حدود التحولات الممكنة في السياسة الخارجية الأمريكية ثمة من يعتقد بأنه رغم فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، فإن لا شيء سوف يتغير في السياسة الخارجية الأمريكية، على اعتبار أن هناك لوبيات وأصحاب مصالح وجهات سيادية، أو ما يصطلح على تسميته بالدولة العميقة، هي التي تحدد السياسات الخارجية الأمريكية بقطع النظر عن من يكون الرئيس، وأن المصالح الأمريكية ثابتة ومحددة ومعروفة، وأن الرئيس المنتخب لا يملك تغيير شيء في هذا المجال. إن الأمر يتعلق بتحليل موغل في التبسيط والتنميط والسطحية، ويعتمد على مقولات قديمة عفى عنها الزمن وتجاوزتها الأحداث، ولم تعد بالتالي تُسعف في فهم السياسة الأمريكية. فرغم الإقرار مُقدما، بأن هنالك بالفعل خطوط عريضة في السياسة الخارجية الأمريكية، فالراجح أن هذه المصالح الكبرى تخضع لتكييف واسع من طرف الرئيس المنتخب الذي يبقى له هامش واسع للفعل والتأثير في السياسة العامة للبلاد. فهذا على الأقل ما يمكن استخلاصه عند الرجوع لسياسات الرؤساء الأمريكيين السابقين، مع استحضار عامل مهم يقع التغافل عنه، وهو تأثير تباين سياسات الحزبين الجمهوري والديمقراطي في التعاطي مع السياسات الخارجية للبلاد، فالجمهوريون يركزون أكثر على السياسات الخارجية في مقاربتهم العامة، ويميلون أكثر لإعطاء دور أكبر لأمريكا عن طريق التدخلات الخارجية، بينما ينزع الديمقراطيون نحو الانكفاء أكثر على الأوضاع الداخلية ويميلون أكثر نحو إيلاء الاهتمام للقطاعات الاجتماعية وللإصلاحات الاقتصادية، والتقليص من كُلفة التدخلات الخارجية التي عادت ما تكون محدودة. فخلال ولاية الجمهوري جورج بوش الأب كانت التدخلات العسكرية الخارجية على نطاق واسع في عدد من مناطق العالم، في حين انحصر التدخل الخارجي بشكل واضح في ولاية الديمقراطي بيل كلينتون مثلما حصل في أفغانستان، وبالرغم من ذلك فقد انتهج مسلكا يقوم على التحفظ في سياسته إزاء العراق ومناطق أخرى من العالم. وعلى خلاف ذلك تماما، فقد سجلت عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض في ولاية جرج بوش الإبن عودة قوية إلى التدخلات العسكرية في الخارج، حيث اتسع نطاقها بخوض الجيش الأمريكي لحروب خارجية متزامنة في أكثر من منطقة من العالم بدعوى محاربة القاعدة. بينما عاد نهج التحفظ في التدخلات الخارجية لينكمش مرة أخرى بعد صعود الديمقراطيين إلى سدة الحكم في عهد ولاية باراك أوباما الذي كان حذرا إزاء هذه المسالة مقابل التركيز على الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية في الداخل الأمريكي والتقليل من مخصصات التدخلات العسكرية في الخارج، بحيث تم التقليص من الوجود العسكري الأمريكي في العراقوأفغانستان بعد سحب جزء من القوات التي ظلت مرابطة هناك. وذيك بالرغم من قوة التحديات التي أصبح يطرحها صعود داعش وتزايد عملياتها وتهديداتها الإرهابية في العالم. انسجاما مع هذا التحليل أعلاه، فإن لا شيء يدعو إلى الاعتقاد بوجود خطوط حمراء للرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب فيما يخص السياسة الخارجية لا يجوز له الاقتراب منها أو تغييرها أو توجيهها التوجه الذي يرغب فيه. فلا محل لاستهلاك نفس التحليلات والمقولات العتيقة التي لم تعد مجدية لفهم التحولات التي تعتري النظام الرئاسي الأمريكي، والتوهم بأن الرئيس الجديد سيكون مجرد دمية وموظف سام في البيت الأبيض ينفذ ما تمليه الجهات السيادية الأمريكية، فهذه نظرة سطحية للأمور، وهي مستمدة من نظراتنا للحكم في البلاد العالم ثالثية التي تستأسد فيها الدولة العميقة ويتحول فيها انتقال السلطة عبر الديمقراطية إلى مجرد واجهة ومسرحية عبثية. وعلى هذا الأساس، فإن تغييرات هامة في السياسة الخارجية الأمريكية بالانتظار في ظل حكم ترامب، وهو شيء ملحوظ في مواقف الدول مختلف الأطراف الدولية، فتوجس تلك الأطراف دليل على ما يمكن للرئيس الجديد اتخاذه من قرارات من شأنها التأثير في العلاقات الدولية. وتبعا لذلك، لاشك بأنه سيكون ضحايا جدد لصعود الجمهوريين إلى الحكم في شخص دولاند ترامب، فكما أسلفنا، فهؤلاء متعطشون لنهج يقوم على جعل أمريكا أكثر اهتماما بالتدخل في الخارج بما يجعلها قائدا وشرطيا يتدخل في كل ما يجري في انحاء العالم، وسيكون الأمر مدعاة للتطلع لما سيكون عليه هذا النهج مع رئيس يتماهى مع أفكار اليمين المتطرف، وربما يتفوق على الجمهوري جورج بوش الابن في ميولاته المحافظة، فخطاب ترامب لا يختلف كثيرا عن خطاب الأول أثناء حملته الانتخابية لجهة التأكيد على دور أمريكا في العالم ومسؤوليتها في العلاقات الدولية حينما كان يؤكد على أن أمريكا هي أمة حرة يجب أن تقود العالم، وربما يزيد عنه ترامب بميولات أكثر تطرفا. ولا ريب أن مواقف ترامب إزاء الإسلام والمسلمين سيكون لها انعكاس على مواقف وقراراته في الشرق الأوسط، وهو ما يمكن افتراضه كما يلي: أولا: سيستمر ترامب في محاربة الإرهاب لكن انطلاقا من تصور آخر، وهو أن جل الأنظمة الإسلامية والعربية هي أنظمة ممولة ومسؤولة عن الإرهاب، ومن منطلق أن مصدر الإرهاب هو الإسلام السني. ثانيا: محاربة الإسلامي السني سيصب المزيد من النار على الاصطفاف الطائفي في الشرق الأوسط، وسيساعد إيران على الاستمرار في مخططاتها الرامية إلى تقوية العنصر الشيعي في البلاد العربية على أساس أن إيران ستكون معينا للأمريكيين لمحاربة الإسلام السني وهو ما سيصب حتما في مصلحة الإيرانيين في الإجهاز على الدول العربية السنية. وسيزداد الطوق الفارسي على الدول الخليجية. ثالثا: سيكون النظام السوري من أكبر المستفيدين من فوز ترامب، فهذا الأخير لم يجعل إسقاط نظام الأسد أولوية في سياسته في سوريا، بقدرما ركز على التعاون مع روسيا في الملف السوري، ما يعني إطلاق يد روسيا في سوريا والقضاء على المعارضة ما سيعطي جرعات حياة إضافية للنظام الأسدي وربما ترجع الأمور إلى ما قبل ثورة السوريين في 2011. رابعا: سيكون الفليسطينيون قطعا هم مصاخيط دونالد ترامب، إذ أنه أكثر تشددا لجهة دعم الكيان الصهيوني والتنصل من اشتراطات السلام مع الفلسطينيين، ولا شك أن قطار السلام الفلسطيني الإسرائيلي سيظل متوقفا طيلة ولاية ترامب. * كاتب وأستاذ باحث