«لايوجد ضمن المتحاربين أعزل»، «وليس في المعتوهين عاقل»، الخلاصة التي يستخلصها كل امرئ قرر أن يختار مكانا عاليا ليس من أجل الهروب والتفرج من البرج العالي على بقية الناس من بني جلدته، وإنما فقط لكيتتوضح له الأمور بشكل أكثر حيادية وأكثر وضوحا، وحتى لا ينضم إلى طائفة معينة بحذافيرها ويذهب مع تيار ما قد يحسب مع الغلبة أو الأقلية أو الرابح أو الخاسر أو المتأسلمين أو الكفرة أو المرتدين... وغيرها من التصنيفاتالتي يحب الكثير إحداثها وخلقها، من أجل التفرقة والتقسيم بين بني البشر وبين أبناء البلد الواحد. بتموقع المرء في زاوية توضح له الصورة وتسمح له بالرؤية الشاملة من كل الزوايا... لا تجعله ينقاد بسهولة وتحت ذرائع كثيرة مع القطيع ويمشي مع التيار الجارف أو يكون ضد التيارفقط... وإنما تمكنه من أن يمعن النظرويستعمل تلك الطاقة التي طالما تم تخزينها وتجميدها في المجمد لفترات طوال، وحكم عليها بالنعاس والسبات العميق، الشيء الذي تولد معه لدى طائفة ليست بالقليلة من بني جلدتنا بالتبعية غير المشروطة وغير الطارحةللاستفهامات الكبرى التي تشكل المدخل الاساس للفهم وللتوضيح وإزاحة لثام الدمغجة الذي يتخذ عدة ألوان وأشكال من الرداءات والتلوينات السياسية وأن يتمكن بالتالي من الاختيارالصحيح والحق. فما إن يجلس المرء محايدا ومستقلا يرى الحرب القذرة تزحف وتزحف بلا هوادة نحو اكتساح البلاد والعباد، وتشرعن كل الوسائل والطرق... ولا يوجد هناك طريق معاب أو ممنوع ومحرم... والكل حلال ومباح ولا توجد هناكمنطقة وسطى بين نيراها ولظاها والكل في النهاية مستهدف ومكتوي بلهيبها... ولا توجد شريحة محايدة وبعيدة عنها، وتتخذ لها برجا شاهقا وتختار منطقة سامقة...بل يصبح الكل فعلا أمام قيام القيامة والمرور من الصراطالمستقيم الذي ستنهجه الجهة التي ستغلب في نهايتها. ففي الحرب القذرة وفي مكانك المحايد، تبدو لك صوركثيرة وطرق عديدة ومتنوعة... فهناك من يشحذ لسانه ويعمل على إطالته وإتقان فنه من أجل التلاعب بالبعض وكسب وده والفوز بالتالي بتأييده... وهناك من يستعمل جيبهويغدق الهدايا والمساعدات الإنسانية (التي يكثر مفعولها كل بداية قذرة) انطلاقا من الدراجات واللوازم المدرسية إلى كبش العيد وإجراء بعض العمليات الطبية وإدخال بعض التعديلات الميدانية أو تقديم بعض المنح الماديةالسمينة أحيانا للوسطاء الذين يتحكمون في زمام الأمور، ويعملون على قنص الأصوات وجلبها إلى شبكة صيادي الفرص واستغلال ضائقة الفقر والجهل والمرض... في حين يختاربعض أطراف الحرب القذرة الظهور بمظهر الإنسانية والمبادئ المثالية والنبل والشهامة والغيرة على الشعب وغيرها من المبادئ الوطنية، والعمل بشكل جدي على دراسة كيفية اكتساب الصفات الكاريزماتية التيكانت في زمن ولى وذهب، تحتل فيه الكاريزما الحقة والفطرية الدور الأساس أمام منافسي الحروب الانتخابية والسياسية، و التي سرعان ما بدأت تخفت شرارتها ومفعولها ويقل عدد المتمتعين بها نتيجة متغيرات عدة، عنوانهاطغيان الحب المرضي للذات مقابل الجماعية والمصلحة الذاتية فوق كل المصالح الاخرى. وهناك من ابتكر وسائل أخرى وطرقا أنجع لا تشمل فقط البوليميك والمساعدات الإنسانية والاشتغال على الصفات الكاريزماتية، وإنما اختار أن يجمع كل هذا وذاك، وأضاف إليه الوسيلة الأكثر والأبرع في الوصول إلى القلوبألا وهي التمنطق بالسلاح ذي الحدين والأكثر فعالية وتأثيرا... هو سلاح الدين الذي يخيم عليه هذا الطرف معينا نفسه هو الراعي الوفي له... وكأنه هو وحده من له حق امتلاك الدين والدود عنه، وأنه هو المتدين وحده والمسلموحده... فيسعى جاهدا في التدثر بطاقية الدين، وتقمص شخصية الورع والإيمان القوي الذي ينأى بالعباد عن المعاصي والموبقات، وعدم الإتيان بكل ما يتم النهي عنه، والقيام بكل ما يتم النصح به من خير وعدل ومساواة... طمعا في التقرب من الله عز وجل ومخافة منه وأن السبب الرئيسي وراء خوضه هذه الحرب القذرة هي المصلحة الفضلى للوطن والمواطنين وليس أية مصلحة أخرى...؟ !! لكن الوسيلة التي يراها أصحاب الزاوية المستقلة الأكثر قذارة والأكثر بؤسا وانحطاطا والأكثر ميوعة وعفونة في «قيامة» الحرب القذرة واللعبة الأكثر قذارة هي التلاسن بين السياسيين وأبواقهم والتشهير والبحث عن نقاط ضعف الخصم في اللعبة السياسية القذرة، ونشر غسيلها أمام الملأ... والعمل على تأليب الرأي العام عليه وتكفيره ونعته بالفاسق والمرتد أو بالإرهابي وبالقاتل والدموي، وغيرها من الصفات الإجرامية والتكفيرية التي يطلقهابعض أطراف الحرب القذرة على عواهنها... أو حينما يلجأ أطرف خصوم السياسة وأطراف الحرب القذرة إلى الدعاية المضادة كمحاولة للتنكيل والتبخيس من قيمة الطرف الآخر، ونعته بكل ما خرج من الحلق وتقدم نحو الشفتين من كلمات «حامضة» وعطنة ودونتمحيص أو عقل أو تأكد ... فمتى سترقى السياسة ببلداننا وتتطور؟ ومتى ستنزاح عنها هذه الخدع البالية والضاربة في الاهتراء والقدم وتتسم بالديموقراطية الحقة، والمبنية على الشفافية والوضوح وعلى مايتبناه وما يمتلكه أطراف الطاحونة السياسية منبرامج كاملة وفعلية ومفعلة، ستخدم البلاد وتتناول أولويات المواطنين من صحة نفسية وبدنية وتمدرس للجميع وفي شروط جيدة وعمل قار لكل متعلم وحاصل على شهادات وتحسين ظروف العيش وتحقيق السلم والأمان بالبواديوالمدن، والقضاء على كل العاهات الاجتماعية التي أصبحت تتصاعد وتتفشى من إرهاب ومخدرات وانتحار... وغيرها من أولويات أبناء الشعب، بدل التركيز على الأعراض والتكفير وإطلاق الأحكام المسبقة بدون معرفةمؤكدة...؟ !!! فإلى أين تسير بنا هذه الطاحونة البالية ومتى ستحط هذه الحرب القذرة أوزارها وتغير أدواتها وترقى بأساليبها وتشتغل على برامجها... ومتى سيتحمل المواطن المسؤولية الكبرى ويحسن الاختيار المبني على الاهداف الكبيرة والبعيدة المدى ... وأن لايكون مجرد صوت يباع ويشترى في سوق الانتخابات المسعورة... ؟؟؟ *كاتبة صحفية