مملكة الجنون/28 كتبت له رسائل عديدة...تبدو في مجملها قصيرة لكنها عميقة...إلا أنه لم يعر لها اهتماما ولم يتأملها كما يجب أن يكون...كانت دعوة صريحة مني له: أن يحلق معي عاليا خارج نطاق العقل المسيطر...وخارج المسارات والحدود...كتبت له الرسائل بالعطف...أحكي فيها عن تطلعاتهم المشروعة وعن جنوني...الذي يشبه إلى حد كبير جنون نيتش وأرتو...اختزلت فيها رغبتي في البناء ورفضي للثراء، إلا أنه قابلني بالجفاء...كان يحاول أن يجد تفسيرا لما أقوله ولم يكلف نفسه عناء في فهم ما لم أقله...اعتبرني شاردة الذهن و كثيرة الفضول...واعتبرها أحلاما محظورة على حافة الجنون... بعثت له رسائل كتبتها بتأن، علها تجد آذانا صاغية لديه...وعله يجد في تلقائيتها معاناة إنسانية...ويجد فيها القوة التي يبحث عنها...لعل بلاغتها تنر له الطريق المظلم ونلتقي يوما على متنها أو بين سطورها...لعل الحروف والفواصل تذكره بأحلام نسي بن الجبل ملامحها...إلا أنها لم تنساه... أعلم كما يعلم أن الرياح لم تلق بنا هنا عبثا...وأن المسارات المتقاطعة، غالبا ما يكون للأقدار فيها رأي آخر...فإذا كنت أرى فيه النموذج المثالي لخلاصي...فهو يرى أنني حملته ما لا طاقة له به...في المقابل هناك من له رأي آخر...بئس الأهداف والمصالح التي تفرق بين الناس...كيف للمركب أن يمضي قدما، والسيد وسط اليم مجردا؟ بين فريق مخلص إلا أنه مغلوب على أمره...ليس أمامه إلا الصبر والانتظار...وفريق يضمر له شرا دفينا حتى لا يعمر طويلا...وفريق متنكر في جلباب المخلص الوفي...يختزل كل الحيل التي لا تقل خطورة عن الثاني...فالوسائل مختلفة والاطاحة به تبقى أمنية مشتركة بين الاثنين...مرة أخرى أجدني عاجزة على حل أبسط معادلة...وأجد نفسي أصيح بأعلى صوتي غاضبة، كيف للعبث ان ينال ممن عمر قرونا...وواجه أطماعا وصعابا؟...كيف له أن يسقط جثة هامدة...ليس بسبب أعداء شقوا الحدود...بل بسبب أبناء ليسوا ببررة؟ ... بعثت له برسائل غير مشفرة...أفصح عنها عن أملي في غد أفضل وفي بناء الحلم المشترك...في أن نزرع ورودا...ونرسم ابتسامات...ونحمي حقوقا...أن نحب كما يحب الأطفال...كان أملي فيه كبيرا...رأيت فيه البطل...تمنيت أن يقام له تمثال...إلا أن طموحه كان أبسط مما كنت أتوقعه...خوفي عليه من فخ الضياع...جعلني أطلب منه ألا تسوقه الضبابية بعيدا عني...وأن يراني بشكل ثاني بالضبط كما أراه...من خلال ذكائه لا من خلال ما يقال عني...فبقدر إيماني واهتمامي به، بقدر تجاهله واهماله لرسائلي...فبالرغم من فصاحة لسانها، وقوة معانيها لم تنل حظها الوافر من الاهتمام...ولم يبالي لما كانت تحمله من معاني...فعوض أن تكون له سندا تنير له الطريق...كان مصيرها سلة المهملات...وكان مصيري الإحباط والنسيان والهامش كما كان دائما...لم يكن يقرأ رسائلي ولم يكن يبالي...لم يكن يراني رغم حجمي...ولم يتغير الوضع بل بقي وفيا لما كان عليه... أعترف أنه في مأزق لا يحسد عليه...شبهته بطارق في مواجهته للمصير: العدو أمامه والبحر من ورائه...أرى أن الفساد أمامه والوطن يناديه...فإما ان يختار له الحياة...وإما أن يضيع عليه فرص الإقلاع...ويصبح مصيره مثل مصير غيره...الضياع... أعترف بانهزامه أمام سلطة الفساد...وانهزامي أمام الذئاب ...أعترف بضعفه وهواني وقلة حيلتي...حتى أصبحنا الحلقة الأضعف في العقد...إلا أنني أومن برب عظيم يأويني...كما أومن بسلطة الشعوب...وقدرتها على إحداث الثورات...فلا تحسبن أن الحياة وجدت لتكون رتيبة...أو يكون فيها الفوز للشر دائما...فأبواب السماوات تبقى مفتوحة لتستقبل رسائلي...وأبواب السجون تفتح لتستقبل هؤلاء... أعترف أنني عاجزة عن جعلك تقرأ رسائلي...وعاجزة أن أقنعك بعدم الرضوخ للثالث...كما أعترف أنني لا أملك حيلة لتقريب وجهات النظر...أو على الأقل تخفيف ما نزل...وأعترف أنني لم أستطع الوصول إلى قلبك أو على الأقل إلى أذنيك...لكنني أستطيع أن أكتب لك كلمات ليست كالكلمات، بدون انقطاع...وأن أجعل منك بطلا في كتاباتي...حتى ولو كان مصيرها سلة المهملات...تأكد أن رسائلي التي تزعجك كثيرا هي أغلى شيء يمكن أن أهديه لك... سيدي الفاضل، تذكر أنك فاني... وحيلهم في زوال...أما رسائلي فستبقى على الدوام...هذيانها تنبعث منها رائحة الأمل...أبعثها لك، ولهم ولغيركم...أبعثها لرب السماء... ولمن لا يهمه أمري...آمل أن أعطي بها معنى للوجود...وحياة لمن لا حظ له في اهتمامك...فسواء قرأت ما أكتبه لك أم لم تقرأه...سيضل قلمي مشاكسا...يحكي قصصا من نبع الواقع...يسيل لها دمع وتلين له قلوب... أخبرتني أهم القصص أن مصيرها كان سلة المهملات...وأن أصدقها نابعة من قلب المعاناة...فكم من رسالة حكم عليها غيابيا بالقصاص...لم يتم الاعتراف بها إلا بعد فوات الأوان...فكم من كتاب نال جائزة بعد رحيل صاحبه...وكم من موقف شجاع تم الاعتراف به متأخرا...فلا تتردد إذن في أن تلقي بكتاباتي في سلة المحذوفات...ولا تقرأها ما دام هناك من سيتذكرني...فلا تبالي لما تحمله من كلمات عتاب...ولا تبالي لما أقوله أو أحكيه ساعة الهذيان...فالجنون يبقى جنون حتى ولو نبع من رسائله الصواب...لا تفرح كثيرا إذا لم تصلك كتاباتي...فهي موجودة بالقوة في سلة المهملات...ولا تنزعج إذا وصلتك رسائلي...فأنت تبقى السيد في بيته...والمقرر في شأنه...والسيف في يده...وسلة المهملات في كل أركانه...فلما الضجر إذن؟...أما أنا فسأبقى بلا بيت يأويني غير جنوني...فليس لدي خيار آخر إلا الانتظار...وإلقاء الرسائل عبر الوات ساب...عفوا عبر النوافذ والشرفات...(يتبع).