حين تشاء الحكمة الإلهية أن يرزق والدان بطفل معاق، تتغير أشياء كثيرة في حياتهما. أولى هذه "الأشياء" ذاك الإحساس القاتم الذي يجثم على صدريهما. همٌّ مقيم ومقعد لا يبرح القلبين الشفيقين. تتساكن في القلبين عاطفة الرحمة وهم القلق على المستقبل، وتقضي الأعين الباكية ليال طوال دون أن يرف لها جفن. وفي غمرة السعي وراء العلاج "المستحيل"، تهدأ الأنفس وتسكن وتنسى. تحاول أن تنسى، لعل في النسيان بعض عزاء ! وقد كنت ذاك الصبي قبل ثلاثين عاما ونيف. وكان من ألطاف الله البهية أن دببت على قدمي، تحت بصر الوالدين، شهورا قبل أن يشتعل جسدي بحمى لم "تهمد" حتى همدت رجلي اليمنى إلى الأبد. لا يتسع المقام لأحكي تفاصيل الرحلات المتواصلة إلى المستشفيات، في أيام براءتي الأولى. وقد نسيت الكثير منها، وعلقت بالذاكرة أطياف أطباء وجدران وقطارات وساعات طويلة من الانتظار. ثم صرت، منذ ذاك، معاقا يخطر بعرجته في شوارع مدينته الصغيرة وأزقتها. ولئن تحرّج نظرائي من الحديث عن إعاقاتهم، فإني لا أتحرّج. فقد صنعت على عينها وكانت، بفضل الله، منحة حياتي الكبرى وجائزتي الأُثيرة. وفي زمن الشغب الطفولي، لم تمنعني إعاقتي من لعب كرة القدم، حارسا "مغوارا" لا تنفذ الكرة إلى شباكه.. إلا حين يرميها لاعب نبيه إلى الجهة اليمنى ! أنشأ الله فيّ ومني خلقا آخر. وعشقت خطرتي الغريبة على الأرض، غير آبه بالتعب الجسدي ولا بالمجهود البدني المضاعف الذي أبذله كل يوم. أبذله "راضيا ومولها" بلا جزع ولا سأم ولا تأفف. من ذا كنت أصير بدون هذه الإعاقة؟ عافية الرحيم هي أوسع لي، لكني أستقبل اختياره بالرضى والتسليم والمحبة، موقنا أنه الخير كله وإن لم تر فيه الأعين الناظرة سوى العيب في الخلقة والثلمة في الكمال الجسدي. والحقيقة أنني لا أستطيع أن أتخيل نفسي على هيئة غير هذه. ليس في ذلك استمراء للمعاناة، كما قد يحسب البعض، ولكنه إحساس ينبعث من أعمق دواخلي كلما خطرت لي هذه الخاطرة. شدتني هذه الإعاقة من مخانقي لأطل على وجه الحياة المشرق. في سلاسل الاضطرار اقتادتني، على درب الألم، لأدرك معنى أن تكون إنسانا لا يحمله وهم الكمال على الاستعلاء والكراهية والحقد البغيض. *كاتب صحافي – منتج إذاعي سابقا