الانتخابات التشريعية في المغرب عام 2016: ما هي الحصيلة بالنسبة للبلاد؟ وما هي الدروس بالنسبة لليسار؟ بمناسبة انخراط فيدرالية اليسار الديمقراطي من جديد في العملية السياسية، انتعش الأمل قليلا... بل إن هذا الأمل انتعش أكثر بعد فوز مناضليْن متميزيْن من هذا التيار بمقعد في البرلمان الجديد، ولكن المؤسف هو أن هذا النجاح وحده ليس كافيا لكي نتخلص من الإحساس المرير بأن اليسار يمضي نحو الجحيم منذ مدة تربو على العشرين عاماً... لقد أسالت الانتخابات التشريعية التي جرت في 7 أكتوبر 2016 كثيرا من المداد، ومن ثم فلن أعيد هنا ما قيل وكُتب عنها، فمن الزاوية التي أرصد من خلالها الأحداث، فإن هذه الانتخابات ونتائجها توحي إليّ باستنتاج، وتذكي بعض مشاعر القلق، وأخيرا تترك درسا بليغا. أما الاستنتاج فمضمونه أن التصويت على حزب العدالة والتنمية كان أولا وقبل كل شيء ذا طبيعة إيديولوجية، وأما الشعور بالخشية والقلق فهو متعلق بعمل الحكومة المقبلة، وأما الدرس فيرتبط بالتساؤلات التي تطرحها هذه التجربة على كل من ما زال يشعر بانتماء لليسار وقيم اليسار. التصويت الإيديولوجي بعد دستور عام 2011، بذلت السلطة وأعوانها جهودا جمة لإقناعنا بأن نظامنا السياسي قد تبنّى مبدأ ربط ممارسة المسؤولية بالمحاسبة. لكن الواقع هو أن هذا المبدأ الأساسي من مبادئ 'الحكامة الرشيدة' يمكن أن ينطبق على جميع الفاعلين ما عدا الفاعل الأول وهو "الملكية التنفيذية" التي ما زالت تتخذ القرارات في كل المجالات دون أن تحاسبها أو تسائلها أية هيئة عن أي شيء. أما فيما يخص الحكومة على الأقل، فلقد هرمنا ونحن نصرخ إن هذه الحكومة ينبغي أن تُحاسَب عن حصيلتها، لكي يستطيع الناخبون أن يقرروا مستقبلها السياسي على ضوء تلك المحاسبة. لقد مارست الحكومة ولايتها لمدة خمس سنوات تقريبا دون أدنى مفاجأة. وفقا لمقتضيات الدستور، ظل القصر الملكي ممسكا بمعظم السلطات، بينما الحكومة تكتفي، وفقا للتصريحات التي أدلى بها رئيسها ب"تنفيذ التوجيهات الملكية" وتقوم الإدارة بتصريف الأعمال... ثم جاءت ساعة المساءلة والتقييم، فأنجِزَت دراساتٌ وعُقِدت مقارناتٌ لكي يتبين حجم المنجزات بالقياس مع الالتزامات الأصلية... فنسبة النمو لم تصل حتى إلى نصف الرقم الموعود، أما البطالة فقد ارتفعت نسبتها بنقطتين بدل أن تنخفض بنقطة، أما الدَّيْن العمومي فقد تضخم وتضخم، وأما اقتصاد الريع والفساد فقد ازدهرا وتفاقما، وما تم تحقيقه فعلا فهو عبارة عن إصلاحات مضادة في مجالات الضرائب وصندوق المقاصة وأنظمة التقاعد وهي كلها مجالات تخفي قنابل موقوتة، دون أن ننسى ما سُمي "التنزيل الديمقراطي للدستور" حيث فضّلت الحكومة أن تؤخره إلى أجل غير مسمى، دون إغفال الرضوخ الكامل لإملاءات المؤسسات المالية الدولية. موضوعيا، فإن حصيلة الحكومة سلبية بامتياز، وهو ما يقر به المسؤولون أنفسهم عندما يعبرون بصراحة عن مكنونات ذواتهم عندما يتحررون قليلا من الخطاب الرسمي بعيدا عن الكاميرات. فلو كان الفعل الانتخابي مبنيا على تقييم منصف لهذه الحصيلة لكانت النتيجة مختلفة تماما عن تلك التي رأينا... ما الذي حدث إذن...؟ وكيف تحولت عوامل الفشل إلى عناصر نجاح مذهل؟ منذ بدأنا نحاول أن نفهم هذه المفارقة الغريبة، طلعت علينا هنا وهناك تفسيرات شتى، لكل منها نصيبه من الحقيقة: القوة التنظيمية التي يتوفر عليها حزب العدالة والتنمية، واستقامة وزرائه ("على الأقل هؤلاء ليسوا من الفاسدين")، المهارة التواصلية لدى بنكيران، ضعف خصومه وهزالة مصداقيتهم، "تصرفات العفاريت والتماسيح الخبيثة" والتي تؤدي كلها إلى نتائج عكسية (و قد توجت تلك التصرفات الماكرة بمهزلة مسيرة الدارالبيضاء ضد--حزب العدالة والتنمية) دون إغفال انخفاض سعر النفط وهبات دول الخليج... ومع ذلك، يبدو لي أن كل هذه العوامل لم تكن نافذة المفعول لو لم تجد الخبير الذي يحسن توظيفها في إطار رؤية شاملة تنطلق من فن التلاعب الإيديولوجي. أعتقد أن نقطة التحول حدثت بعد الانتخابات المحلية والإقليمية للعام الماضي، في سبتمبر 2015. بحكم طبيعتها، المحلية والإقليمية، لم تكن هذه الانتخابات من حيث المبدأ محددة باعتبارات السياسة الوطنية. لقد فاز فيها حزب العدالة والتنمية، ثم انتقل مباشرة إلى عملية إسقاط وطني تهدف إلى إقناع الرأي العام بفكرة بسيطة مضمونها: على الرغم من كل السلبيات (أي: على الرغم من حصيلته المخيبة للآمال، وعلى الرغم من ضربات العفاريت والتماسيح...) ظل حزب العدالة والتنمية يحظى بشعبية كبيرة ونجاحه في انتخابات سبتمبر 2015 تبشر بالضرورة بنجاحه في اقتراع أكتوبر 2016. لقد استفادت هذه الفكرة من دعم الآلة الإعلامية المقربة من حزب العدالة والتنمية وروجت لها أيضا وسائل إعلام 'مستقلة' ولكنها مقتنعة جداً بهذه الأطروحة، كما ساعدتها بانتظام الأخطاء المتتالية التي ارتكبها خصومه إلى أن أصبح "تفوق حزب العدالة والتنمية على جميع منافسيه" من المسلمات، ولم يبق إلا الاستعداد لكي نعيش الحدث ونشهد النصر المبين الذي سيحققه الحزب ... ولأجل تعزيز هذه الديناميكية، اعتمد وزراء حزب العدالة والتنمية على ثنائية التضليل والتمويه. أما التضليل الإعلامي فهو أن تصرح دون أن يرف لك جفن بأن وضعية البلاد جيدة على الرغم من كل الصعاب، وأنك جنبت البلاد حالة الإفلاس وقمت بالإصلاحات اللازمة! مثل النظام الجبائي وصندوق المقاصة ونظام التقاعد! أما الأصوات التي حاولت أن تشرح أن الحقيقة مختلفة جداً فقد اصطدمت بصخب الدعاية الحكومية. أما التمويه فقد تمثل في ذلك الخطاب المظلم والسوريالي حول "التحكم" ومقاومة "التحكم"... لقد حاول الأستاذ محمد الساسي أن يشرح أن الحكومة (ورئيسها خاصة) تعايشت مع التحكم لمدة خمس سنوات، بل أسدت لهذا التحكم خدمات جليلة، ولكن لا حياة لمن تنادي. من الواضح أن الأذهان لم تكن مستعدة لسماع بعض الحقائق المؤلمة التي من شأنها أن تخدش قليلا تلك الصورة المثالية التي نسِجت عن حكومة بنكيران الطيبة النبيلة جدا والتي صارعت التحكم الظالم الخبيث. انتهى منطق تقييم الحصيلة الحكومية وما يتبعها من ضرورة المحاسبة، وغاب الواقع اليومي للمواطنين وصعوباته، كما اختفى البرنامج الحكومي التعاقدي وتناقضاته، وحل محل ذلك كله خطاب مرعب ولهجة مخيفة غامضة قذفت بنا في عالم الأشباح. لقد مات العقل والمنطق وتعطل التفكير واكتفينا بالقناعات والمعتقدات: "نحن طيبون لأننا طيبون وعليكم أن تثقوا بنا إن كنتم مومنين". وأسوأ ما في الحكاية هو أن هذا التضليل حقّق غايته! أما الذين قاموا بحملة انتخابية قريبة من المواطنين ومن همومهم، وتحدثوا إلى الناس، فقد تفطنوا إلى كون نسبة كبيرة من الكتلة الناخبة التي يحشدها حزب العدالة والتنمية لا تلقي بالاً لحصيلة ولا لبرنامج ولا حتى لتلك الفضائح الأخلاقية المفتعلة بل تثق في خرافة مؤامرات " العفاريت والتماسيح". إنها تصوت لفائدة حزب العدالة والتنمية نظراً لمرجعيته الإسلامية، ولأن مرشحيه من المسلمين الأصفياء. لقد انتقلنا إلى منطق الأيديولوجية الخالصة؛ بل وأحيانا المجنونة، لا سيما عند بعض الناس الذين يدعون أن التصويت على حزب العدالة والتنمية يفسح السبيل إلى الجنة! تخوفات حول الولاية المقبلة ألا يحمل هذا الانتصار "الساحق"، وخاصة في بعده الأيديولوجي، بعض المخاطر بالنسبة إلى الولاية الحكومية المقبلة؟ ألن يخلق شعورا "بالغرور" لدى هؤلاء "الفائزين" أو حتى "الغطرسة التي تصيب بالشلل"؛ لأنها تمنع التحرك، وهذا أمر خطير. قد يقول بعضهم: بما أن الناس يصوّتون علينا بغض النظر عن حصيلتنا وإنجازاتنا، أي يصوتون علينا لذاتنا وليس لأفعالنا، فلماذا المخاطرة بفعل شيء ما؟ لماذا نخاطر لتنفيذ الإصلاحات الصعبة والضرورية (الدستور، التعليم، الإدارة، الريع والفساد والضرائب...)؟ ما علينا إلا الاكتفاء بتدبير الموجود.. وعلى أي حال، "كل شيء في يد الله"... هذا الموقف التخديري سيدفع "غرفة الانتظار" الضخمة كما وصفها الفنان الساخر بزيز، والتي تعج بملايين مغاربة منذ فترة طويلة، أن تزداد ازدحاما... أما التخوف الثاني فلا يقل خطرا عن السابق: بما أننا نغوص في بحار الأيديولوجية، فإن الديماغوجية ليست بعيدة وقد تمارس إغراءها. وفي هذه الحالة، يمكنها أن تتدثر برداء الفضيلة والتقوى وتشعل فتيل المزايدات الأخلاقية، فلننتبه إلى حرياتنا التي نحرص عليها! فلن تكون المرة الأولى التي يبرز هذا النوع من التمويهات: في غياب إنجازات ملموسة تنعكس إيجابيا على معيشة الناس، سنقوم "بتسليتهم" ونصنع لهم فرجة ونحن نطارد الساحرات ونهاجم "الملحدين"... وبعبارة أخرى: لن نخلق لكم فرصا جديدة للشغل ولكن من وقت لآخر، سنريكم ما نفعل ببعض النساء غير المحجبات أو كيف نشوه سمعة المثليين جنسياً! هل من دروس لليسار؟ بعد كارثة مشاركة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الحكومة في عام 1998 (تحت حكم الملك الراحل الحسن الثاني، وفي ظل ظروف نعرفها)، قلتُ وكتبتُ أن اليسار "سيعيش نكسة ستدوم خمسة عشر عاماً". وقد اتهمني بعضهم آنذاك بالتشاؤم". نحن اليوم في عام 2016، وكل شيء يشير إلى أنني ربما كنت مفرطا في التفاؤل... في الواقع، نحن نعيش الحقبة التي يعرف فيها اليسار المغربي أقصى درجات الضعف والهوان منذ الاستقلال، فهو غائب عن المؤسسات، والأخطر من ذلك، بعيد عن المجتمع. لا أود من وراء هذا الكلام أن أزرع الإحباط لدى أي أحد بل أحيي بإعجاب وتنويه أولئك الشباب الذين شاركوا بحماس وعن قناعة في حملة فيدرالية اليسار الديمقراطي. ومع ذلك، علينا أن نظل واضحين وواقعيين، فالطريق ما زال طويل جداً. لكن الإقرار بطول هذا الطريق ليس معناه أن النكبة لا خروج منها، ولكن فقط أننا علينا التخلص من ديكتاتورية المدى القصير و"الزمن الانتخابي" الذي يحجب عنا الرؤية البعيدة والعميقة... لا يكمن الحل بالضرورة في مقاطعة الانتخابات، لأنك عندما تنخرط في عملية من هذا القبيل، فإنك تقبل بمنطق انتخابي في علاقتك بالمواطن أي بتصويته. وهذا المنطق يفرض عليك الوتيرة، كما يساهم في صياغة محتوى الأفكار التي تريد تشجيعها. إن الإفراط في الخوف من "سوء الفهم" من لدن جمهور الناخبين المحافظين قد يدفع مناضل اليسار إلى ممارسة الرقابة الذاتية على الأفكار والمواقف التي توجد في صميم قيمه وهويته اليسارية. إن الطريق لا يزال طويلاً أيضا، لأننا ربما فقدنا البوصلة وتِهنا في مستنقعات هذا المشهد السياسي البئيس والمخادع. لن نغادر المستنقع إذا حاولنا اللعب في مربع الخصوم، وهو ما لا نجيده بطبعنا ولكن بالتشبث بقناعاتنا، حتى عندما يجعلنا المزاج العام للناخبين في موقف أقلية داخل المجتمع. عندما نستعيد القدرة على الرؤية أبعد من موعد الاستحقاق الانتخابي المقبل، سوف نكون قادرين على شرح أفكارنا بهدوء والدفاع عن خياراتنا. وفي مواجهة القطب الإسلامي المحافظ الحالي، سوف نستعيد بالتدريج قيمنا الإنسانية كالحرية والتقدم والتسامح. ليس هذا كلاما إنشائيا؛ بل هي ملامح معارك حقيقية على أرض الواقع ضد قوي الظلام السياسي المخزني وضد ضلالات الإسلام السياسي. ما هو المحتوى المحدد الذي نريد أن نعطيه لمفهوم الملكية البرلمانية؟ ما هو الاقتصاد الإنتاجي والتضامني الذي نريد بناءه كبديل لنموذج الليبرالية الجديدة المفترسة والمدمرة المفروضة علينا اليوم؟ ما هو نوع "اللائكية" التي يمكنها أن توافق واقعنا المغربي؟ وكيف سوف نميز بين الدين والدولة؟ وما هي الحريات الفردية التي سنناضل من أجلها؟ حرية المعتقد أم حرية التصرف في الجسد (الإجهاض، العلاقات الجنسية بدون زواج، ارتداء الحجاب والنقاب والبوركيني، المثلية الجنسية.) كيف سنعالج علاقات الرجل والمرأة في المجتمع؟ ما هي الطابوهات التي يجب زعزعتها وخاصة على مستوى مدونة الأسرة بعد تعديلها عام 2004 وخاصة مسألة الإرث. لا بد أن أضيف أن هذا العمل يتطلب شجاعة ونفسا طويلاً، بالإضافة إلى إعادة بناء جميع قوى اليسار، أو على الأقل تلك التي ما زالت تعتز بانتمائها إلى اليسار. المعادلة بسيطة وواضحة: هذه القوى سوف تعيش وتنمو وهي موحدة أو سوف تندثر وتموت. باختصار، لدينا أفق واحد: إنه العودة إلى قيمنا اليسارية، لكي نستعيد ذواتنا ونتلمس سبيلنا من جديدا...