رد على الأستاذ لحسن حداد لو كان الأمر يتعلق بالرد على بضعة أفكار بسطها الأستاذ لحسن حداد في رده على ردي عنونه ب "قراءة في الهوس السياسي 'بموازين'" للزمت الصمت وتعففت عن تكليف نفسي وغيري عناء نقاش قد يكون استوفى القدر المعقول منه مما كتب ونشر لحد الآن حول مهرجان "موازين"، إلا أنني أجدني مضطرا، من منطلق ما بدا لي واجبا في رد الاعتبار للدور الحقيقي المطلوب من المثقف والسياسي، وفي هذه الظروف الدقيقة التي يمر بها المغرب، أن أبسط رأيي منتقدا لاختلال موازين المبادئ وفساد الجرد الاستدلالي (أعني الفساد بمفهوم المناطقة) لبعض إخواننا من النخبة المشتغلة بالسياسة، والتي يمثل السيد حداد، انطلاقا مما ضمنه في مقاله الأول ورده الأخير نموذجا مناسبا ومعبرا عن مآزقها. واعتبارا لتشعب الأعطاب التي شابت مقاربة السيد حداد للموضوع فإنني سأعرض بتركيز تصنيفا للمآزق التي وقع فيها صاحب الرد . عطب التسطيح: قبل الوقوف على مظاهر السطحية التي حاول السيد حداد دفعها عن قراءته في تحليل الموقف من مهرجان "موازين"، فإنني مضطر في هذه المرة إلى بيان خصوصيات المعالجة السطحية لأي موضوع. وحتى يتضح المقال بالمثال أقول: إن الفرق بين التحليل الدقيق والشامل وبين المعالجة السطحية كمثل الفرق بين من يحاول أن يستدل على جمال بيضة ويعدد منافعها بالاكتفاء فقط بتوصيف شكلها وهيئة قشرتها... في حين أن قواعد التشريح الدقيق للموضوع (البيضة في هذا المثال) تقتضي إجراء تقطيع عرْضي ( coupe transversale) ليتبين إن كانت البيضة "كموضوع" للدراسة من صنف البيض الطري النافع أم هي من صنف البيض الفاسد المسمم لمن يستهلكه. وهذا بالضبط هو ما وقع فيه الأستاذ حداد وما تقع فيه أحيانا طائفة من النخبة السياسية والثقافية في تناولها لجملة من قضايا السياسة والمجتمع. وبيان ذلك فيما يلي: يرتكز دفاع السيد حداد على مشروعية وأهمية مهرجان "موازين" على فكرة أساسية مفادها أن هذا المهرجان – في نظره – يحقق " إشعاعا ثقافيا للمغرب". إن المأزق الأساس الذي تجسده هذه الفكرة المحورية في تحليله، لا تكمن في خطئها المطلق، إذ يمكن أن نوافق بشكل نسبي جدا على صحتها، بل يكمن في كون صاحبها وقع في مطب الاختزال بصرف نظر مخاطبيه عن الحجم الكبير من الاعتبارات والحيثيات المرتبطة بتنظيم هذا المهرجان. فعوض أن يقوم السيد حداد بدوره كسياسي ويضع هذا النشاط الاستثنائي في سياق علاقته بالسياسة العمومية (public policy) للدولة، وفي سياق حيثياته المتمثلة بعدة عناصر ترتبط أساسا ب : ظروف وتوقيت النشاط؛ مصادر التمويل؛ طبيعة الحكامة المتبعة في التنظيم؛ البعد الحقوقي في التعامل مع المعارضين؛ كلفة النشاط بالمقارنة مع الوضع الاجتماعي والتنموي العام للبلد؛ مضامين ومادة النشاط... وهذه وغيرها هي أبرز عناصر "بيضة" المهرجان الذي اكتفى الأستاذ حداد بتوصيف جمال "قشرته". فالإشعاع الثقافي يتحقق باستراتيجية متكاملة في التثقيف، والتثقيف يتحقق عبر سياسة عمومية واضحة المعالم، والسياسة لا يمكن أن تختزل في مهرجان ولو كان مهرجانا للصوفية والمديح كما يمكن أن يرغب فيه خصوم الأستاذ ممن يسميهم الأصوليين. لقد أعمى مسلك السطحية صاحب المقال عن التنبه إلى أن الميزانية المعلنة لمهرجانه العجيب تفوق ثلثي ميزانية الاستثمار الخاصة بوزارة الثقافة وقد تتجاوزها بالنسبة لبعض السنوات المالية. وأنها تمثل على الأقل خمسة أضعاف «الصندوق الوطني للعمل الثقافي» الذي تمول به وزارة الثقافة أهم الأنشطة ويتكون من عدة أبواب مالية منها على الأخص: الاعتماد المخصص لدعم المسرح، إنتاجا وترويجا، و المال المرصود لدعم الكتاب، والتعويضات المخصصة للتنشيط الثقافي من محاضرات وندوات، فضلا عن الغلاف المالي المرصود للمهرجانات التي تنظمها وزارة الثقافة. أما الحديث عن وضع الموسيقى والفنون في البلاد فالواقع المتردي في هذا المجال يتجاوز في رداءته الواقع في مجالات التنمية الأخرى. ويجدر التذكير في نفس السياق أن ميزانية مهرجان الأستاذ حداد يتجاوز بأضعاف ميزانية المعهد الوطني الوحيد في هذا المجال، وهو المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي. هذا ما يجب على المثقف والسياسي أن يجلياه ويحللاه ويقفا عليه. فالمثقف الذي اختار خوض النقاش العمومي في قضايا الفن والسياسة وغيرهما ليس مجرد متفرج استهوته فنانة هنا أو سهرة هناك فعطل كل أدواته في النقد والتحليل، ومعها عطل كل برامجه الشخصية لكي يحضرها ويلبي رغبة لديه في الاستمتاع بالغناء أو الرقص. أي دور للمثقف والسياسي إن لم يقم بدوره في كشف هذه المعطيات الدالة دلالة حقيقية على بؤس التدبير للسياسة العمومية في مجال الثقافة والفن ببلادنا. ومن مظاهر السطحية كذلك في مقال السيد حداد أنه لم ينتبه إلى أن دفاعه الأعمى عن "موازين" جعله يسقط في مواجهة مبدأ إنساني سامي هو الحق في الاختلاف. فحين أخذنا عليه غضه الطرف عن المواجهة العنيفة التي ووجه بها المختلفون سلميا مع المهرجان، أجابنا بالقول: " كوني لم أشر إليه، لا يعني أني أسانده ولكن إن أشرت إليه فسأصبح من كبار مسقطي الطائرة، كما هو الحال في النكتة المغربية المعروفة." هنا تبرز النظرة الانتقائية في التحليل: أناقش ما بدا لي إيجابيا - بحكم ميولي واختياراتي الفكرية والفنية- وأغض الطرف عن حيثيات تمثل جزءا من عمق المشكل: لماذا أغض الطرف ، وأنا السياسي الممارس، عن أحداث تمس الحرية والديمقراطية والتحرك السلمي في موضوع يمس مهرجانا وليس الفن، أم أن "الفن" بأي ثمن مقدم عن مبدأ الحرية. وما قيمة الفن في دولة لا تقبل الرأي الآخر وترفض الحق في الاختلاف وتتعامل بالعنف مع التعبيرات السلمية عن الآراء . أما حكاية إسقاط الطائرة المفترى عليها فأنت لن تحتاج إلى إسقاطها – كما هو معروف في النكتة المغربية - لسبب بسيط وهو أن طائرتك في "التحليل" الذي قدمته في مقاليك معا لم تقلع أصلا وبقيت لصيقة وحبيسة نظرة أحادية مؤسسة فقط على العداء الإيديولوجي الأعمى لخصومك "الأصوليين" والانتصار لاختياراتك الفنية الشخصية دون الالتفات لحقوق الآخر في الاعتراض السلمي الحضاري، مما حجب عنك النظر في الإطار العام للموضوع الذي تحلله بشموليته من الجوانب السياسية والحقوقية والثقافية. عطبُ "كان أبي": في رده على وصف حزب الحركة الشعبية الذي ينتمي إليه بالحزب الإداري فقد رافع السيد حداد عن تاريخ حزبه باعتباره "حزبا ناضل ضد الحزب الوحيد وأسس للتعددية السياسية في نهاية الخمسينات... " . هل فات صاحب المقال أن منطق الأشياء ونحن نناقش معطى آني يقتضي النظر إلى حزبك على حاله اليوم والآن. أما حكاية ما كان عليه الحزب منذ عقود فهذا لايعدو أن يكون من شاكلة "كان أبي"، وهو ما لا يليق ولا يجدر برجل يدعو لتحكيم المنطق والموضوعية والبحث الأكاديمي أن يحتج به؛ وإلا فإن حزب الحركة الشعبية سبقته أحزاب في الوطن العربي أصبحت مرتعا للدكتاتورية ونخرها الفساد حتى النخاع، والدليل الدامغ على ذلك أن حزبا مثل التجمع الدستوري الديمقراطي التونسي المنحل الذي تأسس منذ سنة 1920 وظل خلال عقود التحرير حزبا وطنيا تحرريا، أصبح في العقود الأخيرة عنوانا للفساد والاستبداد والقهر والتسلط ومعاداة الديمقراطية، وهذا الحزب - على شاكلة ما تقوم به بعض الجهات المتنفذة عندنا - وظف كل شيء بما في ذلك الفن بمختلف أشكاله من أجل تجميل صورته وتدجين شعبه واستئصال خصومه. عطب التدليس: يقال في اللغة "دَلَّسَ البائِعُ": أي أخفى عيوب بضاعته عن المشتري. آخذنا بشدة في الرد الأول على السيد حداد كونه طمس في نقده للمعارضين لمهرجان "موازين" واقعة دالة في الموضوع، تتعلق بمعارضة عدة فرق نيابية في البرلمان وعلى رأسها الفريق النيابي لحزبه. فوجدنا أمامنا صورة رجل سياسي ممارس يستخف بالمؤسسات و لم يحترم رأي 3 فرق نيابية - منها فريق حزبه النيابي- تمثل مجتمعة ما مجموعه 130 نائب ممن يعدون - في تصوره السياسي- هم ممثلي الأمة. أي فكر ديمقراطي هذا الذي دافع عنه السيد حداد وهو يطمس في تسويغه ل"موازين" هذا العدد من النواب. كما أن النزاهة الفكرية كانت تقتضي منه أن يذكر قراءه بموقف فريقه النيابي ويقدم نقدا ذاتيا في الموضوع قبل أن يعرج إلى توجيه الدروس للآخرين. ولله در القائل "لي بغا ينقي يبدا بباب دارو" مع أن الأستاذ حداد كان - في نظري- بصدد إفساد ما كان فريقه يحاول إصلاحه. وحين حاول الرد على هذه الملاحظة سقط في مأزق أكبر يعرفه الجميع بمثل "العذر أكبر من الزلة " حيث لجأ مرة أخرى إلى أسلوب التغليط ليبرر مسلكه، وذلك بالقول بأن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد "برلمانية تنتمي للحزب هي التي عبرت عن موقفها". مناط التدليس في هذه الواقعة وما يترتب عنه من محاولة لتسطيح وعي القراء يكمن في تعمد طمس عدة حقائق، منها: -أن الأمر يتعلق بمؤسسة تشريعية مسؤولة وتعد فضاء أساسيا لتصريف المواقف الرسمية للأحزاب من مختلف القضايا والوقائع، وليس مؤسسة إعلامية أو فضاء للنقاش الفكري العام؛ -أن الموقف الذي صرفته النائبة البرلمانية عن حزب الحركة الشعبية لم يكن موقفها الشخصي بمفردها، بل إن الأمر يتعلق - وهذا يعرفه السيد حداد - بسؤال شفوي يمر عبر عدة مراحل قبل أن يتم إلقاؤه في قبة البرلمان، ومن أهم تلك المراحل هو تداول الفرق البرلمانية حول أهمية كل سؤال وأولويته حتى يتم برمجته من قبل الأجهزة المعنية بالمجلس في الجلسة العامة المخصصة للأسئلة الشفوية. مما يعني أن الفريق النيابي صادق على مضمون السؤال ومضمون التعقيب عليه بمشاركة القيادات الرئيسة في الحزب وعلى رأسها نائب عن دائرة بولمان إسمه منحند العنصر هو الأمين العام للحزب ووزير دولة بدون حقيبة في حكومة الفاسي!!! لم يكتف صاحب الرد بهذه المغالطة الملبّسة ، بل دعمها بأخت لها أكبر منها حينما أخبر القراء بعد مضي 4 سنوات من عمر حكومة الفاسي بأن حزب الحركة الشعبية "هو الوحيد الذي رفض تشكيلة حكومة عباس الفاسي ". تعليقا على هذه المعلومة أَكتفي بالتعليق التالي: في صيف 2009 تم إجراء تعديل حكومي وصف آنذاك ب"التقني" على خلفية انتقال حزب الأصالة والمعاصر إلى المعارضة! وتم إشراك الحركة الشعبية - التي كانت في المعارضة و"رفضت" المشاركة في حكومة 2007- بمقعدين في الحكومة الجديدة. أي أنها شاركت -وبمقعدين هامشيين فقط - في حكومة صوتت ضدها وضد برنامجها الحكومي قبل شهور قليلة!!! فلنتابع معا: الأستاذ حداد السياسي الممارس الذي يحاول إقناعنا بالمنافع الجمة لمهرجان موازين للبلاد والعباد هو نفسه الذي يحجب عن قرائه بأن من بين معارضي المهرجان ممثلو الأمة من حزبه؛ وهو نفسه الذي يحاول إقناعنا ببطولة حزبه عندما وجهت له "الدعوة" بالمشاركة في الحكومة التي عارضها لسنتين، وبمقعدين ! والواقع أن هذا المطب الكبير الذي وقع فيه الكاتب والذي حاول أن يهون من قيمته في رده الأخير، مرده للعمى (كرهك الشيء يعمي ويصم) الذي سببه له حقده الإيديولوجي على طائفة من الناس يدعوها "الأصوليون". أين المنطق وأين الحجاج من كل هذا. وسلمت أرواح أرسطو وابن رشد وغيره من أئمة علم الكلام الذين ألفوا وأبدعوا في فن المنطق والحجاج وفن المناظرة عندما يساق الكلام على عواهنه ويستخف بالمخاطب (القارئ) اعتقادا بأنه مغفل أو لا يفهم في البراهين. فما أورده السيد حداد - بالتصنيف الأرسطي - لا هو استدلال برهاني ولا هو استدلال حجاجي، وذلك اعتبارا لقيامه على مقدمات فاسدة ونتيجة فاسدة . مأزق التلبيس: من أبرز "الحجج" التي ساقها الأستاذ لدعم وجهة نظره في الموضوع استناده إلى أرقام – لانعرف صدقية مصادرها- حول أعداد جمهور "موازين" والذي أحصت آلته الحسابية ما مجموعه 3 ملايين منهم. بغض النظر عن النفخ الواضح في الأرقام الذي يعد جزء من السياسة الإعلامية للقائمين على المهرجان، فإن الحقيقة المعروفة لدى كل عاقل أن قيمة أي مادة إعلامية أو فنية أو تربوية أو سياسية لا تحدد ضرورة بعدد المتابعين لها، بقدر ما ترتبط بعناصر أخرى تتعلق أساسا بقيمة مضامينها من الناحية العلمية والعملية والجمالية وسمو القيم الإنسانية التي تحملها... فهل يدل مثلا إقبال أعداد كبير من الجمهور على مشاهدة حفل راقص يخاطب الغرائز عوض القلوب – هل يدل ذلك – على أن هذا النشاط أنفع وأهم من مادة علمية أو فنية أو سياسية يحضرها نفر قليل من الناس؟؟؟ وأي رسالة سيقدمها "الفنان" عندما يصبح مجرد سلعة باهظة الثمن مقابل الإثارة والشحن الغريزي. وهل وظيفة الدولة التي عبأت كل وسائلها لدعم المهرجان هي مسايرة موجات الموضة في الرقص والغناء من خلال تأثير قنوات الفيديو كليب وغيرها أم إنها مطالبة بإعداد إستراتيجية متكاملة تتوخى الإسهام في الرقي بالذوق العام نحو الفنون التي تدعم القيم الإنسانية السامية؟ من جانب آخر، وإزاء جدل الأرقام وهذا النقاش المقلوب حول حجم وعدد الجمهور المتابع للمهرجان، لم يستحضر السيد حداد الآلة الإعلامية الجبارة (السمعية والبصرية والمتحركة والثابتة...) التي تم تحريكها للدعاية للمهرجان. هل هذا الحجم أو حتى عُشره هو الذي تقوم به وسائل الإعلام الرسمية من أجل التواصل بشأن قضايا وملفات في مجالات العلم والثقافة والسياسة والمجتمع أو حتى الفن المغربي الأصيل. ختاما أقول إن جوهر التهافت في منطق الرأي الذي دافع عنه الأستاذ حداد يرجع إلى كونه تحدث بمنطق ميوله الفنية الشخصية- التي أحترمها على كل حال- "وما يريده الجمهور" المفترى عليه، ولم يتحدث بمنطق المثقف أو السياسي المسؤول. ذلك أن وظيفة المثقف ومعه السياسي ليس التطبيل والتصفيق خلف الوقائع والأحداث بل وظيفته الأساس هي الإسهام في دعم واقتراح الإطارات النظرية والمبادرات العملية الكفيلة بالنهوض بواقع الثقافة والسياسة والفن إلى المستوى الراقي المطلوب ليكون الفن والثقافة وسيلتين لعكس تطلعات وإبداعات الشعوب، وفي نفس الوقت ليكون رافعة مساهمة في تحقيق التنمية الشاملة؛ عوض أن يكون مظهرا مفضوحا للفساد المالي والإداري واستغلال النفوذ.