الدولة والاقتصاد والمجتمع وخيار التوازنات تدبرت الحكومة سنة 2014 برنامجا حيويا لمحاربة الفساد،وقدمت صيغتين عمليتين لتشجيع هذا البرنامج وتأهيله،الأولى تتعلق بوقف النزيف المالي،وكانت تحت شعار"عفا الله عما سلف"بشرط الامتناع، والثانية اعتمدت الحوار والتواصل صيغة مقنعة لاسترجاع المال المهاجر(المهرب) خارج الوطن،باسم جدولة رؤوس أمواله في الاستثمار الداخلي.الخطة في حد ذاتها، كانت ذكية ومرنة غير أن نتائجها لم تكن مفيدة. بالنسبة للمال"المهاجر"،قدمت الحكومة للمعنيين بدائل استثمارية مغرية وحسن النية،مع التعريف قدر الإمكان بسلامة الجهاز الإداري والقضائي،"وصيا عن الاستثمار"،فتلك من شروط تسهيل الاستثمار الداخلي التي ستفيد المشاريع الاستثمارية التي تستوعب المال المسترجع وتساعد على استعادة الأرصدة الموجودة بالخارج، وعلى وجه الخصوص . هذه المقاربة الإصلاحية مفيدة بالنسبة للاقتصاد الوطني وتعمل على الحد من كل عملية مالية يتسرب فيها المال العام إلى وجهة مجهولة،ويجد الرقيب المالي صعوبة كبيرة في معرفة مصادره ووجهته.وعدت الحكومة باسم رئيسها السيد عبد الإله بن كيران،أن عودة المال المهاجر ستفيد المغرب والمستثمرين المغاربة الذين سيجدون أمامهم وضعا استثماريا أكثر من جيد، يساعد على توظيف الرساميل المسترجعة، التوظيف الأمثل،ويعمل على تعزيز الناتج الداخلي الخام ويرفع من مستوى الأداء الاقتصادي . حققت الحكومة نسبة من برنامج تأميم الرساميل المهاجرة،بلغت حوالي 15 مليار سنتيم سنة 2014 ،لكن بادرة العفو مقابل استعادة المال العام المنهوب،كانت فاشلة،حيث لم يتم حتى الآن، استعادت ولو درهم واحد من الأموال العمومية التي تم الاستيلاء عليها في قضايا الفساد المالي. الحكومة لا تستطيع أن تفعل أكثر من ذلك،لأنها تتعايش مع الفساد بحذر شديد ومحكومة بتهديداته،التي قد تتسبب في تجميد قطاعات اقتصادية هامة.لا تحتمل الحكومة غضبة الشبكة الاقتصادية التي تشكل ثقل الضغط السياسي والاقتصادي في الموضوع، قد يتسبب ذلك في انهيار سوق المال والأعمال الناتجة عن ردة فعل انتقامية جراء الانسحاب المالي من سوق المنافسة والاستثمار.تخمن الحكومة تداعيات تلك القرارات وآثارها على الاقتصاد الوطني والعلاقات الحزبية وعلاقاتها مع الدوائر السياسية والاقتصادية وشبكات المجتمع المدني،وتضرب حسابات لما ستترتب عنه الأوضاع السوسيو اقتصادية إذا أقدمت اللبرالية المتوحشة على لعب دور خفي في ذلك مع احتمال تأجيج الوضع الاجتماعي وتحريك شرائح واسعة من المجتمع،تتسبب في احتجاجات فئوية تربط الربيع العربي ببعضه..؟ لقد تعرضت الحكومة سنة 2013 لتهديد مباشر من قبل الباطرونا،واضطرت إلى مراجعة مقترحاتها الحكومية في سياق برنامج إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني على ضوء المصلحة الاجتماعية،وقامت بوضع برنامج بديل قام بترضية الطبقة اللبرالية الاقتصادية وحماية مصالحها الخاصة.الكل يذكر كيف عارضت القوة اللبرالية بشعارات غير اقتصادية، أي سياسية، ميزانية 2013 أثناء مناقشتها في البرلمان في شهر أكتوبر 2013،لأنها – الحكومة - اعتمدت في النسخة الأولى من ديباجتها،مراعاة الجانب الاجتماعي، من جهة وتضمين القانون المالي لتلك السنة إصلاحات جبائية لا تخدم مصالح الباطرونا.تقدمت منظمة الاتحاد العام لمقاولات المغرب للحكومة بملتمس يرفض الإصلاحات الجبائية والزيادة في الضرائب، وخصوصا تضريب بعض القطاعات المعفاة من الرسوم واعتبار مقترح تضريب الأجور التي تفوق 25000 درهم شهريا،ضربا من التحدي الحكومي لمصالح فئات عريضة من المسؤولين العموميين.وكانت الباطرونا قد أحكمت سيطرتها على مكامن الضعف في التدبير الحكومي، وقدمت اعتراضا لا يقبل النقض في إقصاء فكرة تضريب المقاولات التي تحقق أرباحا تفوق 20 مليون درهم، حيث اعتبرت أن مثل هذا القرار يحمل نوايا سيئة ضد فكرة "النجاح المقاولاتي"وذكاء التدبير الجيد في الشركات الناشئة.لجأ حينها رئيس الحكومة إلى الرفع من الضريبة على الدخل والرسوم غير المباشرة والزيادة في المساهمة الدنيا للشركات الصغرى وتضريب قطاع التجارة المتوسطة والصغرى والرفع من ثمن الطاقة،مما ساهم في المس بالقوة الشرائية وأضر بمصلحة فئات واسعة من المجتمع الفقير الذي تؤدي ثمن التوافقات السياسية والمهادنة بين الحكومة(أحزاب الحكومة) والقوة الاقتصادية الصناعية والتجارية المهيمنة. العقل البراغماتي الاقتصادي غيب كل الحقائق التي يمكن أن تنير الأوضاع موضوعيا،ولم يعد هناك شيء اسمه المواطنة والتضامن والإسهام في نفقة الدولة بالنسبة للوبي الاقتصادي المتربع على عرش الإنتاج والاستهلاك.الفكر الاقتصادي الحديث لا يشكل ثقافة العصر عند رجال الأعمال المغاربة ونظرية: القيمة المستدامة" لا توحي بأنها نظرية ذات قبول في الساحة ومفيدة ويمكن تطبيقها. هناك اجتهادات عكسية لا تراعي المصلحة العامة،ولكن تراعي فقط المصالح الفئوية في كل قطاع.فكر من هذا النوع لن يترك الفرصة لوعي مواطناتي ينمو ليراعي مصلحة الأغلبية الساحقة من الناس، ويحمي مستقبل الدولة في حماية حقوقها المالية التي يجب أن تبدل للحفاظ على كيانها ووجودها وقوتها.لقد برر ذلك الحاجة القصوى إلى وجود وعي تضامني وطني،يغير جدريا فكر الباطرونا لفائدة الوطن والمواطنين.فالتغيير ذاتي وموضوعي، ولعله هو الخطوة الإصلاحية الأولى في "النحن" قبل أن نطالب الآخرين بالتغيير والتزام القيم الأخلاقية التي نضع لها مقاييس ومعايير ولا نلتزم بها. لا شك أن توقعات من هذا القبيل تسبب كثيرا من الانزعاج لحكومة خرجت من رحم الشارع لتلبي مطالب المساواة والإنصاف وتضع - حسب زعمها - حدودا لهيمنة القوة المالية المسيطرة على الاقتصاد ووسائل الإنتاج.فهذه الأخيرة،همها الأساسي هو تكديس الثروة بطرق مشروعة وغير مشروعة.الحكومة تفهمت عواقب هذا الوضع ولم تتسلح له بما يكفي،لأنها غامرت بمشروع الإصلاح لتتجاوز آثاره السلبية على الأداء الحكومي وعلاقاتها بالأحزاب السياسية وقبول التوازن بين لوبيات الاقتصاد والمنظومة المدنية والمجتمع.لقد كان خيار الحفاظ على التوازنات حاضرا بقوة في كل البرامج الإصلاحية للحكومة، وكانت نتائجه سيئة على الوضع الاقتصادي والاجتماعي وبرامج الاستثمار والتنمية.فالتضحية بمشروع الإصلاح الجدري وتعويضه بإصلاحات جزئية،كإصلاح القانون المالي والقانون الجبائي وإصلاحات قطاعية أخرى،كان ارتباكا واضحا في منهجية التدبير الحكومي.إسقاطات هذا الوضع أثرت بشكل ملموس في ملف إصلاح القضاء الذي توقف في منتصف الطريق، وأثر بشكل أعمق في محاربة اقتصاد الريع، وحضر بقوة في تحيين وتجديد قانون الاستثمار،وحضر مؤخرا في قانون الجهة ويحضر بقوة في إصلاح قانون الصحافة وسيحضر بكل تأكيد في كل القوانين المقبلة المنزلة عن دستور 2011،إذا كتب لها التنزيل في يوم من الأيام. من هذا المنظور، نتفق على أن الإصلاح، تركيبة سياسية واقتصادية واجتماعية محدبة، أي ذات أضلاع ملساء، تحتمل المهادنة وتحتمل المواجهة معا،ويصعب التعامل معها بالفلسفة أو التاريخ أو الخطاب السياسي الجاهز كما فعل بنكيران ورفاقه. واعتبارا لذلك وبكل صدق، فإنه يصعب في ظروف سياسية واقتصادية متقلبة ومحرجة، تحقيق مشروع الإصلاح كما يتمناه المصلحون، ويصعب أكثر تنفيذ برنامج محاربة الفساد، سواء بمنطق المهادنة أو بمنطق الانتظارية الصرفة.والسبب هو أن الشرط الأساسي في العملية غير متوفر ويتعلق بدءا بالإرادة الجماعية في اتخاذ القرار السياسي المبني على استبعاد "حساب الفائدة السياسية وحساب مصالح التحالفات".وهو شرط مسبق لتشغيل آلية الإصلاح التي تعنى بمعالجة قضايا الفساد. الأمور يجب أن تمشي في السياق القانوني الصرف، إعمالا للقانون وتنفيذا للمساطر الجاري بها العمل دون تدخل أية قوى معنوية مستفيدة. الفكرة جيدة ولكن تتطلب قدرا كبيرا من الشجاعة والعمل الجماعي وتضافر جهود الدولة والأحزاب وهيئات المجتمع المدني والمقاولات والباطرونا وسائر المواطنين والمواطنات..لأن الإشكالية عميقة جدا واليد الواحدة لا تصفق،والإصلاح ليس مقصورا على حكومة دون أخرى أو رئيس حكومة دون آخر أو وزير أو سواه؛ إنما هو مشروع متواصل لا ينتهي أمده بانتهاء حكومة ومجيء أخرى.فالبنية العامة للإدارة والمؤسسات، في حاجة إلى تجديد وتطوير وتأهيل مستمر، بمعنى أدق، هي في حاجة لماسة الإصلاح وتجديره وتعميقه كثقافة لا كسياسة فقط. تلك هي المعادلة الصعبة التي تعقدت على رئيس الحكومة السيد عبد الإله بنكيران خلال خمس سنوات، ولم يجد لها مخرجا واحدا ينهي المتاهة التي وضع فيها نفسه، ووجد البلاغة السياسو-دينية، فرصة للهروب من واقع مرير يفرض نفسه بقوة، ويجبره على التكيف والتكييف ومسايرة مجرى الأحداث.وها هي الأمور تسير برتابة زمنية مقدرة وتعمل لصالح الفساد الذي يربح الوقت،ويربح مزيدا من المساحات في ظرفية سياسية واقتصادية داخلية صعبة وجيوسياسية خارجية معقدة وسياق متغيرات قاسية تلف المنطقة وتلف العالم أجمع وتهدد كبريات الدول بالإفلاس والانهيار الاقتصادي والاجتماعي. من المعلوم أن الجواب عن الأزمة هو الخروج منها بسرعة.وكيفية الخروج من أزمة الفساد بالنسبة للمغرب هو اتخاذ قرارات إصلاح تاريخية، شجاعة ووازنة، تغير رتابة الوضع وتحقق القفزة الإصلاحية النوعية المنتظرة.قرارات لم تعد الآن بيد السيد بنكيران وحكومته التي قاربت هذه المسألة من زاويتها الخاصة وبوسائلها المتاحة وبمعرفتها الميدانية؛والنتيجة خروج المسألة الإصلاحية عن مدارها واستهلاك الكثير من الوقت وانتظار الحلول الغائبة المغيبة التي تصبح ثانوية مقارنة مع المصالح الضيقة.علما أن هناك أشياء أثمن من المال والجاه والسلطة، تضيع، ولا يمكن استرجاعها،وعلى رأسها مستقبل الأجيال القادمة والوقت الذي هو أغلى متاع في الكون،لأنه ثروة تهدر بغباء وتمضي تاركة وراءها تراكمات سلبية شتى ومشاكل وصعوبات وتراجعات إلى الخلف .. ؟