لعل أشهر تعريف للديمقراطية و الأكثر رواجا في كل بقاع الأرض هو "حكم الشعب نفسه بنفسه عن طريق ممثلين له يتم انتخابهم ..."، غير أن الديمقراطية في الدول العربية و الإسلامية و منها مغربنا، تتنازع عليها نظريتان أو أطروحتان. فريق يرى أن الديمقراطية مجرد صندوق يضمن و يمهد الطريق للوصول للسلطة، و هو ما يعبر عنه بالشق الإجرائي في الديمقراطية، و في تقديري أن أغلبية أنصار هذا الفريق من الإسلاميين و من يدور في فلكهم، على اعتبار أنه لا ديمقراطية في الإسلام، بل هناك مبدأ "الشورى" المنصوص عليه في القرآن الكريم، و هناك فعلا بعض الإسلاميين من يعتبر الديمقراطية كفرا بواحا مثل "هاني السباعي" و "وجدي غنيم" و غيرهما. و مع ذلك لا يجوز التعميم لأن من يعتبر الإسلاميين كتلة واحدة أو طيفا واحدا فهو إما مخطئ أو واهم. و هناك فريق ثان يرى أن الديمقراطية تتجاوز الشق الإجرائي في الديمقراطية، فحسب هؤلاء فإن الديمقراطية ليست مجرد صندوق، بل هي مجموعة قيم و تصورات و فلسفات هدفها النهائي تبني و قبول المفهوم الشمولي لمبادئ حقوق الإنسان و الحريات الفردية و حقوق الأقليات و حقوق المرأة ... كما هي متعارف عليها دوليا. و هذا ما يعبر عنه بالشق الفلسفي للديمقراطية. و في تقديري أن الصف الحداثي و العلماني يشكل التيار الجارف الذي يتبني هذه الديمقراطية، و من أبرز المنظرين لها مثلا "سيد القمني". كلا الفريقين يتمسك بنظرته و فهمه للديمقراطية، و يتهم الآخر بكونه "استئصاليا" و يروم فرض نظرته على الآخر. فمثلا في نماذج بعينها كالمغرب (حزب العدالة و التنمية) و تونس (حركة النهضة)، و مصر (جماعة الإخوان المسلمين)، و يمكن كذلك القياس على النموذج التركي مع وجود الفارق طبعا. هذه البلدان عاشت المجتمعات انقسامات فكرية و استقطابات إديولوجية حادة، و نقاشات عميقة في بعض المواضيع، و صلت في بعض الأحيان لمرحلة التجييش بل و الصدام (مصر نموذجا). مثلا النقاشات المتعلقة بالحريات الفردية، و أذكر أمثلة معينة: - "حرية الإفطار في رمضان"، كمظهر من مظاهر "حرية المعتقد"، - "الإجهاض" كحق للمرأة، "إلغاء تجريم المثلية الجنسية"، - "العلاقات الجنسية الرضائية خارج الزواج"، - "إلغاء عقوبة الإعدام"، - "المساواة بين الرجال و المرأة في الإرث"، - "ختان المرأة" (في مصر و السودان خصوصا). "زواج القاصرات".... هذه بعض المسائل التي تجاوزت المنازلات الفكرية للمثقفين المنتمين للفريقين معا، و تجاوزت تناطحات و مزايدات الأحزاب السياسية، و تجاوزت التراشقات الإعلامية البريئة منها و المتواطئة، و تجاوزت الساحات الجامعية.... باختصار تجاوزت النخبة السياسية و الفكرية، و وصلت للشعب بكل فئاته فأضحت خاضعة لنقاش "مجتمعي". لا أحد ينكر أن هذا النوع من النقاشات في أحد أوجهه يحمل ظاهرة صحية فكريا على الأقل حيث يقوي الجانب الحجاجي و مقارعة الفكرة بالفكرة و المنطق بالمنطق و الحجة بالحجة، بحيث يحس المرء أنه في مجتمع حيوي منفتح على الأفكار... غير أن الجانب المظلم يبقى هو إضفاء طابع "حربي" على مثل هذه المناقشات، مما يكرس الشرخ المجتمعي (sociétal) و الاجتماعي (social) التي تساهم فيه هذه القضايا، ما بين مؤيد و معارض. و طبعا يعمل كلا الفريقين "الإسلامي" و "العلماني" -وفق المنطق الحربي- على عملية التجييش و الحشد تمهيدا لإلحاق الهزيمة بالخصم، و لا يتورعان عن الاستغلال السياسي لأي ورقة يمكن أن تضعف الطرف الآخر، أو أية هفوة يسجل من خلالها بعض النقط ضد الخصم الفكري أو السياسي أو الايديولوجي. ففي النموذج المصري مثلا بدأت الأمور بمنازلة سياسية انتهت باستقطاب فكري و إيديولوجي حاد، لازال يرمي بثقله و ظلاله لحد كتابة هذه السطور، و لا يبدو الفرج قريبا في المحروسة. لكن الأمور ليست بهذه السوداوية و القتامة في باقي البلدان، حيث يخضع الأمر أحيانا لمنطق التوافقات السياسية ( تجربة حكومة حزب العدالة و التنمية الإسلامي و حزب التقدم و الاشتراكية التقدمي في المغرب) أو المراجعات الفكرية (مراجعات الراحل حسن الترابي في السودان)، (تجربة حكومة الترويكا في تونس)... لكن الخطير في النقاشات المتعلقة بالديمقراطية و حقوق الإنسان و الحريات الفردية هو استغلالها من بعض الأطراف لتأجيج خطاب الكراهية في المجتمعات، و أقصد الطرفين معا فكلاهما غير منزه و لا بريء، و قد أثبتت مثلا قضية القياديين في حركة التوحيد و الإصلاح "حماد " "النجار"، أن بعض العلمانيين و الحداثيين، ليسوا حداثيين بما يكفي للعب دور المدافع عن الحرية، فغالبا ما صدعوا رؤوسنا بأن همهم الأول هو الدفاع عن حقوق الإنسان و الحريات الفردية، و حرية الجنس ... و و و، و لكن فجأة أصبحوا أشد تطرفا –فكريا- من المسمى "أبو بكر البغدادي"، و لبسوا عباءة تنظيم "داعش" الإرهابي و لكن على الطريقة "الحداثية"، و هم يوجهون سلاح النقد للمعنيين بالأمر. و نفس الشيء بالنسبة لقضية "البوركيني" الإسلامي. فبعد نازلة خلع لباس امرأة مسلمة في أحد الشواطئ الفرنسية، أصبح فجأة دعاة "حرية اللباس" و "صايتي حريتي" يتكلمون عن "ضرورة احترام القوانين" في بلد الإقامة... و كأن المغرب لم يكن فيه قوانين لما تم القبض في رمضان الماضي على فتاتي "إنزكان" شبه العاريتين بتهمة الإخلال العلني بالحياء. هذا النوع من الاختزال المبتذل للحرية و الديمقراطية من وجهة نظر واحدة هو ما يسمى ب "One Way"، حيث النظرة الأحادية التي تقصي النظرة الأخرى و لا تعترف بها. و في الفسطاط الآخر، يتم القفز على كل هموم المواطن، مقابل التركيز على حروب للاستهلاك المجتمعي ضد الخصوم الإيديولوجيين، و كأنهم في صدد "فتوحات إسلامية" جديدة، حيث يحرصون على الظهور بصورة المدافع الشرس عن الدين، و كأن الإسلام حكر عليهم وحدهم دون باقي الفرقاء، و كمثال فقد تم مثلا "الإعلان عن البنوك الإسلامية"، و إظهاره على أنه "جهاد" و مظهر من مظاهر "تطبيق للشريعة الإسلامية". إن الأولوية يا سادة، ليست لا للبنوك الإسلامية، و لا للحرية الجنسية. إن أولوية الأولويات هي التخفيف من هموم المواطنين، و الرأفة بجيوب الموظفين، و دمقرطة و تخليق الحياة العامة، و محاسبة المفسدين، و بناء صرح دولة المؤسسات و الحق و القانون بشكل واقعي لا شعاراتي، و الانخراط في مسلسل التحديث و البناء بالملموس و ليس في الدعاية الانتخابية. و كخلاصة فإن كلا الفريقين –في تقديري- يساهم من حيث يدري أو لا يدري في تجهيل المجتمع بإلهائه في معارك وهمية لا تقدم و لا تؤخر، و لا تغني و لا تسمن من جوع. *باحث في الإعلام و القانون