أضرب دائما لطلابي في درس النقابة، في مادّة الحضارة الإسلاميّة، مثال بائع السمك. في كلّ مرّة أكرّر المثال نفسه، لا أجد غيره وبعض الطالبات يضحكن عندما أحاول أن أبحث عن مثال آخر، ولا أجد غير بائع السمك لكي أستدلّ به على ضرورة النقابة وأهمّيتها في تنظيم شؤون أصحاب المهنة الواحدة، والدفاع عن حقوقهم أمام الدولة. فالدولة، إذا وجدت بائع سمك واحد في مكان ما يبيع السمك، قد تجهز على مصدر رزق عائلة بأكملها، بمبرّر أنّه غير مرخّص له، أو أنّ المكان غير مناسب، أو أنّه قد ينتهك نظافة المكان أو غير ذلك. وهل يمكن لفرد واحد أن يدافع عن حقّه في كسب رزقه أمام جبروت الدولة، واستبدادها بالقانون أو بالتعليمات أو بدونهما؟ لا طبعا. لكن، يمكن لبائع السمك أن يدافع عن حقّه في العيش، ويجد المكان المناسب لممارسة تجارته، في ظروف أفضل، إذا انتظم في جمعيّة تنظّم شؤون الحرفة، وتدافع عن حقوق مزاوليها، وقد تحلّ النزاعات الداخليّة بين البائعين، بل قد تحرص على جودة السلعة وظروف العمل ونظافة المكان. هذا الدرس ألقيه أمام طلابي في بلد شقيق أكثر تقدّما وتنظيما من بلدتي، بلا ريب. أتذكّر بائع السمك في قريتي، لكن لا أستطيع أن أحكي قصّته لطلابي. لا يمكنهم أن يفهموا أنّه مثال صارخ عن مأساة الإنسان في مجتمعاتنا. كيف لي أن أنسى عمّي بوطاهر الذي كان يقطع عشرات الكيلومترات من جبل تغاغت إلى سوق الخميس أو الأحد بتمسمان، فيعود ليقطع مرّة أخرى الكيلومترات نفسها عائدا إلى أدغال جبال آيت توزين على ظهر بغلته المجاهدة من أجل بيع صندوق أو صندوقين من السمك، في الغالب من نوع السردين. والغريب أنّه كان يوصل السمك طريّا، في عزّ الصيف، إلى دوارنا. كيف كان يفعل ذلك؟ إنّها حكمة أهل الحرفة! أحيانا قد لا يوصله كذلك؛ فقد يتأخّر في الطريق، قد لا يجد سمكا طريّا في السوق، قد يضطر إلى شراء الأرخص أمام زحف الغلاء وثقب الجيب؛ لكنّه، في كلّ الأحوال، يبيع كلّ سمكه، وإن تبقى بعضه، فإنّه لا يضعه في حاوية أزبال طبعا، يأكل منه ما يأكل، ويتصدّق بالباقي على عادته. مهنة بيع السمك صمام أمان لسدّ حاجات الناس، والسمك مصدر عيش أساسيّ بالنسبة إلى الإنسان، استهلاكا وإنتاجا ووساطة. والتجارة في السمك تضمن استقلاليّة اقتصاديّة لعائلات كثيرة، لا في المدن والقرى الساحليّة فقط، وإنّما في كلّ مناطق الدنيا، حيث يصل السمك أيضا. لكن، في المقابل، تشكّل مهنة بيع السمك مهنة من لا مهنة له، من تقطّعت به السبل، فيزاول المهنة تعويضا أو انتظارا أو احتياجا. وذلك، بباسطة، لأنّها لا تدرّ مدخولا كافيا. والحقّ، أنّ تجارة السمك، تجارة مدرّة لخير كثير، يستفيد منه الكبار الذين لا علاقة لهم بالبحر، ولا بالأسواق أصلا؛ لهم علاقة واحدة يحرصون عليها حرص المتيم المذلول، وهي علاقتهم بأصحاب النفوذ في البلدة، وهم أنفسهم لا يضيّعون أيّ فرصة، من قبيل الانتخابات المحليّة أو الوطنيّة على سبيل المثال، لكي يحصلوا على حقّهم في النفوذ، بدورهم، أو على الأقلّ يتقرّبون من المركز، طمعا في الحصول على بطاقة تسمح لهم بتجاوز القوانين، من أجل مزيد من النفوذ ومزيد من المال. لا أكثر ولا أقلّ! لا يعني الرقيّ الاجتماعيّ والسياسيّ في قريتي غير القدرة على تجاوز القانون بلا محاسبة. وهذا، ببساطة، معنى أن تكون كبيرا في البلدة منذ قديم الزمان. هل تغيّرت بعض الأمور الآن؟ كلا، بعض الناس صاروا يتصنّعون احترام القوانين، لكنّهم يحافظون على كلّ الامتيازات التي يستفيدون منها رزقا حلالا! أمّا الصغار في قريتي، فلا حقّ ولا امتياز غير الواجب، وأكثر من الواجب؛ فيطبّق عليهم القانون بحذافيره وبأرجله ونعاله. هكذا، يطبّق القانون في قريتي الجميلة على الفقراء فقط: الفقراء وحدهم يؤدّون الضرائب، وحدهم يؤدّون الغرامات، وحدهم يدخلون السجن، ووحدهم يطحنون في طاحونات المخزن والعطالة والعوز وغيرها من مزابل التاريخ. أمّا أصحاب النفوذ، فإنّهم يتكلّمون لغة واحدة، لغة القمع الرديئة، لغة الحكرة الوضيعة، يتقنون لغة السطو البليدة، يجمعون بين سلطتي المال والسياسة، يعطون بمقدار وينزعون بمقدار، يهدّدون باستقرار البلد، وما همّهم سوى استقرار مناصبهم وأسواقهم وحساباتهم البنكيّة. إنّهم لا يتكلّمون لغة الناس أصلا، سوى في الانتخابات من كلام منحول ووعود مستحيلة! القلب يفجع والعقل يسرح واللسان يصدح: اللهم إنّ هذا منكر، اللهم إنّ هذا منكر، اللهم إنّ هذا منكر!