سبوتنيك الروسية تكشف عن شروط المغرب لعودة العلاقات مع إيران        اختفاء غامض لشاب بلجيكي في المغرب    بعد صدور مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالان.. الرباط مطالبة بإعادة النظر في علاقاتها مع إسرائيل    قلق متزايد بشأن مصير بوعلام صنصال    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    خبراء يكشفون دلالات زيارة الرئيس الصيني للمغرب ويؤكدون اقتراب بكين من الاعتراف بمغربية الصحراء    تخليد الذكرى ال 60 لتشييد المسجد الكبير بدكار السنغالية    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد        الموت يفجع الفنانة المصرية مي عزالدين    طقس السبت.. بارد في المرتفعات وهبات ريال قوية بالجنوب وسوس    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    وسيط المملكة يستضيف لأول مرة اجتماعات مجلس إدارة المعهد الدولي للأمبودسمان    عندما تتطاول الظلال على الأهرام: عبث تنظيم الصحافة الرياضية    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    غارات إسرائيلية تخلف 19 قتيلا في غزة    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    موتسيبي يتوقع نجاح "كان السيدات"    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط        خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    مشروع قانون جديد لحماية التراث في المغرب: تعزيز التشريعات وصون الهوية الثقافية    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحرب الباردة تشتعل من جديد بين الحداثيين والمحافظين
حركتها قضايا الهوية والإجهاض ولغة التدريس والحريات الفردية
نشر في المساء يوم 28 - 05 - 2015

حينما حملت صناديق الاقتراع حزب العدالة والتنمية إلى الصف الأول في استحقاقات ما بعد دستور 2011 والربيع العربي، أطلق المغاربة، خوفا أو توجسا، عددا من النكت ذات الخلفية السياسية تتحدث عن أن هذا الحزب الإسلامي سيفرض على نساء المغرب ارتداء الحجاب في الشوارع والأماكن العامة، وأنه سيسارع إلى إغلاق الحانات والملاهي الليلية. أما ممارسو الرياضة، فيفرض عليهم ارتداء سراويل قصيرة يجب أن تتجاوز حدود الركبة، حفاظا على عورة الرجال. فيما سينزل قرار منع الرياضات النسوية إلا بداخل قاعات خاصة، وممنوعة على الرجال.
حدث هذا بعيد نتائج الاستحقاقات وتكوين حكومة بنكيران الإسلامية، على الرغم من أنها ضمت بعد ذلك حزبا بمرجعية شيوعية هو التقدم والاشتراكية. وظهر أن كل المخاوف التي عبر عنها المغاربة كانت مجرد توجسات لا أثر لها على أرض الواقع.
غير أن «الحرب الباردة» كانت قد اشتعلت بعض نيرانها بين الحداثيين الذين تخوفوا من وصول العدالة والتنمية إلى الحكم على اعتبار أنهم يدافعون عن تصورات محافظة. وهي حرب ظلت تحت الرماد ولا يظهر لها الأثر إلا في قضايا بعينها.
سياسيا، يذكر المغاربة ما عبر عنه «آلان جوبي»، وهو وقتها وزير للخارجية الفرنسية بلسان حداثيي المغرب، في التعليق على نتائج الاستحقاقات المغربية حينما قال «إن حزب العدالة والتنمية لم يحصل إلا على 100 مقعد في البرلمان من أصل 400.. وإن باريس تريد ألا يتجاوز حزب العدالة والتنمية الإسلامي الخطوط الحمراء وهي احترام الانتخابات وحقوق الإنسان والمرأة».
وصلت الرسالة. وبعدها كان لا بد أن تصل بقية الرسائل الاقتصادية والثقافية على الخصوص من خلال هيمنة اللغة والثقافة الفرنسية. كان لا بد أن يفضل الحزب الحاكم، ما يسميه الفقهاء، بالتقية حفاظا على ما تحقق، خصوصا وأن السنوات الأولى من حكمه كانت بالنسبة لأنصاره وخصومه تحديدا، بمثابة اختبار حسن النية.
اليوم وقد مرت أكثر من ثلاث سنوات على حكم الإسلاميين، كان لا بد أن تظهر معالم الصراع بين التيار المحافظ الذي يدافع عنهم، وبين تيار الحداثيين، الذين ظلوا غير مطمئنين لبعض اختيارات البيجيدي. لذلك فتح مشروع القانون الجنائي الجديد، الذي جاء به وزير العدل والحريات المصطفى الرميد، نقاشا حادا حول بعض فصوله خصوصا تلك التي تقترب مما يسميه الحداثيون بالحريات الفردية. وهو نقاش بني، ولا يزال على خلفية صراع مجتمعي بين دعاة الحداثة الذين يرون أن التشريع لا يجب أن يخرج عن المرجعية الحقوقية كما هي متعارف عليها دوليا، وبين المحافظين الذين يرون أن التشريع في بلد إسلامي يجب أن يعتمد على المرجعة الإسلامية دون غيرها، مع هامش صغير هو ما يصطلح عليه بالاجتهاد لكن في حدود دائرة المسموح به.
نفس هذه الخلفية هي التي تؤطر اليوم هذه المعركة الجديدة حول الإجهاض، والتي كانت قد حركت رماد تلك الحرب الباردة بين من دعا إلى الإبقاء على قانون منع الإجهاض لكي لا نقنن الفساد، من محافظين، وبين دعاة رفع هذا المنع بالنظر إلى تطور المجتمع، وإلى أن الإجهاض يمارس اليوم سرا حيث يتحدث العارفون عن أرقام مخيفة لحالات الإجهاض السري. حرب يبدو أنها قد تضع أوزارها بعد التحكيم الملكي الذي أخذ برأي كل طرف في الصراع حينما أبقى على الإجهاض أمرا ممنوعا، مع استثناءات يكون فيها هذا الأمر مباحا، وهي الحمل الناتج عن اغتصاب، أو في حالة زنا المحارم، أو عندما يشكل الحمل خطرا على صحة المرأة، أو عندما يتأكد الطبيب من وجود حالة تشوه خلقي للجنين.
في التعليم، ظلت الحرب مشتعلة، ولا تزال، بشأن لغة التدريس حيث اختلفت التيارات بين الحفاظ على العربية لغة وحيدة للتدريس وفي كل الأسلاك التعليمية، وبين الداعين إلى استعمال لغة ثانية قد تكون الفرنسية أو الإنجليزية. وهي حرب امتدت اليوم إلى المجلس الأعلى للتكوين والبحث العلمي، الذي كادت تنفجر أشغاله بشأن هذه القضية. والحصيلة هي أن تيار الحداثيين، الذين يتهم عمر عزيمان رئيس المجلس، بالدفاع عنهم، عرف كيف يفرض أعمال اللغة الفرنسية في التدريس ابتداء من السنة الثانية من التعليم الإبتدائي، فيما تقرر ولأول مرة التدريس بالإنجليزية ابتداء من السنة الرابعة من التعليم الإبتدائي. أما المحافظون فقد رأوا في هذه الاختيارات ضربا لهوية المدرسة المغربية التي كان يجب أن تحافظ على التعريب.
غير أن هذه الحرب الباردة كانت قد اندلعت قبيل الإعلان عن دستور 2011 حينما أخذت صبغة أكبر من مجرد اللغة، أو بعض القضايا الأخرى. وهي قضية الهوية.
فالحداثيون ظلوا ينادون بإعمال دستور يستمد شرعيته من المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. بل إن بعض التنظيمات اليسارية لم تتردد في القول صراحة في مذكرتها الدستورية، بضرورة فصل الدين عن الدولة. وقد ظل حزب النهج الديمقراطي مثلا يقول كيف أنه مع هوية عربية أمازيغية كعنوان ثقافي وحضاري. ويضيف أن الدولة المغربية يجب أن تكون دولة ديمقراطية علمانية تقوم على أساس الإرادة الشعبية، وتضمن حرية العقيدة، وتحضر استعمال الدين لأغراض سياسية.. فيما اعتبر المحافظون وقتها أن ذلك مجرد محاولة لجر البلاد إلى شاطئ غير آمن إذا ما تخلت على هويتها الإسلامية التي ليست محط خلاف بين جميع المغاربة.
هكذا ظل الخلاف بين التيارين بمثابة نار خامدة تحت الرماد سرعان ما تخرج إلى العلن. وهي نار تعبر بالقوة والفعل عن عمق الاختلافات السياسية والفكرية المتواجدة في المجتمع المغربي، وإن كانت الغلبة فيها كثيرا ما تنتهي إلى فريق المحافظين الذين يعتمدون اليوم، بالإضافة إلى سلطة الأغلبية السياسية التي يتوفرون عليها، على أغلبية مجتمعية لا تزال ترى في المرجعية الإسلامية المحافظة البديل.
في هذا الخاص، نعرض لبعض القضايا الخلافية بين الحداثيين والمحافظين بشأن الهوية، وتقنين الإجهاض، ولغة التدريس، وإشكالية الحريات الفردية التي جاء بها المشروع الجديد للقانون الجنائي.

دارجة عيوش التي أغضبت المحافظين وقسمت الحداثيين
في خضم المعركة التي اندلعت بشأن الواقع المتردي الذي عاشته المدرسة المغربية، والأرقام التي كانت قد كشفت عنها الكثير من المنظمات المعنية بشأن التربية والتعليم، خرج نور الدين عيوش، صاحب مؤسسة زاكورة لكي يعرض أمامنا تجربة قال إنها هي البديل الممكن لإخراج المدرسة مما هي عليه. وهي تجربة التدريس بالدارجة بدلا من اللغة العربية خصوصا في الأقسام الابتدائية. وهي الخرجة التي نظم بشأنها ندوة علمية حضرها سياسيون ومفكرون ودارسون انتهوا إلى أن الدارجة، باعتبارها اللغة الأم، قد تكون هي الخلاص لما نحن فيه.
تحرك المجتمع بقوة حينما جاءنا عيوش بدارجته. وقال المحافظون إن عيوش يمثل التيار الحداثي الفرانكوفوني الذي جاء للقضاء على اللغة العربية ومن خلالها على الهوية المغربية. لذلك اعتبر الكثيرون أن هذه الدعوة إلى تجريب الدارجة المغربية في أقسام التعليم الأولي، كانت فرصة ليخرج عدد من المثقفين والمفكرين، وبعض زعماء الأحزاب السياسية عن صمتهم للإدلاء بدلوهم بشأن قضية اللغة التي تحتاجها المدرسة المغربية.
لقد اضطر المفكر عبد الله العروي، بعد صيام طويل عن الكلام، إلى قبول المشاركة في مناظرة تلفزيونية للدفاع عن اللغة العربية.
ووقعت أكثر من مائة شخصية، وثيقة حول إصلاح منظومة التربية والتكوين، والتي كان في مقدمتها حماية اللغة العربية التي اعتبرتها الوثيقة هي الأداة الأنجح لكل إصلاح.
أما بداخل حزب العدالة والتنمية الحاكم، فقد اعتبرت الدعوة لاعتماد الدارجة المغربية بالمدارس المغربية الأمر مشبوها، خصوصا وقد امتدت الدعوة إلى نزع الطابع الديني عن التعليم الأولي في المملكة، الذي يقوم بتحفيظ القرآن الكريم لتلاميذ ما دون السابعة.
وكان أحمد الريسوني، الرئيس السابق لحركة التوحيد والاصلاح، الجناح الدعوي لحزب العدالة، قد وصف دعوة نور الدين عيوش ب»المشبوهة»، وأنها تدخل في إطار «المشاريع التي غرضها القضاء على اللغة العربية واستبعادها» وأنه يقوم بعداء إيديولوجي للغة العربية باعتبارها اللغة القومية والوطنية ولغة التاريخ والدين وهي اللغة الموحدة للأمة.
كان لا بد أن تحدث الأزمة الثقافية، بل والسياسية حول دارجة عيوش.
فبالإضافة إلى أن الحزب الحاكم، العدالة والتنمية، اعتبرها ضربا تحت الحزام، خصوصا وأنها جاءت مباشرة بعد الخطاب الملكي الذي انتقد بشدة حال المدرسة المغربية، فقد وجدها المدافعون عن اللغة العربية بمثابة خدمة لأجندة الفرانكوفونية. فإضعاف اللغة العربية لا يمكن أن يتم إلا لحساب اللغة الفرنسية بالدرجة الأولى. لذلك كان بعض قياديي حزب العدالة والتنمية الإسلامي قد فتحوا النار على نور الدين عيوش إثر المذكرة التي وجهها إلى الديوان الملكي، والتي تضمنت التوصيات الصادرة عن ندوة نظمها حول موضوع إصلاح التعليم. وهي الندوة التي لم تخل من إشارات كان في مقدمتها حضور مستشار الملك فؤاد عالي الهمة لمواكبة أشغالها. بالإضافة إلى حضور رشيد بلمختار، الذي سيعين بعد ذلك وزيرا للتربية والتعليم خلفا للاستقلالي محمد الوفا، الذي رفض الاستقالة مع زملائه في الحزب. لقد اعتبر عدد من قادة الحزب، بمن فيهم وزراء في حكومة عبد الإله بنكيران، أن مقترحات عيوش تدخل في إطار التضييق على اللغة العربية ومحاولة إبعادها عن الحقل التعليمي. كما دعوا إلى ضرورة الحماية القانونية لها. ليخلصوا إلى أن ما حدث لا يعكس سوى التصور الإيديولوجي لما ينبغي أن يكون عليه التعليم الذي يريده عيوش، ومن يقف من ورائه من بعض حداثيي البلد.
لقد شددت جمعية الدفاع عن اللغة العربية، على أن الدعوة إلى جعل الدارجة لغة في المدرسة المغربية، هي مسعى إلى تحطيم اللغة العربية والنيل منها من طرف نخب لا تهمها الدارجة ولا اللغة العربية، بقدر ما تهمها فرنسة المغرب، وتجريده من هويته.
أما منهجيا، فقد قال المفكر المغربي عبد الله الحمودي، إن التدريس بالدارجة لا يمكن تحقيقه. وإن الدارجة تجد أصلها في اللغة العربية، مبرزا موقفه من الجدل الذي أثارته مذكرة عيوش.
وأكد أنه عندما نناقش الثقافة المغربية أو الإسلامية بمختلف تمظهراتها، فلا يمكن الكتابة باللغة الفرنسية أو الإنجليزية، مؤكدا على أهمية اقتراب المفكر من المجتمع وضرورة استعماله لغة يفهمها المواطن. زد على ذلك أهمية اللغة العربية كمكون أساسي في الثقافة المغربية حيث يجب عدم غض الطرف عن الهوية الأمازيغية واللغات الأمازيغية.
وخلص المفكر المغربي إلى نظرية جديدة في مسألة التعدد الثقافي وإشكالية الهوية أسماها «المنافسة الإيجابية»، أي، أن يقدم العربي المساعدة للأمازيغي من أجل تطوير وبلورة نموذجه الثقافي، كما على الأمازيغي أن يفعل نفس الأمر تجاه المكون العربي، داعيا الكتاب، بالعربية والأمازيغية، إلى الارتقاء بلغتهم وتنقيحها والقيام بأبحاث علمية لتطويرها وعقلنتها في إطار مجهود يقوم به أبناء الوطن لحل إشكالية الهوية.
وكان عبد الله العروي قد بين من خلال أكثر من مثال استحالة نجاح تجربة التعليم بالدارجة التي هي بدون قاموس ولا ضوابط في الصرف والنحو.
والحصيلة هي أن مكونا من مكونات التيار الحداثي والذي مثله نور الدين عيوش بدعوته لاستعمال الدارجة لغة للتدريس، خسر رهانه بعد أن وجد أن المحافظين، وعددا من الحداثيين أيضا، وجدوا في هذا التوجه خروجا عن النص لا يمكن القبول به، لأنه لن يكون البديل الناجح لإصلاح حال المدرسة المغربية.
حينما قال المجلس الأعلى للتعليم في تقريره عن المدرسة المغربية، في 2008 على عهد الراحل مزيان بلفقيه، إن سبعة في المائة فقط من تلاميذ السنة السادسة ابتدائي، هم من يمتلكون أدوات اللغة العربية. أما أدوات اللغة الفرنسية، فلا يمتلكها من بين تلاميذ هذا المستوى غير واحد في المائة فقط، وضع المغاربة الأيدي على القلوب، وفهموا أن المدرسة المغربية أفلست بشكل مخيف. أما الحل، فهو صرف أكثر من أربعين مليارا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه فيما سمي بالمخطط الاستعجالي لإصلاح التعليم.
هذا الوضع هو الذي يكاد يتفق حوله الحداثيون والمحافظون اليوم بشأن المدرسة المغربية. لكنهم يختلفون حول الحلول الممكنة لتجاوزه.
فبالقدر الذي يقول فيه الحداثيون إن من بين أبرز أسباب هذا التخلف المدرسي، اعتماد اللغة العربية في تدريس بعض المواد خصوصا في السلك الاعدادي والثانوي، دون أن تصل لغة التدريس هذه إلى الجامعات، لا يتردد المحافظون في الدعوة الى حماية اللغة العربية لأنها ترمز الى الهوية المغربية ذات المرجعية الاسلامية. ويقولون إن الدعوة إلى إعمال لغة أجنبية، هو مجرد هروب الى الأمام مستشهدين بتجارب دول عربية أخرى لم تفرط في لغتها الوطنية. لذلك فحينما كان المجلس الأعلى للتكوين والبحث العلمي يتداول في قضايا إصلاح منظومة التربية والتعليم، وجد نفسه عاجزا عن الحسم في هذا الأمر إلى درجة أن أشغال جمعيته العمومية الأخيرة، كادت تنفجر بخصوص هذه القضية التي تعني أعطاب المدرسة المغربية، وهي ما يتعلق بلغة التدريس وتدريس اللغة.
لقد كان المجلس الأعلى قد أطلق ما سماه بالحوار الجهوي حول التعليم، بمشاركة خبراء ومهتمين سعوا إلى أن يضعوا اليد على إكراهات القطاع، قبل تقديم ما سماه عزيمان خارطة الطريق.
غير أن هذا الحوار الجهوي كان مقيدا بما سماه رئيس المجلس الأعلى للتعليم والبحث العلمي بأعطاب المدرسة المغربية، والتي تشكل فيها اللغة قضية جوهرية. وهي التعليم الأولي، والهدر المدرسي، والتحصيل الدراسي، وتكوين المدرسين.
كما سبق أن قال وزير التربية الوطنية إنه فوجئ بالنسبة الهزيلة للتلاميذ الذين يحسنون القراءة والكتابة بعد سن الرابعة ابتدائي، واعتبر الأمر مخيفا.
الحداثيون يطرحون السؤال، لماذا تهرب حكومة بنكيران من قضية التربية والتعليم، من خلال قبول رئيسها إسناد حقيبتها لرجل تكنوقراطي لا مسؤولية سياسية له وهو رشيد بلمختار؟
فيما يرى المحافظون أن رئيس المجلس الأعلى للتكوين والبحث العلمي عمر عزيمان، راهن على سلطته الرمزية لتوجيه أشغال المجلس في الاتجاه الذي يضرب اعمال اللغة العربية والحفاظ لها على مكانتها باعتبارها لغة تدريس، والدفع باللغة الفرنسية لكي تحافظ لنفسها على المكانة التي ظلت تحتلها لعقود وسنوات. بل إن عزيمان وبقرار سياسي، دفع باتجاه ألا تحتل اللغة الانجليزية مثلا الصف الثاني باعتبارها لغة العلم والتكنولوجيا. وهو توجه دافع عنه بعض المحافظين الذين رأوا أن الفرنسية لا تزال تهمين في مجالات الإدارة والاقتصاد والإعلام. وهي التي سماها نور الدين عيوش، صاحب توظيف الدارجة كلغة تدريس في الصفوف الابتدائية، بغنيمة حرب وجب الحفاظ عليها.

الإجهاض يكشف عن نقاط التماس بين الطرفين
المحافظون يشددون على أن الإجهاض محرم في مرجعيتنا الفقهية بشكل مطلق
ظل ملف تقنين الإجهاض، بعد أن بدأ الحديث عن قرابة 600 عملية إجهاض سري تعرفها بعض العيادات الطبية، من القضايا التي شغلت حكومة عباس الفاسي، حيث قالت نزهة الصقلي، وزيرة الأسرة والتضامن، إنها كانت قد أعدت مشروع قانون حوله، قبل أن يتوقف قطار تلك الحكومة بسبب الانتخابات السابقة لأوانها، والتي جاءت بحكومة العدالة والتنمية. لذلك كان المغاربة أكثر استعدادا لهذا الملف الحساس، والذي فرق، ولا يزال يفرق، إلى اليوم المجتمع المغربي بين متحمس لهذا التقنين، وبين الرافضين لكل خطوة قد تمسه على اعتبار أن التقنين يمكن أن يكون طريقا سالكا نحو تشريع البغاء والخيانة الزوجية.
كان لا بد، حينما طرح ملف الإجهاض للنقاش، أن يتوزع المجتمع بين محافظين دافعوا عما يعتبرونه قيما مغربية في بلد إسلامي، وبين الحداثيين الذين يرون أن تطور المجتمع يفرض اتخاذ خطوات قانونية توافق هذا التطور، خصوصا حينما يتعلق الأمر بقضية لها ارتباطات وتداعيات أكبر على المرأة وعلى الأطفال وكل المجتمع.
انطلق النقاش حينما كشف أحد المهتمين بالموضوع عن أرقام مخيفة عن حالات الإجهاض السري. وقتها وجدت الحكومة نفسها مطالبة بالدخول على الخط، حيث بادرت إلى عقد جلسة فكرية للتداول في هذا الأمر، حضرها رجال دين، ورجال اجتماع، وأطباء، وعدد من فعاليات المجتمع المدني والحقوقي. كان صوت الحكومة في هذه الندوة مع عملية التقنين في حدود ما يسمح به الشرع. أما الحداثيون، فقد طالبوا بحرية أكبر تجعل للمرأة حرية الاختيار كلما قررت الإجهاض لسبب من الأسباب. في حين انبرى بعض رجال الدين لكي يقفوا في وجه أي خطوة تمس ضوابط الدين ومقومات الأمة.
كان صوت البروفيسور شفيق الشرايبي، صاحب جمعية مهتمة بالموضوع، يدافع بحدة عن رفع السرية عن الإجهاض الممنوع قانونيا في المغرب، يقول إن الواقع تجاوزه بسبب ما يحصل يوميا من مضاعفات لنساء يفضلن الموت بدل الاحتفاظ بجنين لا يرغبن فيه مطلقا. يقول الشرايبي في تصريحات صحافية، «إنني لا أرى ما يمنع الدولة من الحسم في الإجهاض، كما تم الحسم في عهد الملك الحسن الثاني في القانون الخاص بتحديد النسل حيث دعا إلى اعتماد برنامج التخطيط العائلي، وأمر بإدخال وسائل تنظيم الأسرة للمغرب. وكان بذلك البلد العربي الأول الذي نفذ هذه الخطوة حيث كان القانون المغربي يجرم تحديد النسل والتحريض على تقليص الولادات. بعد ذلك تشكلت الجمعية المغربية لتنظيم الأسرة في 1971 وكان القرار الملكي بذلك حكيما بالنظر الى نتائجه». لذلك فنحن في حاجة إلى قرار شجاع بشأن الإجهاض يخدم الصحة العمومية، ويرفع عنه السرية ليصبح مقننا في اتجاه يخدم صحة المرأة الجسدية والنفسية والاجتماعية. ويفتح الباب للتحسيس والتوعية ودعم نساء الطبقات الهشة اللواتي يذهبن ضحية الاجهاض العشوائي.
في الجهة الأخرى، يشدد المحافظون على أن الإجهاض محرم في مرجعيتنا الفقهية بشكل مطلق. وأن من يقول بأن الإجهاض يدخل في إطار الحرية الشخصية للمرأة، مخطئ. فالقانون، حسب هذه الفئة، أعطى للمرأة الحق في تزويج نفسها لتحصينها. أما الإجهاض، وإذا ثبت أنه وقع خارج إطار الزواج، فهو دليل على الفساد. ويجب متابعة الفاعلين وفقا للجريمة المرتكبة. أما كيف يمكن محاربة الإجهاض السري، فيرى هؤلاء المحافظون أن ذلك يجب أن يتم بتنظيم العلاقة بين الجنسين، لأن السماح بالإجهاض، هو تشجيع على الدعارة والانحراف.
ثم إن إجراء الإجهاض دون البحث في الأسباب المؤدية إليه، يمكن أن يخفي جرائم كالاغتصاب الذي تترتب عليه مجموعة من الأحكام، وتفسح المجال للمغتصب بالإفلات من العدالة، خصوصا في بعض حالات الاغتصاب المؤدي للافتضاض والحمل. فالمفروض حسب رافضي أي عملية تقنين، أن يتم توجيه القضية للعدالة لإيقاف المعتدي وليس إخفاء معالمها. كما أن التقنين يشجع على الفساد والعلاقات غير الشرعية في بلد إسلامي له هويته ومرجعيته الفقهية التي تحرم الإجهاض بشكل مطلق. مع بعض الاستثناءات المحددة في النصوص القانونية، والتي لا يجب الركوب عليها لإجراء الإجهاض.
غير أنه بين هذين الطرحين، يوجد صوت آخر هو الذي عبر عنه الفقيه الزمزمي، رجل الدين الذي رأى أن الإجهاض يمارس في المجتمع لذلك وجب تقنينه.
أما الخلفية الفقهية التي يعتمدها الفقيه الزمزمي رئيس جمعية فقه النوازل، فهي أن بلوغ الجنين ستة أسابيع، يمكن إجراء الإجهاض لإسقاطه، لأن الجنين لم يأخذ بعد صفته البشرية. بل هو مجرد نطفة والطب الحديث أثبت هذا علميا وأقر به. كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال في حديث صريح «إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إِليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها». لذلك فالجنين قبل أربعين يوما ليست فيه حياة بشرية. وقبل هذه الفترة يكون الإجهاض مباحا شرعا، حسب الزمزمي. وللمرأة الحق في إجرائه وليست عليها تبعات شرعية جراء هذا الفعل. واعتبارا لهذا فالإجهاض أصبح محددا في حالتين الأولى اختيارية إذ يمكن للمرأة التخلص من حملها الذي لا ترغب فيه سواء لأسباب صحية أو اجتماعية كالتي أثقل كاهلها وذهبت صحتها من كثرة الأولاد أو الحمل السفاح وغيرها من الأسباب. والحالة الثانية حيث يصبح الإجهاض اضطراريا وهو حين يتجاوز الحمل مرحلة الأربعين يوما في هذه الحالة يسمح بالإجهاض في الحالات الصعبة كأن تكون حياة الأم مهددة إن استمرت في حملها، بعد مراجعة الطبيب وإثباته ذلك في تقرير طبي يشرح خطورة الحالة. فالأم هي الأصل وهي عماد الأسرة والقاعدة الفقهية تدعو إلى اختيار أخف الضررين. إذن فالواجب التضحية بهذا الجنين وليس بالأم التي بوفاتها تتعطل الأسرة تماما. كما يمكن اللجوء إلى الإجهاض والحالة بعد ثبوت تشوه الجنين طبيا. بالإضافة إلى الاجهاض الاضطراري عند الحمل الناتج عن زنا المحارم أو الاغتصاب.
الفقيه الزمزمي يرى وهو يناقش هذا الملف الحساس من زاوية دينية، أن الأصل في وضع القوانين أن تخدم المجتمع وليس أن تشقيه، لذلك فالدعوة إلى رفع العقوبة عن الإجهاض ضرورية، باعتباره أمرا واقعا لا يمكن مقاومته.
هكذا تفرقت المواقف بين متحمس لوضع قانون يجيز الإجهاض، وبين رافض لذلك من خلفية فقهية إسلامية. ودخلت بعض الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني على الخط، قبل أن يحسم الملك في الأمر حينما قال، فيما يشبه التحكيم، بضرورة الإبقاء على الإجهاض أمرا ممنوعا في القانون المغربي، مع استثناءات يسمح فيها بذلك هي الحمل الناتج عن اغتصاب أو زنا المحارم، أو عندما يشكل الحمل خطورة على صحة الأم، أو حينما يكتشف الطبيب أن الجنين به تشوهات خلقية.
حكم الملك اعتبره الكثيرون وسطيا. فيما خرجت بعض الجمعيات النسائية لترى فيه حلا غير كاف. في الوقت الذي كان فيه الحداثيون في الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني مطالبين بالضغط لتحقيق مكسب جعل الإجهاض حقا للمرأة تقرر فيه دون تدخل، باعتباره يعنيها دون غيرها.

كيف اندلعت معركة الهوية في دستور 2011
قضية الهوية في الوثيقة الدستورية الجديدة فتحت نقاشا تجاوز كل حديث عن سلط الملك والحكومة والبرلمان
حينما كان الأمازيغيون يتحدثون عن أن الهوية مستمدة من الأرض، وأنها تظل مفتوحة في وجه جميع أبنائها بتعددهم الإثني واللغوي والديني، كان الإسلاميون يعتبرون أن ذلك مجرد محاولة لجر البلاد إلى شاطئ غير آمن إذا ما تخلت على هويتها الإسلامية التي ليست محط خلاف بين جميع المغاربة. أما خلف هذه الصورة بين مكونين من مكونات المجتمع المغربي، فقد كانت الحرب في الأصل بين الحداثيين والمحافظين.
لقد كانت بعض النسخ التي عرضتها اللجنة الخاصة بتعديل الدستور الجديد بعد الخطاب الملكي الذي أعقب ما اصطلح عليه بالربيع العربي، قد فتحت نقاشا واسعا بشأن هذه قضية الهوية. ومن ذلك مثلا التنصيص على الرافد العبري، وحرية المعتقد، خلافا لما تضمنته نسخة دستور سنة 1996 الذي كان يتحدث عن كون الممارسة الدينية مكفولة.
لقد حمل دستور سنة 1996 تعريفا واضحا يقول بأن المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة لغتها الرسمية هي اللغة العربية.
أما في إحدى نسخ دستور 2011 فقد انضافت للهوية المغربية، عناصر أخرى أهمها أن المملكة المغربية أضحت بلدا مسلما، وأن علاقته بالعالم العربي الإسلامي علاقة تضامن بعد أن كان جزءا منه في دستور 1996. بالإضافة إلى أن المغرب أضحى في الدستور الجديد ينتمي إلى المغرب الكبير وليس إلى المغرب العربي الكبير.
لقد تحدث الملك في خطاب التاسع من مارس عن جملة من الإصلاحات التي رأى أنها في حاجة إلى إعمالها. غير أن ثوابت الأمة ظلت في الخطاب الملكي واضحة، بالنظر إلى أنها محط إجماع كل المغاربة وهي الإسلام كدين للدولة الضامنة لحرية ممارسة الشعائر الدينية، وإمارة المؤمنين.
لذلك لم يفرط محمد السادس في وظيفته الدينية كأمير للمؤمنين، وليس للمسلمين. بل إن الدستور الجديد تحدث صراحة على أن رئيس الحكومة الجديد بكل السلط التي أضحت بين يديه، لن يختار وزير الشؤون الإسلامية، في إشارة إلى أن الشق الديني حاضر في اهتمامات الملك.
غير أن هذا لم يمنع بعض التنظيمات الحداثية من القول صراحة في مذكرتها الدستورية بضرورة فصل الدين عن الدولة. وقد ظل حزب النهج الديمقراطي مثلا يقول كيف أنه مع هوية عربية أمازيغية كعنوان ثقافي وحضاري. ويضيف أن الدولة المغربية يجب أن تكون دولة ديمقراطية علمانية تقوم على أساس الإرادة الشعبية، وتضمن حرية العقيدة، وتحظر استعمال الدين لأغراض سياسية.
وهو ما استجاب له الدستور الجديد في جزء يسير وهو يتحدث، في الجزء المتعلق بحرية العقيدة، عن حرية المعتقد.
قضية الهوية هي أيضا ما أصبحت تتمتع به الأمازيغية من سلط رمزية.
لقد هددت الحركات الأمازيغية، ومن خلفها بعض التنظيمات الحداثية، وقتها برفض الدستور الجديد إذا لم يتم التنصيص على وضعية اللغة والثقافة الأمازيغية. وقد ظلت تعتمد في هذا الرفض على قضية الميز اللغوي التي أدانتها الأمم المتحدة، وخاصة في تقريرها الخاص باللجنة المكلفة بالقضاء على كل أنواع الميز العنصري، ودعت بذلك الدولة المغربية إلى إقرار الأمازيغية كلغة رسمية في الدستور.
اليوم يبدو أن حركات الدفاع عن الأمازيغية قد نجحت في فرض وجهة نظرها بعد أن أصبح ذلك ممكنا في الوثيقة الدستورية الجديدة. فاللغة الأمازيغية وثقافتها ليست مجرد جذور وأصول، ولكنها واقع حي. أو لنقل إنها هوية، على الرغم من أن المتشددين في هذه الحركات الأمازيغية تحدثوا عنها لغة رسمية للبلاد، إلى جانب العربية، لأن اللغة، كما يقول باستمرار الباحث أحمد عصيد «هي بوابة الهوية والحضارة والثقافة الأمازيغية».
لقد فتحت قضية الهوية في الوثيقة الدستورية الجديدة نقاشا آخر تجاوز كل حديث عن سلط الملك وسلط الحكومة والبرلمان. وهو النقاش الذي فرق بين اتجاه دافع عما اعتبره هوية إسلامية لا يجب التفريط فيها مهما يكن. وقد قادته التنظيمات الإسلامية التي هددت هي الأخرى بمقاطعة الدستور الجديد إذا لم يحترم رغبتهم. ويفسر الرافضون لهذا التراجع عما تضمنه دستور سنة 1996 والذي لم يكن موضوع خلاف، في كون حرية المعتقد، مثلا، قد تعني عدم تجريم تغيير الدين الإسلامي، وحرية صيام رمضان. بل إنه قد يمتد إلى تشجيع اعتناق مذاهب إسلامية غير المذهب المالكي، الذي هو محط إجماع المغاربة.
أما المتحمسون لهذه التغييرات التي همت فصول الهوية وهم دعاة الحداثة، فقد قالوا وقتها إن الدستور الجديد يجب أن يستمد روحه من المواثيق الدولية، ما يعني أنه بإمكاننا أن نتخلى غدا عن بعض أحكام الشريعة الإسلامية في قضايا تهم أحكام الإرث مثلا وفق مساواة تامة بين الرجل والمرأة.
أما حكاية اللغة الأمازيغية، فقد أضحى ترسيمها ودسترتها قضية محسومة، على الرغم من أن ذلك في حاجة لعدد من المراسيم التطبيقية.
بين المحافظين وهم في غالبيتهم من المدافعين عن الهوية الإسلامية للمغرب، والحداثيين كانت قد تفجرت الخلافات الكبرى حول الوثيقة الدستورية. وهي خلافات يبقى الحكم فيه هم المغاربة.. كل المغاربة.

الحريات الفردية في مشروع القانون الجنائي.. النقطة التي أفاضت الكأس
شكل مشروع القانون الجنائي الجديد، الذي جاء به وزير العدل والحريات المصطفى الرميد، محط نقاش وخلاف منذ خرجت مسودته إلى العلن.
فبالإضافة إلى بعض الفصول والبنود، التي دخل على خطها رجال القانون والمتعلقة بقضايا مثل الإعدام، أو النشر والصحافة، حيث تحدثت الجمعيات المهتمة على أن هذا المشروع يمثل اعتداء خطيرا على حرية الصحافة والتعبير.
في وقت ظلت فيه الحكومة، وعلى لسان وزيرها في الاتصال، تبشر بنهاية العقوبات السالبة للحرية في قضايا الصحافة والنشر. بالإضافة إلى هذا، شكلت قضية الحريات الفردية مسألة حساسة في مشروع هذا القانون الجديد. وبدا أن الخلفية هي صراع بين تيار المحافظين، الذي يصنف وزير العدل والحريات من أشد المدافعين عنه، ولذلك جاء بقانون بحمولة محافظة تعبر عن الجهة السياسية التي جاءت به، وبين الحداثيين.
المثير هو أن نقاط الخلاف بين التيارين، هو ما كان له اتصال بالدين، كما هو الشأن مع تجريم الإفطار العلني في رمضان، الذي تقول وزارة العدل إنها تتحدث عن تجريم الجهر بالإفطار وإشهاره، وليس عن الإفطار في حد ذاته، بهدف حماية مشاعر الصائمين.
أما ثاني القرارات المتعلقة بالحريات الفردية، فهي تجريم العلاقات الجنسية غير الشرعية، والسكر العلني. قضايا تطالب بعض الجمعيات بإسقاطها.
الحداثيون يطالبون بإسقاط العقوبات التي حملتها مسودة القانون الجنائي بشأن هذه الحريات. بل يتحدثون على أن ما يحدث الآن هو اختزال للنقاش بخصوص المسودة في القضايا المتعلقة بالحريات الفردية، من قبيل تجريم العلاقات الجنسية الرضائية، وتشديد العقوبات على الإفطار العلني في شهر رمضان، وغيرها. وأن هذا الاختزال من شأنه أن يؤدي إلى التغطية على ما تتضمنه هذه المسودة من جرائم وعقوبات خطيرة تمس الحريات العامة، وعلى رأسها حرية الرأي والتعبير، وحرية التنظيم والتجمع والتظاهر، فضلا عن الحريات النقابية.
لم تفوت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان الفرصة لكي تنتقد هذه العقوبات في مسودة القانون الجنائي، والتي لها علاقة بالحريات الفردية. وقال رئيسها إن التنصيص في المسودة على تجريم الإساءة إلى الأديان، يتعارض مع حرية الضمير. وأضاف أن ما نصت عليه مسودة مشروع القانون الجنائي، يمكن أن يكون سببا «لممارسة الرقابة على النوايا والغايات، ويمكن تلفيق التهمة للمبدعين والفنانين».
وزير العدل والحريات صاحب المشروع والمدافع عن اختيارات المحافظين، يؤكد في كل مناسبة على أن الذين يعارضون المسودة هم جملة من الجمعيات والهيئات محدودة العدد ومحدودة الأشخاص، ولا تمثل أبدا الرأي العام الغالب. لذلك قال إن قضايا الخلاف التي تثير الكثير من النقاش في مسودة مشروع القانون الجنائي الجديد محدودة، منها السكر العلني البين دون عذر مشروع في مكان عمومي، والإفطار العلني في رمضان دون إذن شرعي في مكان عمومي، وجريمة الزنا بشقيها الفساد والخيانة الزوجية.، قبل أن يضيف، كيف أن وزارته فتحت حوارا حول هذه المسودة، وهو أسلوب لتمثل الديمقراطية التشاركية بشكل غير مسبوق، وأن وزارته مستعدة للتعاطي الإيجابي مع كل الاقتراحات البناءة. إلا أن النقاش، يعلق الرميد، لا ينصب في جوهر القانون، وإنما في نقاش يحمل بعدا إيديولوجيا.
هكذا فجرت مسودة القانون الجنائي الجديد خلافا بين المحافظين بشأن الحريات الفردية والتي جاء القانون لتجريم بعضها كالإفطار العلني في رمضان، والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، والسكر العلني. وهي قضايا يطالب الحداثيون بعدم تجريمها باعتبارها حريات فردية يمارسها الراشدون برضاهم. غير أن التوجه العام يسير اليوم في اتجاه أن تحافظ مسودة القانون الجنائي على نفس العقوبات، وإن كان وزير العدل والحريات قد تحدث عن استعداد وزارته لتلقي ملاحظات واقتراحات المهتمين. غير أنه رفض المساس بما يعتبره جوهر الدين الإسلامي في المسودة. ومن ذلك الإصرار على الإبقاء على عقوبات الإفطار العلني في رمضان والعلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.