هل السياسة في خطر ؟ هل المؤسسات السياسية في تراجع ؟ هل نعيش في زمن من التأخر الديمقراطي كما سيتبين لنا أو كما نريد أن نفهم من خلال عنوان هذا الموضوع ؟ بالتأكيد هناك مؤشرات ودلائل ، تصب في هذا الاتجاه . فاللامبالاة وعدم الاهتمام بالسياسة و الإحجام عن المشاركة بلغ أشده خلال انتخابات سابع أكتوبر 2016 ، حيث وصلت نسبة العزوف الى57 في المائة من مجموع الناخبين المسجلين حسب الإحصائيات الرسمية ، في حين تقول بعض المصادر الأخرى أن النسبة الحقيقية للعزوف ناهزت 74 في المائة ، ولو أتيح لدعاة المقاطعة حقهم في التواصل مع المواطنين أسوة بدعاة المشاركة لكانت النسبة كارثية. هذا الموقف السلبي تجاه العمل السياسي من طرف المواطن ، صاحبه فتور في العلاقات بين المفكرين والمثقفين من جهة والوسط السياسي من جهة أخرى، و أضحى كل من له آراء فعالة في الموضوعات السياسية لا يعبر عنها و ينعزل عن الاهتمام بمشاكل المجتمع و المشاركة فيها، مما فتح المجال إلى تيار الأصوليين الشعبويين للتربع على رأس قائمة الأحزاب السياسية بنيله اكبر عدد من المقاعد البرلمانية وتراجع كبير للقوى اليسارية التقدمية التي كانت إلى وقت غير بعيد تتصدر المشهد الحزبي في المغرب . هذه النتيجة تحدث الخوف والقلق على مستقبل الديمقراطية والمؤسسات السياسية وتجرنا إلى البحث عن أسباب إنكار السياسية وزوال محبتها لدى المواطنين. فمن الخطر على مستقبل البلاد وكيانها أن تبقى أغلبية الشعب بدون تمثيلية سياسية، لأن ذلك يهدد الاستقرار السياسي ويضعف السلطة السياسية القائمة ويدفع بالتالي إلى أزمات اقتصادية واجتماعية كالبطالة والحرمان والاستبعاد وتفكك العلاقات العائلية والعنف . لذلك لابد وبواسطة الهدوء والتمهل والصبر من إعادة بناء نظام ديمقراطي صادق قائم على مؤسسات دستورية قوية وشفافة تحترم فيها إرادة الناخب و المواطن بشكل عام . إن أول سبب لما آلت إليه السياسة من عزوف ذو بعد أخلاقي يتجلى في فقدان المواطن للثقة بالطبقة السياسية نتيجة تفشي ظاهرة الفساد داخل الوسط السياسي بسبب تصرف مسئولي الأحزاب السياسية الذين يعتمدون على القرابة والزبونة والرشوة من اجل كسب أصوات الناخبين والظفر بأكبر عدد من الأصوات للوصول إلى الحكم واحتكار السلطة. والغريب في الأمر أن أغلبية الأحزاب السياسية ،إن لم نقل جلها ، رفعت خلال الحملة الانتخابية شعار محاربة الفساد، لكن ثبت فيما بعد أن ذلك كان مجرد شعار و أن الهدف من وراءه هو الوصول إلى السلطة والجلوس على الكراسي لخدمة المصالح الشخصية والعائلية والحزبية عوض تنفيذ البرامج والدفاع عن القيم التي وعدت بها المواطن والجماهير الشعبية بشكل عام . لذلك فما الجدوى من الذهاب إلى صناديق الاقتراع إذا كان الهدف هو اختيار أشخاص يمتهنون السياسة لخدمة أغراضهم الشخصية الضيقة على حساب المصلحة العامة ؟ وخير مثال في هذا هو الحكومة المنتهية ولايتها بقيادة حزب العدالة والتنمية التي اعتمدت في بدايتها على شعار محاربة الفساد والاستبداد ، لكن التقارير الصادرة عن المنظمات الغير الحكومية الوطنية والدولية أثبتت أن العكس هو الذي حدث و أن الفساد زاد واتسع نطاقه في الحياة العامة خلال هذه الولاية الحكومية ، وبالتالي فإن حزب العدالة والتنمية أخل بواجبه والتزاماته إزاء الناخبين واخلف وعده تجاه عامة الناس و المواطنين ، وهو ما يمكن أن ينتج عنه إلا المزيد من النفور من صناديق التصويت والسياسة بشكل عام. إن المجتمع والعالم من حولنا يتسم بالتحول والتغير وتسارع الأحداث إلى درجة كبيرة ، لكن السياسة في بلدنا لم تواكب هذا التطور ولو بشكل بسيط ، حيث بقيت رهينة تصرف بعض المسئولين الحزبيين وأشخاص يمتهنون السياسة و يتخندقون وراء الانتخابات لخدمة أغراضهم الشخصية والعائلية والحزبية عوض الإجابة عن أسئلة المجتمع ، وهو ما ترتب عنه العجز على إيجاد الحلول للعديد من المشاكل منها مشكلتي التعليم و الصحة و مشكل البطالة وكذا المديونية والفوارق الاجتماعية . فلماذا الاهتمام بالسياسة إذا لم تستطع تقديم الحلول لمشاكل المواطنين ؟ إن ما يهدد السياسة ويقوض الوطنية هو سيادة عقلية انتهازية ، طائفية شوفينية تتعصب للدين ، للجهة أو العائلة أو الحزب و التي قد تؤدي إلى تدهور التماسك الاجتماعي وانتشار العنف وانهيار المؤسسات والسلطة السياسية . ومن الأسباب الأخرى التي ساهمت في ما آلت إليه السياسة من عزوف ، تحكم وزارة الداخلية في ما مضى في أصوات الناخبين حيث قامت في السابق بتمييع الحياة السياسية عن طريق تزوير الانتخابات وخلقت نخب انتهازية و وصولية لا تراهن إلا على خدمة أغراضها ومصالحها الخاصة . وبالرغم من أن هذه الوزارة أخذت اليوم مسافة ولو نسبية تجاه التلاعب في الانتخابات إلا أن الشعور الذي بقي سائدا لدى أغلب المواطنين هو أن المسلسل الانتخابي ما هو إلا مسرحية وخداع للشعب لأنه، في رأيهم ،لا يحترم إرادة الناخبين و النتيجة تتحكم فيها السلطة ، لذلك فما الجدوى من الذهاب إلى صناديق التصويت إذا كان الأمر هكذا؟ من جانب آخر فإن هزالة المشاركة السياسة في الانتخابات ترجع كذلك إلى افتقاد الأحزاب السياسية للفكر وللمرجعيات الإيديولوجية التي تغذي النقاشات وتعطي القوة للخطاب السياسي ليصبح جذابا ويستقطب اكبر عدد من الجموع لتحويلهم إلى أصوات . فالتدافع والتنافس السياسي خلال الحملة الانتخابية لم يرتكز حول الأفكار والبرامج بل اقتصر في اغلبه على تبادل الاتهامات بين الأشخاص بأسلوب شعبوي لا يرقى إلى الأخلاق السياسية ، وتم استعمال مصطلحات وألفاظ لا تليق بالسياسيين الحقيقيين وهذا لا يمكن أن يقبله مجتمع أصبح معظم إفراده أكثر وعيا وثقافة وأكثر استقلالية ويتسمون بالاختلاف والتنوع . إن المشاركة المكثفة في الانتخابات يعد شرطا ضروريا لإضفاء الشرعية على المؤسسات المنتخبة والنظام السياسي بشكل عام ،غير أنها غير كافية لإعادة الثقة للمواطن للاهتمام بالسياسة، فذلك لن يتم إلا بتوفير بيئة سياسية سليمة ونظيفة تضمن حق المشاركة السياسية الفاعلة، وهذا يتطلب مفهوما جديدا للسياسة مبني على القيم و الأخلاق والمبادئ الديمقراطية وإجراء مصالحة بين النخب السياسية والمواطنين والتفكير في المستقبل من أجل تحقيق مصلحة الوطن . * دكتور في القانون العام