ما هي العوامل القوية التي تؤدي إلى انخفاض نسبة مشاركة المغاربة في الانتخابات، سواء كانت تشريعية أم جماعية؟ أو بعبارة أخرى، كيف نفسر لامبالاتهم تجاه صناديق الاقتراع حين يكونون مطالبين بالذهاب إليها؟ ملاحظات أولية: سنقترب من هذا الموضوع بالذات، من خلال تسجيلنا للملاحظات الجوهرية الآتية: أولا- إن ظاهرة الانخفاض النسبي للمشاركة في الانتخابات المغربية ظاهرة ملحوظة في الحياة السياسية، منذ استحقاقات 1984 على الأقل [الإحصائيات الرسمية لوزارة الداخلية نفسها تفيد ذلك]. أما الجديد اليوم في هذه الظاهرة فهو، بالضبط، هذا الانخفاض المتواصل الذي يكاد يتحول إلى موقف رافض للحياة السياسية برمتها. وهذا ما يشكل في حد ذاته معطى سوسيولوجيا خطيرا ما فتئ ينمو ويتسع، مع التنبيه إلى أن هذا الرفض لا يعني عند عدد كبير من هؤلاء المقاطعين عدم الاكتراث بما يجري في الحقل السياسي المغربي بقدر ما يعني رفضا للخطاب وللقيم والقواعد والسلوكيات السائدة في قلب هذا الحق. ثانيا- يلاحظ بوضوح أن ظاهرة مقاطعة الانتخابات المغربية تتزايد رقعتها كلما قل تدخل الدولة [وزارة الداخلية بالتحديد] في صنع الخريطة السياسية، أو ربما أيضا كلما قل تدخل مافيا الانتخابات وسماسرتها؛ وهو شيء معروف في عهد ما كان يسمى ب"أم الوزارات". وقد لاحظنا أن ظاهرة لا مبالاة الناخبين بالحملة الانتخابية وبيوم الاقتراع أيضا لافتة للنظر في الاستحقاقات التشريعية لشتنبر 2007 والاستحقاقات الجماعية في سنة 2009، بل أيضا في تشريعيات 2012؛ وهي الانتخابات التشريعية الأولى بعد دستور فاتح يوليوز 2011، ليس فقط في الأوساط الحضرية، بل حتى في المناطق القروية التي كانت تعرف في الماضي، بحكم سيادة قيم التضامن القبلي والعشائري من جهة، والتدخل القوي للسلطة من جهة أخرى، نسب مشاركة عالية جدا. ومما لا شك، في ضوء تقديرنا لحجم وطبيعة هذه الظاهرة، أن تدخل الدولة أو تجار الانتخابات في الماضي كان عاملا لا يستهان به في الرفع من نسبة المشاركة. بعبارة أخرى، يمكن القول إن انخفاض نسبة المشاركة تلاحظ بوضوح أكبر، كلما كانت الانتخابات أكثر شفافية ونزاهة. وأنا أقصد، بالتحديد، كلما تمتع الناخب أكثر بحرية الذهاب أو عدم الذهاب إلى صناديق الاقتراع، وكلما تم الإعلان بنزاهة أكبر عن الإحصائيات الحقيقية لعملية الاقتراع. ثالثا- إن نمط الاقتراع، في حد ذاته، يؤدي إلى بعثرة العمق السوسيولوجي للقاعدة الانتخابية للمرشحين، سواء في البوادي أو في المدن. وإذا كان ملموسا اليوم أن نمط الاقتراع الجاري به العمل نظام فاشل على مستوى التحليل السياسي للنتائج النهائية الرسمية، من حيث يؤدي إلى إنتاج حقل سياسي ضعيف لا وجود فيه لأقطاب سياسية قوية قادرة على تجديد المشهد وتغيير الحياة السياسية المغربية الرتيبة والمملة في وجدان الناخبين، فإن هذا النمط من الاقتراع في حد ذاته، بحكم قيامه على نظام الدوائر الانتخابية الشاسعة وعلى نظام لوائح الريع السياسي، أدى كذلك إلى ضعف تواصل المرشحين مع الناخبين. وفي حالات كثيرة، كان تربع أعيان أو أطر عليا أو قياديين حزبيين فاقدين لعلاقات سوسيولوجية ملموسة وحقيقية مع دوائرهم الانتخابية عاملا قويا في اشمئزاز الناخبين من العملية برمتها، وبالتالي نفورهم من يوم الاقتراع. لقد لاحظنا أن الأحزاب السياسية المغربية تحاول أن تعطي الانطباع بأنها، فيما يتعلق بسؤال انخفاض نسبة المشاركة، منشغلة وقلقة بهذا المعطى السياسي اللافت للنظر. وتحاول أن تسوق عن ذاتها صورة الهيأة السياسية الحداثية التي لا تخيفها المعطيات السوسيولوجية أو السوسيو-سياسية الملموسة على أرض الواقع. ومن أجل تحقيق هذا المسعى، تحاول الأحزاب السياسية أن تبدو بمثابة المؤسسات التي تنصت باهتمام بالغ إلى نبضات المجتمع، وبالتالي إلى صوت الأغلبية التي تحجم عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع، لا فقط إلى أصوات زبنائها الانتخابيين. وبصفة عامة، تتراوح ردود الأفعال الحزبية التي أثارها هذا السؤال، بين التوجهات الأساسية الآتية: أحزاب سياسية فتية وحديثة العهد بالحقل السياسي، ولم نسمع إلى حد الآن على الإطلاق أنها طرحت هذا السؤال، أو أنها في طور الإعداد السياسي والتنظيمي لطرحه على هياكلها الخاصة. أحزاب سياسية لا تطرح هذا السؤال إلا بصفة عرضية، أو أنها لا تبدو منشغلة به إلا إذا اضطرت للجواب عنه في أستوديو تلفزيوني مثلا. وهذا حال أغلبية الأحزاب، حكومية ومعارضة. ومن ثم، فإن سرعان ما يغيب هذا الهاجس من انشغالاتها السياسية، ربما لأنها غير مؤهلة سياسيا وإيديولوجيا وتنظيميا لتقديم أجوبة معينة، وهي واثقة أن هذا السؤال يتجاوز حجمها داخل الحقل السياسي. أحزاب سياسية تبدو قلقة على مستقبلها السياسي وواعية بعدم جدوى وجودها على رقعة اللعب السياسي، حيث قدم زعماؤها تصريحات صحافية تفيد بأنها لن تقدم مرشحين للانتخابات الجارية؛ لأنها في طور التفكير ومراقبة ما يجري داخل الساحة الانتخابية قصد العمل على تقويم الوضع واتخاذ الموقف المناسب. مثال ذلك حزب القوات المواطنة، والحزب المغربي الليبرالي؛ لكننا لا ندري، إلى حد الآن، مصداقية وجدية هذا النوع من التصريحات. أحزاب سياسية تتعامل بصفة انتهازية أو سطحية مع هذا السؤال المستفز، وقد تقدم لنا أجوبة بعيدة كلية عن المعطيات الحقيقية التي يتطلبها الموقف. هذه الأحزاب إما أنها تتوسل الجواب عن سؤال مقاطعة أغلبية كبيرة من المغاربة لصناديق الاقتراع بأسباب سطحية واهية لا يسندها أي منطق موضوعي، كأن تفسر هذه المقاطعة بإكراهات وانشغالات الدخول المدرسي وحلول عيد الأضحى، أو أنها تتوسل الجواب بمعطيات ليس لها علاقة قوية ومباشرة بالموضوع بالرغم من أهميتها، كأزمة المثقف المغربي وغيابه الملحوظ على ساحة الفعل السياسي، وبالتالي دوره في عملية التغيير، وكأن صوت المثقف وحده قادر على خلق الصيرورة التاريخية المفترضة. وهذا تحايل واضح على المعطيات الحقيقية التي يقتضيها الجواب، والتي تستلزم بشكل إستراتيجي جرأة سياسية ونقدا ذاتيا قويا. وفي كثير من الأحيان، نجد هذه الأحزاب تفسر عادة ظاهرة مقاطعة الانتخابات على أساس أنها ظاهرة دولية موجودة في كثير من البلدان، حتى تلك التي لها ماض عريق في التجربة الديمقراطية، وهو تفسير سياسوي، ضعيف وركيك لحقيقة الحياة السياسية الجارية، ونحن نسمع مثل هذه التفسيرات المجانية بعد كل استحقاق انتخابي. أحزاب سياسية تنتمي إيديولوجيا إلى صف اليسار أو ما يسمى باليسار الراديكالي، حديثة العهد على الرقعة الانتخابية؛ لكن رصيدها النضالي على الساحة السياسية والحقوقية الوطنية، وتجربتها الإيديولوجية الواسعة يتطلب منها جرأة سياسية على طرح السؤال ونقدا حقيقيا لمواقعها السياسية ومشروعية وجودها في قلب الحقل السياسي، خاصة بعد أن خاب أملها الانتخابي إلى حد كبير. وهذا حال الحزب الاشتراكي الموحد والحزب العمالي المغربي وحزب الطليعة، والحزب الاشتراكي مثلا. أحزاب سياسية تقاطع الانتخابات بصفة علنية وقوية، وتقدم في العادة تبريرات معينة حول عدم مشاركتها. كما تقدم لنا تصورها حول أسباب عدم تحمس المغاربة للذهاب إلى صناديق الاقتراع؛ وهي بصفة عامة تفسيرات فيها الكثير من المعقولية. وأهم هذه الأحزاب: حزب النهج الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الأمازيغي قبل حله. تنشغل كل الأحزاب التي تحصل على المراتب الأولي بعد إعلان النتائج النهائية، بتحالفاتها الهشة وعدد ونوعية الحقائب التي قد تحصل عليها، منتظرة على عجلة من أمرها ليوم تسمية الملك لرئيس الحكومة الجديد. ويمكن القول إن نسبة المشاركة في الانتخابات هي آخر ما يمكن أن تلتفت إليه الأحزاب المغربية، سواء الفائزة والفرحة بمرتبتها أو تلك التي تأتي في مراتب متأخرة. لا شيء من هذه التحليلات، إذن، يقترب من فهم انشغالات أغلبية المغاربة الذين لا يذهبون للتصويت يوم الاقتراع. ويتم، في الغالب، نعت هؤلاء المغاربة الذين لا يذهبون إلى التصويت بالعدميين أو اليائسين. ولا أحد، إذن، طرح السؤال بجدية عن أسباب لامبالاة هؤلاء بالمشاركة في الانتخابات. لماذا، إذن، لا تشارك نسبة كبيرة من المغاربة في الانتخابات؟ كيف يمكن أن نقترب من هذه الظاهرة على المستويين السوسيولوجي والسياسي؟ فرضيات نقدية : لا أحد، في الحقيقة، يمتلك جوابا حاسما في هذا الموضوع؛ نظرا لأن تعقيدات كثيرة ومن طبيعة متباينة، سياسية وإدارية ولوجستيكية، ثقافية وسوسيولوجية، تحوم حوله من جهة، ولأن هذا الموضوع أولا وقبل كل شيء شأن يهم الاختيارات الذاتية والسيكولوجية لملايين المغاربة وينتمي إلى دائرة الحريات الفردية، إضافة إلى كونه شأن يهم الدولة والمجتمع في الوقت نفسه من جهة أخرى. نحن لا نعتبر أن الأحزاب السياسية وحدها تتحمل مسؤولية التراجع المهول لنسبة المشاركة الانتخابية؛ لأنها، ببساطة وفي تقديرنا الخاص، عينات مؤسساتية صغيرة من نسيج اجتماعي معقد، غير أنها مسؤولة إلى حد كبير، شأنها في ذلك شأن النظام السياسي القائم. هناك، في تقديرنا الشخصي، فرضيات نقدية أساسية، ينبغي استحضارها في تفسير عوامل مقاطعة المغاربة لصناديق الاقتراع، إضافة إلى الملاحظات السالفة الذكر، من أهمها: الفرضية الأولى- إحساس الناخبين، كيفما كان مستواهم الفكري أو مواقعهم السوسيولوجية، بأن نظامهم السياسي القائم نظام ملكية تنفيذية قوية ولا محدودة الاختصاصات. ومن ثم، فإن البرلمان يبدو من هذا المنظور مؤسسة عديمة الجدوى. هذا الانطباع الذي يتزايد بقوة في الوجدان واللاشعور السياسي لعموم المغاربة، يغذيه كون كل الأوراش الكبرى للمملكة في السنوات الأخيرة يقودها الملك، وحضوره اللافت للنظر والمنتظم بدقة متناهية في كل ما يسمى بالجيل الجديد للإصلاحات يعطي الانطباع أيضا بأنه هو شخصيا من يقوم بمراقبة مشاريع الحكومة لا البرلمان، أو في أحيان أخرى تبدو الحكومة نتيجة لهذا الوضع، كمجموعة من الموظفين السامين، أو كمكلفين بمهام لدى السلطات العليا. الفرضية الثانية – الصورة الباهتة لمؤسسة البرلمان في ذهنية الناخب المغربي بجميع فئاته وقواه الاجتماعية، سواء في المناطق الحضرية أو القروية، وبالتالي الصورة السيئة والمقرفة للعمل النيابي في ذهنية المغاربة. فمن ظاهرة تغيبات فئة عريضة من النواب عن قبة البرلمان، إلى ظاهرة الترحال السياسي لنواب الأمة من فريق إلى آخر، إلى ظاهرة الأسئلة الشفهية المملة وعديمة الجدوى والفاقدة لأبسط شروط الفرجة النيابية والجرأة السياسية، خسرت مؤسسة البرلمان قيمتها السياسية الحقيقية في مجتمع فتي ينتظر أن يوضع على سكة التغيير، وأن يكون البرلمان لاعبا أساسيا في هذه العملية العسيرة. كيف يعقل مثلا أن يصادق على القانون المالي لسنة نيابية كاملة، عشرات معدودة من النواب فقط، مع العلم أن الأمر يتعلق بالقانون الذي يرهن مالية الدولة طيلة سنة كاملة، ونطلب بعد ذلك من الناخب أن يذهب بكثافة إلى صناديق الاقتراع؟ إن البرلمان، بهذا المعنى، لا يضطلع بمسؤولياته الدستورية الحقيقية على الوجه الأكمل، فكيف يحافظ إذن على هيبته السياسية المطلوبة؟ كيف يعقل أن ينال البرلمان ثقة الناخبين إذا عرفنا أن أعضاء بعض اللجان البرلمانية كانوا في السنين الماضية القريبة لا يحضرون لأعمال اجتماعات هذه اللجان، إلا حين كان يحضر الوزير المنتدب السابق في الداخلية. وهذه ظاهرة معروفة في تاريخ البرلمان المغربي بشكل أكثر وضوحا وتميزا في عهد وزير الداخلية الراحل إدريس البصري؟ وكيف يمكن أن نتصور أن أعدادا كبيرة من النواب لا يزورون دوائرهم الانتخابية إلا من موسم انتخابي إلى آخر؟ وأخيرا وعلى سبيل المثال لا الحصر، هل يعقل بالمنظور السياسي الحداثي، وفي مؤسسة تشريعية لا يفتأ منظروها الحزبيون أو الحكوميون يصمون آذان المغاربة ببشرى ما يسمى بالخيار الحداثي والديمقراطي، أن تتحول نائبة برلمانية من حزب إلى آخر بسرعة قياسية، بل في الآن نفسه من المكتب السياسي للحزب الأول إلى المكتب السياسي الحزب الثاني؟ هل يعقل من منظور دستوري وسياسي وأخلاقي، أن يترشح أمين عام حزب سياسي باسم لائحة حزب سياسي آخر؟ إنها قمة السريالية السياسية التي يعيشها هذا البلد. من الواضح، ومما لاشك فيه، أن المغاربة تأكدوا، منذ مدة طويلة، أن البرلمان ليس ناطقا مخلصا باسمهم. وقد تبين لهم أنه لا يكترث للقضايا الحقيقية التي تهمهم، حتى تلك التي تكون أحيانا محدثة لضجة قوية داخل المجتمع، إلا بصفة عرضية يطغى عليها في أغلب الأحيان الاستعراض السياسوي، أكثر مما يشغلها الهاجس النيابي. الفرضية الثالثة- تظهر الحملات الانتخابية، التي تجري عادة قبيل كل اقتراع، عن ضيق الأفق السياسي لدى كل الأحزاب المشاركة، سواء القديمة منها أو الحديثة النشأة؛ فقد تبين أن الأحزاب السياسية منشغلة فقط بالحصول على عدد من المقاعد المحترمة التي تخول لها التحول إلى رقم سياسي لا بد منه في تشكيل الحكومة المرتقبة بعد الانتخابات. ولم يظهر على أغلب هذه الأحزاب أنها تمتلك إرادة سياسية حقيقية تعتزم أن تساهم بها في تنشيط الحياة السياسية المغربية الرتيبة، أو أن تتحول إلى صوت سياسي قوي يعرض مشاريع حقيقية تحت قبة البرلمان. خلاصة القول، إذن، هي أن الأحزاب المغربية تعطينا الانطباع بأنها معدة سلفا للحكم فقط، لا للوجود النيابي المسؤول سياسيا. وقد لاحظنا بكل وضوح كيف أن أحزابا [الاتحاد الدستوري على سبيل المثال]، وهي مستأنسة بالدواوين الوزارية الوثيرة مدة طويلة من الزمن، غابت نهائيا عن المشهد النيابي في البرلمان المنتهية ولايته. وكاد ينساها الناخب حين تبين أنها لم تعد تدري ما يجب فعله بمجرد ما وجدت نفسها خارج الأغلبية الحكومية الحالية. وتنطبق هذه الملاحظة حتى على أحزاب حديثة النشأة نسبيا وذات أصول سياسية يسارية، كحزب جبهة القوى الديمقراطية مثلا، إبان نهاية مشاركته في حكومة [التناوب التوافقي]. وهذا ينطبق أيضا على حزب التجمع الوطني للأحرار الذي كان تائها ولا يعرف ما ينبغي عمله حين كان في ما يسمى" المعارضة "البرلمانية، قبل التحاقه بحكومة بنكيران الثانية مهرولا إلى الحكم والمناصب، تاركا كل "مواقفه السابقة" وسجاله العقيم مع حزب العدالة والتنمية وأمينه العام بالتحديد. والمضحك هو أنه يفتخر اليوم في غمرة الاستعدادات للانتخابات المقبلة بأنه أنقذ البلد من أزمة سياسية في ذلك الوقت، بعد انسحاب حزب الاستقلال من صفوف الأغلبية. الفرضية الرابعة – وهي مستخلصة من الفرضية السالفة. إنها غياب معارضة سياسية قوية تحت قبة البرلمان؛ وهو ما يؤدي إلى إنتاج مشهد نيابي لا نكاد نسمع داخله إلا صوت الأغلبية الحكومية وصوت وزرائها ورؤساء فرقها البرلمانية. وقد أدى هذا المشهد إلى إضعاف صورة البرلمان لدى المغاربة؛ فباستثناء كثير من التدخلات النيابية القوية لحزب العدالة والتنمية، وحضوره المنتظم واللافت للنظر تحت قبة البرلمان، وإثارته أحيانا لقضايا سياسية مهمة وحساسة في حياة المغاربة ومثيرة للصخب السياسي والإعلامي، بالرغم من سكوته المقصود عن قضايا أخرى، تكاد الحياة النيابة المغربية تفقد طعمها السياسي جملة وتفصيلا. لقد قيل فيما مضى الكثير من الكلام، في تفسير عوامل النسبة المرتفعة لمقاطعة أغلب المغاربة للتصويت، ولم نلاحظ أنه تم الانتباه إلى معطى سياسي أساس، وهو أنه لو لم يكن حزب العدالة والتنمية اليوم موجودا في قبة البرلمان المنتهية ولايته، وفي رقعة اللعب الانتخابي، لانخفضت نسبة المشاركة في يوم الاقتراع المقبل بنسبة أكبر وعلى نطاق أوسع . فبين العمق الاجتماعي القوي للحزب لدى الأوساط الشعبية والتي انضافت إليها بعض فئات الطبقة الوسطى أو ربما الميسورة أيضا، وتلك الكتلة الناخبة التي تساهم في الاقتراع فقط، استجابة للحملات السياسية التي تطالب الناخب بالمشاركة قصد قطع الطريق على ما تسميه هذه الحملات المشار إليها ب: "الظلاميين" أو دعاة العودة إلى الماضي. إضافة إلى تلك الكتلة الناخبة التي ستذهب للتصويت إيمانا منها بمقاومة ما أصبح يسمى "التحكم"، هناك رقعة لا بأس بها، لن تذهب إلى التصويت يوم الاقتراع المقبل، لولا هذا الظرف الخاص، أي ذلك الحضور النشيط لحزب العدالة والتنمية في الساحة السياسية والنيابية والإعلامية، والدولة تدرك جيدا هذا المعطى السوسيوسياسي، وهي تقوم بتتبع وبمراقبة هذا الحضور القوي لهذا الحزب الذي يمتلك كفاءات تواصلية وتعبوية وتنظيمية مهمة، بدفع حزب الأصالة والمعاصرة إلى قلب المشهد، قصد مناوشته ومنافسته والحد من طموحاته السياسية والإيديولوجية، في نطاق تلك اللعبة السياسية الركيكة التي تسمى بالقطبية أو الصراع السياسي بين قطبين قويين، بعد أن يئست الدولة من قدرة الأحزاب السياسية التقليدية على لعب هذا الدور، وبالخصوص حزب الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي. الفرضية الخامسة – يختزلها التسويق الرديء للحملة الانتخابية من طرف كل الأحزاب بدون استثناء. وعادة ما تكون التدخلات الحزبية، بجميع الألوان والرموز الانتخابية، ركيكة على مستوى المقومات التواصلية، وضعيفة على المستوى الفكري وعلى مستوى الأداء السياسي. وهذا يعني بوضوح كبير تخلف الثقافة السياسية المغربية ونمطيتها الملحوظة؛ وهو ا يجعلها غير قادرة على استفزاز مشاعر الناخب وإثارة لا شعوره السياسي. وقد فشلت هذه الحملة، التي تستخدم وسائل الإعلام العمومي دون فائدة، في استثمار آليات الفرجة السياسية المعاصرة، التي كان بالإمكان أن تستطيع من خلالها الوصول إلى عواطف فئات اجتماعية عريضة من القاعدة الانتخابية. وهكذا، تبدو الأحزاب السياسية وهي تتناوب على منابر الإعلام العمومي قصد عرض برامجها مشاركة في مشهد ممل وبليد، يغيب فيه النص كما هو الشأن بالنسبة إلى الأداء. الفرضية السادسة - الفشل الذريع للتجربة الجماعية المغربية، ومساهمتها في إنتاج نخب فاسدة وانتهازية وغير جديرة بالثقة. وقد أدى هذا إلى المساهمة في التأثير السيئ على صورة البرلمان في ذهنية الناخب، إضافة إلى تلك الحملات المغرضة التي أدت إلى اختلاط اختصاصات البرلمان مع اختصاصات الجماعة القروية أو الجماعة الحضرية في ذهنية الناس البسطاء من عموم الشعب؛ وهي الصورة التي يساهم في ترويجها بعض المرشحين أثناء عرض برامجهم التي يطلقون فيها وعودا لا محدودة بخلق مشاريع محلية من صميم اختصاصات الجماعات المحلية. وبصفة موضوعية، فإن الصورة السيئة للجماعات المحلية تكون، في العادة، متكاملة مع الصورة السيئة كذلك لقبة البرلمان بغرفتيه في الوجدان السياسي المغربي، خاصة إذا عرفنا أن كثيرا من المستشارين الجماعيين أو رؤساء المجالس الجماعية هم أنفسهم نوابا برلمانيين في الغرفة الأولى أو مستشارين في الغرفة الثانية. سيأتي المراقبون الدوليون إلى المغرب لمراقبة الانتخابات يوم السابع من أكتوبر 2016، وسيكتبون بعد نهاية مهامهم تقارير حسنة بصفة عامة عن الكيفية التي تجري بها الحملة الانتخابية وعملية الاقتراع، بالرغم من بعض السلوكيات المشينة التي قد يعتبرون أنها عرضية؛ غير أنهم عادة ما ينبهون، مع ذلك في بعض التوصيات التي يرفقونها بتقاريرهم، إلى أن انخفاض نسبة المشاركة يخل بتحسن نسبة النزاهة في الانتخابات وبالمكتسبات السياسية المحققة إلى حد الآن. وإذا كان المغرب يكسب فعلا بعض النقط الإضافية في سجل تحديثه السياسي من منظور دولي استنادا على هذه التقارير بالذات؛ فإن على الدولة أن تعترف، بكل نزاهة وبجرأة سياسية قوية وموضوعية، بأن أهم حقيقة سياسية تتمخض عن الانتخابات التشريعية هي كون المعارضة الحكومية توجد بقوة سوسيو- سياسية أكبر، خارج قبة البرلمان، لا داخله؛ وذلك ما سيؤدي في السنين اللاحقة، في حالة عدم الانتباه إليها، إلى مشاكل سوسيو-سياسية عميقة لا يمكن الاستهانة بعواقبها. * جامعة محمد الأول