناءات- هذه القوة التشريعية المتاحة لهم باتجاه المزيد من دعم الاستقلال الداخلي، ولم يبدأ النقاش حول هذا الموضوع بشكل جماعي إلا مع إنشاء جمعية نادي قضاة المغرب نتيجة الانفراج الذي وقع في حرية التعبير والعمل الجمعوي للقضاة مع دستور 2011 كما هو معلوم، وتم فرض نقاشات في هذا الاتجاه وخاصة مع طرح وزارة العدل والحريات مسودة مشروع التنظيم القضائي للنقاش مع الجمعيات المهنية ومع غيرهم من المهتمين، فأثمر ذلك بعض الإيجابيات لا يمكن نكرانها، من قبيل إقرار جمعية عامة لمحكمة النقض وهو مطلب أصيل لنادي قضاة المغرب وتنظيم الجمعيات العامة من الناحية الشكلية كتنظيم مسألة الاستدعاءات والنصاب القانوني لانعقاد الجمعيات العامة وطريقة اتخاذ القرار داخلها وإضافة اختصاصات لها كانت من صلاحيات جهات أخرى 4. كما أن الإطار القانوني الحالي أيضا يعطي الاختصاص لرؤساء المحاكم لتعيين القضاة للبت في الملفات عند تسجيلها أول مرة من لدن المتقاضين وكذا الإمكانية المعطاة للنيابة بمقتضى القانون لاختيار هيئة الحكم في المجال الجنائي عند تعددهم داخل المحكمة قصد إحالة الملفات التي قررت النيابة العامة تحريك الدعوى العمومية فيها، على أن الاختيار هنا يبقى ضمن الهيئات التي تم تشكيلها وفقا لقرار الجمعية العامة، حيث يبقى للنيابة العامة أن تختار الهيئة في حالة التعدد ولرئيس المحكمة أن يختار القاضي المكلف أو المقرر في الملف كشخص داخل الهيئة 5. باستثناء قضاة التحقيق الذين لا يتم تعيينهم من لدن الجمعية العامة وإنما بقرار لوزير العدل باقتراح من رئيس المحكمة، وإذا وجد أكثر من قاض للتحقيق داخل المحكمة نفسها يبقى للنيابة العامة الحق وفقا لقانون المسطرة الجنائية اختيار أي واحد منهم لتقديم ملتمس إجراء تحقيق في قضية معينة 6. ثانيا: كيف يمكن تطوير تجربة الاستقلال الداخلي للقضاء بالمحاكم: رأينا في النقطة الأولى أن المغرب لا تنقصه الآلية القانونية لدعم الاستقلال الداخلي للقضاء بالمحاكم إلى حد ما؛ لكن السؤال الذي يطرح الآن هو: ما هي الآليات الموازية التي يمكن الاعتماد عليها أولا لدفع القضاة باتجاه ممارستهم لهذه الآليات القانونية المتاحة وعدم تركها للمسؤولين القضائيين لوحدهم داخل المحاكم؟ وثانيا ما هي الميكانيزمات الممكنة للحد من اختصاص رؤساء المحاكم والنيابة العامة في مجال تعيين القضاة أو الهيئات للبت الملفات تفاديا أو دفعا لتهمة الانتقاء في اختيار قاض معين أو هيئة معنية؟ طبعا بالنسبة إلى ممارسة القضاة لاختصاصهم داخل الجمعيات العامة هو مووضع ليس بالأمر الهين لكونه موضوعا متداخلا جدا ترتبط فيه مصالح بعض القضاة بممارسة شعبة معينة والتمسك بها في إطار نوع من التنافس الذي قد يقف عائقا أمام ممارسة القضاة لدورهم داخل الجمعيات العامة بشكل جيد وأحيانا يؤدي الأمر إلى اللجوء إلى الطرق غير اللائقة. كما أن الأمر مرتبط أيضا بارتفاع نسبة الوعي القضائي وعدم إيمان القضاة بدورهم داخل هذه الجمعيات العامة التي يتم تكريس ممارسات معينة داخلها لسنوات إلى أن صار الأمر عاديا ومألوفا. ولمواجهة ذلك، فإن الأمر يحتاج إلى التحسيس الذي يبدأ من مؤسسة التكوين بالمعهد العالي للقضاء الذي ليس عليها واجب التكوين القانوني فقط، وإنما أيضا واجب التوعية وما يمكن أن نطلق عليه التربية على الاستقلالية والتواصل مع المحيط؛ حتى لا تبقى مؤسسة التكوين يتخرج منها قضاة يعرفون القانون فقط بمعزل عن السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية. وبعد الوعي التام بممارسة القضاة لاختصاصاتهم داخل الجمعيات العامة، فإنه يجب الانتقال إلى مرحلة أخرى؛ وهي إقرار ممارسة معقلنة حتى لا تتحول هذه الجمعيات العامة نفسها إلى احتكار للقرار وضرب الهدف القانوني العام من استقلال القضاء، ألا وهو خدمة المتقاضي. وفي هذا الصدد، يمكن اقتراح أن تقوم المحاكم بوضع أنظمة داخلية أو ميثاق أخلاقي لتدبير العمل داخل العجميات العامة باعتماد معايير معينة تستند على الكفاءة والأقدمية وجودة العمل والانضباط المهني في احترام أوقات العمل مثلا وغيره من المعايير التي تكون في صالح العمل القضائي لا غير؛ لأنه في غياب ذلك قد نسقط في ممارسات مسيئة على عمل القضاة داخل الجمعيات العامة 7. وأما عن النقطة الأخيرة المتعلقة باختصاصات رؤساء المحاكم والنيابة العامة في تعيين القضاة للبت في الملفات أو الهيئات القضائية عند تسجيلها أول مرة فإننا نذكر بأن التجارب المتقدمة في العالم تذهب باتجاه البحث عن وسائل وطرق تقلل من تدخل العنصري باستعمال وسائل حديثة مثل الفرز والتوزيع التلقائي إلالكتروني أحيانا للملفات عند تسجيلها بالمحكمة أول مرة. وإذا كان لا بد من التدخل البشري في بعض الأحيان، فإنه يجب أن تتم معياريته إلى الحد الأقصى تخفيفا من آثار التدخل المحتملة. 1- ينص الفصل 6 من المرسوم رقم 498-74-2 وتاريخ 16-07-1974 على كون الجمعيات العامة للمحاكم تنعقد في الخمسة عشر يوما الأولى من شهر دجنبر (الشهر الثاني عشر) من كل سنة (ميلادية). 2- تسمية المحامي العام تطلق على أعضاء النيابة العامة في محكمة النقض. 3- تراجع الفصول 4 و5 و6 من المرسوم رقم 498-74-2 وتاريخ 16-07-1974 المشار إليه قبله. 4 - يراجع مشروع القانون رقم 15-38 المتعلق بالتنظيم القضائي الذي صادقت عليه الغرفة الأولى (مجلس النواب) بالبرلمان المغربي ولا يزال معروضا على الغرفة الثانية (مجلس المستشارين) – متاح على الموقع الإلكتروني لوزارة العدل والحريات على الرابط الآتي : http://www.justice.gov.ma/lg-1/documents/doccat-4.aspx تاريخ الزيارة هو : 09-12-2016 5- هذه الصلاحيات معطاة لرؤساء المحاكم وللنيابة العامة بمقتضى قانوني المسطرة المدنية أو الجنائية، حسب الأحوال؛ غير أن قضاة التحقيق لا يتم تعينهم من لدن الجمعيات العامة وإنما من لدن وزير العدل باقتراح من رؤساء المحاكم. 6- تراجع المادتان 52 و90 من القانون رقم 22-01 المتعلق بالمسطرة الجنائية. وهذه الوضعية منتقدة في المغرب، سواء من حيث تعيين الوزير لقضاة التحقيق أو من حيث منح النيابة العامة حق اختيار قاضي التحقيق عند التعدد. لذلك، فإن التفكير جار لتغييرها في مشاريع القوانين المتعلقة بالمساطر. 7- للتفاصيل حول الجمعيات العامة بالمغرب، تراجع مقالات: عبد اللطيف الشنتوف: دمقرطة المحاكم بالمغرب– مقال منشور بموقع هسبريس الإلكتروني بتاريخ 21-12-2015– وأنس سعدون: الجمعيات العامة للمحاكم بالمغرب الواقع والآفاق- مقال منشور بالموقع نفسه بتاريخ 21-12-2015، وفاتح كمال: الجمعيات العامة كألية جماعية لتسيير المحاكم – مقال منشور بموقع صوت العدالة – يوم 29-11-2016. *دكتور في الحقوق رئيس نادي قضاة المغرب استاذ جامعي زائر