إذا كان حافز تحرير هذا المقال يستند، بالدرجة الأولى، إلى الرغبة في التفاعل مع مجريات العملية السياسية لما بعد 07 أكتوبر، فإنه لا يخفي خلفيته النقدية الصريحة لطبيعة الخطاب السياسي المعتمد لدى حزب الأصالة والمعاصرة قبل 07 أكتوبر وما بعدها، على اعتبار أن التقييم الموضوعي للأداء السياسي لا يرتبط فقط بتقييم الحصيلة الانتخابية فقط ، أو بطبيعة الأداء التنظيمي، بل أيضا-وبالضرورة- تقييم مكونات الخطاب السياسي لحزب يعلن غير ما مرة انخراطه ودعمه للمشروع الحداثي الديمقراطي، وتطلعه إلى ممارسة السياسة بشكل مغاير، بل وطموحه في نهج "الواقعية السياسية التي لا تجافي الاختيارات الايديولوجية" (الديمقراطية الاجتماعية ورهانات التحديث السياسي بالمغرب)، وكذا في سياق النقاش الذي أطلقته دعوة المصالحة كما طرحها الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة السيد الياس العماري. وإذا كان البعض، بوعي أو بدون وعي، بقصد أو بدون قصد، يقلل من شأن الخطاب السياسي وأهميته، ويعتبره أمرا ثانويا في العملية السياسية إلى درجة التبخيس والتحقير والتهجين، وبالتالي اعتباره عاملا غير حاسم في العملية الانتخابية، فان الخسائر الناجمة عن هذا التصور لا يمكن أن تقاس حقيقة إلا بحجم ردود الفعل المعلنة لدى فئات واسعة من المجتمع، والتي تؤكد بأن الأثر الذي يخلفه الخطاب السياسي يشكل أحد العناصر الحاسمة في تشكيل المواقف والتصورات والأحكام إزاء موقع الحزب في الخارطة السياسية. إن الخطاب السياسي ليس أمرا عابرا، ولا بروباغندا ظرفية، ولا شعارات غير محسوبة، بل إن وقعه لدى المواطنات والمواطنين يشكل إحدى الجبهات الحاسمة في صناعة الرأي العام السياسي والانتخابي، وأحد العوامل (الصامتة) في تشكيل الوعي الجماعي، كقناعات وتصورات، في هذا الاتجاه أو ذاك. وقبل هذا وذاك، إحدى السمات الحاسمة في رسم هوية الحزب، وموقعه في حقل الصراع السياسي. وحيث إن كل مرحلة سياسية تتطلب تقييمات ومراجعات، فإن المرحلة اليوم تستدعي، أكثر من أي وقت مضى، التعامل النقدي البناء والصارم، بنفس تاريخي لا يروم صناعة الوهم الإيديولوجي أو الرهانات السياسية الخاطئة، بل من منظور مستقبلي يراعي قيمة التراكم الايجابي المتطلع إلى بناء السياسة كفكرة واقعية، وكمشروع مجتمعي يعكس الممكنات التاريخية في علاقة متكافئة مع مختلف الفرقاء السياسيين، وبمنطلقات سياسية واضحة تؤمن لهذا المشروع حظوظه التاريخية في الاستمرارية. وفي هذا السياق، نتوقف عند بعض الشعارات التي شكلت إحدى مكونات الخطاب السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة. وهي الشعارات التي ستشكل مع مرور السنوات إحدى العوائق الذاتية التي ستجلب للمشروع السياسي متاعب كثيرة، وخصوما كثرا من مواقع مختلفة. وإذا كانت هذه الشعارات قد أعلنت (ربما) الرغبة في التميز السياسي وتحقيق الإضافة النوعية التي طالما ترددت في تصريحات القيادة الحزبية، فإنها ستتحول إلى عناصر تكبح هذه الرغبة، وتعيق الإمكانات الفعلية لخدمة مشروع الحداثة والديمقراطية في المجتمع، مع المواطنات والمواطنين. أو ليست الحداثة مشروعا ثقافيا مجتمعيا؟ "حزب أكبر من الأحزاب" عندما أطلق قياديو حزب الأصالة والمعاصرة، غداة التأسيس، العبارة الشهيرة "حزب أكبر من الأحزاب"، لم يكن يدرك هؤلاء بأن مضمون هذه العبارة، وفي السياق السياسي الوطني الموسوم بأجواء المصالحة السياسية والحقوقية والتنموية، ستشكل إحدى المسببات الموضوعية لمأزق الأصالة والمعاصرة في الحقل السياسي المغربي. ليس لأنها ستشكل امتحانا عسيرا له في بلد اختار التعددية الحزبية والسياسية منذ الاستقلال، بل لأنها ستجر عليه متاعب المستقبل في علاقته بباقي الفرقاء السياسيين، ومن ضمنهم، على وجه الخصوص، قوى الصف الوطني الديمقراطي التي رأت في مضمون العبارة حملة معلنة تستهدف شرعيتها التاريخية، ومسا بجوهر العملية السياسية القائمة على التعددية التي دشنها المغرب منذ عقود. وإذا كانت هذه العبارة تتغذى بغير قليل من الاستقواء السياسي، فقد كان لترددها المستمر والمكثف وقعا سلبيا على مسار العملية السياسية برمتها؛ حيث ستكشف الأيام، مع وقائع الشارع، والتحولات الإقليمية والجهوية الطارئة وصولا إلى اللحظة الراهنة لما بعد 07 أكتوبر، أن حمولة هذا الشعار لم تكن محسوبة سياسيا، وجلبت للمولود الجديد عداءات من أطراف متعددة، في مرحلة تاريخية حملت معها مفاجئات غير متوقعة. والحقيقة، أن شعار "حزب أكبر من الأحزاب" سيضع الأصالة والمعاصرة، على امتداد السنوات الماضية، أمام امتحان صعب ينطلق من مدى قدرته الذاتية على ترجمة مضمون هذا الشعار ميدانيا، أي في العمق الاجتماعي، في سياق سياسي استثنائي يعاني فيه المشهد السياسي أصلا من ضربات التحولات الجيو- سياسية الجارفة، وانكماش التعبيرات الايديولوجية الموروثة عن الحرب الباردة وما تلاها، وتعطل الدولة الوطنية في تحقيق الرخاء الاجتماعي، وتبعات مرحلة ما بعد التناوب التوافقي التي أنهكت مكونات الحركة الوطنية، كما أنهكت بالمثل "شرعية" الحركة اليسارية التي لم تعد قادرة على مواكبة ما يجري... وهي المرحلة التي استنزفت، بالمحصلة، بدائل التحول الديمقراطي عبر استنزاف قدراته الذاتية، وانشطار وتفتت قوى الصف الديمقراطي...وعوض أن يشكل شعار "حزب أكبر من الأحزاب" نقطة تحول نوعي في أداء النخب السياسية والحزبية، وعوض أن يمد الحركة الديمقراطية بالوقود الكافي لمواكبة التحولات الجديدة، خرج هذا الشعار ليصنع له الأعداء أكثر من الحلفاء الموضوعيين القادرين على اقتسام خارطة الطريق، بالربح والخسارة. ثم، إذا كانت الشرعية السياسية لهذا المولود الجديد تقوم أصلا على فلسفة المصالحة بمعانيها السياسية، والتنموية، والحقوقية، فكيف له أن يرفع هذا الشعار الذي نظر إليه الفرقاء السياسيون بكثير من التوجس، والاحتياط، والتحفظ. إن الوثيقة التأسيسية لمشروع الأصالة والمعاصرة القائمة على تبني توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وخلاصات تقرير الخمسينية (وعلى الرغم من أنها لا تشكل وثيقة مذهبية) تتعارض–في اعتقادي-مع مضمون الشعار الذي أطلقه المؤسسون، شعار "حزب أكبر من الأحزاب". "جئنا لمحاربة الإسلاميين" وفي الوقت الذي كانت فيه أنظار الطبقة السياسية والرأي العام تتجه إلى المؤتمر الوطني الثالث (يناير 2016)، وما سيفرزه من مقررات، وتوجهات تنظيمية وسياسية، سيعلن الأمين العام الجديد لحزب الأصالة والمعاصرة السيد الياس العماري، مباشرة بعد انتهاء أشغال المؤتمر، عبارته الشهيرة "جئنا لمحاربة الاسلاميين". وهي العبارة التي سيكون وقعها، في دائرة الصراع السياسي شهورا قليلة على الانتخابات التشريعية، وقعا سلبيا للغاية؛ ليس لأن مضمون التصريح تم تحريفه، أو تشويههه من قبل خصوم الحزب، وفي مقدمتهم حزب العدالة والتنمية، بل لأن التصريح المذكور قدم هدية ل"البيجيدي"، وفي مرحلة دقيقة لم تكن تستوجب فتح الصراع مع هذا الخصم العنيد من بوابة المسألة الدينية، وفي سياق سياسي كان يسمح بمجابهة "البيجيدي" على قاعدة حصيلته الحكومية الكارثية، وبالأخص في المسألتين الاقتصادية والاجتماعية، واختياراته في تدبير العديد من الملفات المرتبطة بالشأن العام. وقبل الانتخابات التشريعية بشهرين، كتبت مقالا بعنوان "07 أكتوبر ومخاطر القطبية الايديولوجية" أحذر فيه من التبعات الخطيرة للانجرار السياسي لأطروحة الثنائية القطبية على أساس ايديولوجي عقدي في بلد اختار التعددية السياسية منذ مطلع الاستقلال. لقد كانت المرحلة تستدعي تقييم المسار الدستوري والتشريعي لما بعد دستور 2011، وتقييم الحصيلة الحكومية المتحققة بعد خمس سنوات من الحكم، غير أن واقع الحال أكد بأن الحزب الذي يقود الحكومة كان يسعى إلى الانفلات من دائرة المحاسبة، وتهريب النقاش إلى دوائر تشكك في العملية السياسية والانتخابية برمتها، وفي المقتضيات الدستورية نفسها. وعوض أن يستقر النقاش في تقييم طبيعة الاختيارات الاقتصادية والمالية والاجتماعية لحكومة العدالة والتنمية لتشكيل رأي عام انتخابي بما ينسجم ومتطلبات الترسيخ الديمقراطي وأعراف وقواعد العملية السياسية، اصطدمنا بمقولات تراهن على تشكيل وإحداث فرز لدى الرأي العام يقوم على ثنائية إيديولوجية عقدية وأخلاقية مفادها أن معركة 07 أكتوبر الانتخابية ستكون معركة بين المسلمين أنصار العدالة والتنمية، وغير المسلمين (أو ما يسمونه بالحداثيين)، معركة بين "المصلحين" و"دعاة الحرية" من جهة، ودوائر "التحكم" "والمفسدين" من جهة أخرى. وعليه، تم إفراغ العملية السياسية والانتخابية من أبعادها الحقيقية (باعتبارها ثاني انتخابات بعد دستور 2011)، وتحولت إلى معركة "للنوايا الحسنة وللإرادات الصالحة" عوض أن تكون محطة للحساب، وتقديم حصيلة البرامج، والوعود التي أعلنها حزب العدالة والتنمية في سياق الدستور الجديد. واعتبارا لخطورة هذا التصور، كتبت أن الانتخابات التشريعية ينبغي أن تكون عنوانا لإقرار الشرعية الديمقراطية، وأن تندرج في سياق ترسيخ قواعد التباري السياسي المبني على المنافسة البرنامجية القائمة على الاختيارات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والبيئية من منظور الخيار الديمقراطي، بعيدا عن التطاحن الايديولوجي الذي يسعى إلى تحويل العملية السياسية والانتخابية إلى حقل للتصارع العقدي. إن الترويج لنظرية القطبية الإيديولوجية على قاعدة الصراع بين "القطب الإسلامي" في مواجهة "القطب الحداثي" (أي بالمعنى العلماني كما يروج له) يشكل خطرا على المجتمع والدولة، ومسا بمبادئ التعددية السياسية والفكرية. ومع الأسف، لم يتم الانتباه إلى أن الوثيقة المرجعية التي صادق عليها المؤتمر الثالث (الديمقراطية الاجتماعية ورهانات التحديث السياسي بالمغرب-ص53) أكدت على أنه "لا يمكن أن نقيم أي ثنائية قائمة على التضاد بين الأصالة والخصوصية من جهة، والمعاصرة والتحديث من جهة أخرى". لقد ذهبت بعض التحاليل (ومنها التحاليل المخدومة) إلى القول بأن انتخابات 07 أكتوبر ستكون انتخابات بين قطبين أساسيين، قطب إسلامي محافظ يمثله العدالة والتنمية، وقطب حداثي يمثله الأصالة والمعاصرة. ونظرا لما حملته هذه الثنائية من تمويهات ومخاطر تمس جوهر العملية السياسية ببلادنا لأنها تدفع في اتجاه تقسيم المجتمع، وخلق الوهم لديه بأن المعركة الانتخابية هي معركة تخص "الهوية"، وهي بين المسلمين وغير المسلمين، فإن هذه التحاليل والأطروحات شكلت تحريفا للنقاش العمومي، ودفعت في اتجاهات لا تخدم العملية السياسية. ونظرا لأن هذه الثنائية الإيديولوجية تتعارض أصلا مع طبيعة التشكيلات السياسية، والمجتمعية، والثقافية، والخيارات الدستورية المحسومة في بلادنا، وتحول المعركة من معركة تخص البرامج والخيارات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والبيئية إلى معركة "هوياتية"، فإنها لعبت لصالح التشكيلات المحافظة، وعلى رأسها حزب العدالة والتنمية الذي كان يعمل جاهدا على استدراج حزب الأصالة والمعاصرة إلى دائرة الصراع باسم الهوية والدين والخصوصية، وهي دائرة مربحة له، وسعى بموجبها إلى ربح مساحات إضافية؛ لأنها بكل بساطة هي الرقعة التي ينتعش فيها رأسماله الدعوي والانتخابي. وبالتالى، كان تصوير انتخابات 07 اكتوبر بأنها انتخابات بين قطبين متناقضين، قطب "يمثل المسلمين" وقطب يمثل "غير المسلمين"، معادلة خاطئة بقدر ما شوشت على مسار العملية السياسية والانتخابية ببلادنا، بقدر ما كانت ترسم صراعا "مخدوما" يعفي العدالة والتنمية من تقديم الحساب على تجربته الحكومية، ويدفعه مجددا إلى تنصيب نفسه محاميا على قيم المجتمع وإسلامية الدولة. واليوم، ينبغي إرجاع النقاش العمومي إلى مساره الطبيعي المرتبط أساسا بنقد طبيعة الاختيارات الحكومية؛ حيث أثبتت التجربة التي قادها حزب العدالة والتنمية انحيازها للاختيارات الاقتصادية والاجتماعية القائمة على تحرير الأسعار، وتجميد الاستثمارات العمومية، ووقف التشغيل، وإقرار نظام مقايسة كاذبة (أسعار المحروقات في السوق لا توازي ثمنها العالمي)، وتجميد الأجور، والاقتراض المفرط....الخ. وهي الاختيارات التي أعلنت ضرب مقومات وأسس الدولة الاجتماعية في مقابل تكريس نموذج اقتصادي ومالي ليبرالي يقدس التوازنات المالية المشوهة على حساب مستلزمات العدالة الاجتماعية.