هل تتحدث الدارجة؟" هكذا عنونت مجلة "جون أفريك" الفرنسية مقالا تحليليا مطولا، خصصته للنقاش الذي أثير قبل أشهر بالمغرب، والمتعلق بلغة التدريس في المدرسة المغربية، بعد التوصية التي قدمها نور الدين عيوش، رئيس مؤسسة زاكورة للتربية، والتي أوصى فيها باعتماد الدارجة في التعليم . يستمد النقاش الحالي المطروح بالمغرب حول الدارجة قوته من كونه موضوعا يرتبط بتحديد مفهوم الهوية الوطنية، تقسيم النخب، وفشل منظومة التربية والتكوين، مما يجعل من الموضوع "كوكتيلا" قابلا للانفجار في أية لحظة. يعود أصل النقاش حول لغة التدريس بالمغرب إلى الندوة، التي نظمتها "مؤسسة زاكورة للتربية" يومي 4و5 أكتوبر الماضي. المؤسسة التي يرأسها رجل الإشهار نور الدين عيوش، والتي تنشط منذ خمسة عشر عاما في مجال محاربة الأمية، لاسيما في المناطق القروية. تجاهل الجميع التوصيات التي قدمها نور الدين عيوش في هذه الندوة، لكن وبعد بضعة أسابيع، قامت إحدى الصحف اليومية باستقاء آراء بعض المهتمين بالتعليم حول توصية عيوش، التي أوصى فيها باعتماد الدارجة كلغة أم في التدريس نظرا لسهولتها. ومباشرة بعد أن تطرقت الصحف لتوصية عيوش، لم يتأخر المدافعون عن اللغة العربية الفصحى بمن فيهم حزب العدالة والتنمية، و شركيهم السابق في الائتلاف الحكومي، حزب الاستقلال، في الرد، حيث تجاهل هذا التحالف المحافظ المدافع عن اللغة العربية الفصحى المشاجرات السياسية بين الحزبين، وحاول التكتل في ائتلاف وطني من أجل الدفاع عن اللغة العربية، والذي حظي باستقبال من طرف رئيس الحكومة، وصديقه الحميم عبد الله باها. وعلى طول الجدل الذي صاحب توصية عيوش، التزم عبد الإله بنكيران الصمت، وتحاشى الخوض في هذا النوع من النقاش، لأنه كان يعلم ربما أن موضوع اللغة لن يكسبه الكثير من النجاح سياسيا. فبعد الجدل الذي أثير حول مكانة اللغة الفرنسية في وسائل الإعلام وآثارها الوخيمة على اللغة الأمازيغية، وجه الملك محمد السادس، في شهر غشت الماضي، انتقادات لاذعة لزعيم الإسلاميين حول طريقة تدبير منظومة التربية والتكوين، ولانجازات الحكومة في هذا المجال، مما عجل فيما بعد بإزاحة محمد الوفا من وزارة التربية الوطنية، في النسخة الثانية من الحكومة. ومباشرة بعد خطاب تاسع غشت، عين الملك محمد السادس مستشاره عمر عزيمان على رأس المجلس الأعلى للتعليم، وأناط به مسؤولية إصلاح هذا القطاع، وبهذه الصفة سيحضر عزيمان الندوة التي نظمها نور الدين عيوش، وذلك بحضور أكثر مستشاري الملك تأثيرا، فؤاد عالي الهمة، ورشيد بلمختار، والذي سيعن بعد ذلك بخمسة أيام وزيرا للتربية الوطنية، في حين غاب عن الندوة وزير التربية الوطنية آنذاك محمد الوفا الذي لم يتم استدعاؤه لحضور الندوة، بالرغم من كونه المسؤول الأول عن القطاع. لقد عجل بكل تأكيد توالي الأحداث)الخطاب الملكي، تنظيم الندوة، التعديل الوزاري( بإثارة ونقل النقاش حول الدارجة إلى بلاطو البرنامج التلفزي "مباشرة معكم" على القناة الثانية يوم 27 نونبر الماضي، حيث تناظر كل من نور الدين عيوش وعبد الله العروي في الموضوع. عيوش والعروي..وجهان لعملة واحدة "المخزن" ظهر زعيم اليسار عبد الله العروي في أول خرجة إعلامية له، شخصا حصيفا، لكنه لم يخفي قلقه بشأن الإشكاليات المرتبطة بالهوية الوطنية، حيث خرج قبل مشاركته في برنامج "مباشرة معكم" على القناة الثانية، من صمته الأسطوري، ورد على توصية عيوش في حوار مطول على صفحات جريدة "الأحداث المغربية". قبل العروي أن يتم تدريس اللغات الأم في السنوات الأولى من التعليم، لكنه رفض بالمقابل إضفاء الطابع الرسمي على الدارجة، لكن معارضة عبد الله العروي ليست هي الأولى من نوعها، حيث سبق لابن أخيه الروائي فؤاد العروي، أن نشر مقالا له في عام 2011، يتحدث فيه عن إشكالية اللغات الوطنية، بعنوان " الدراما اللغوية المغربية". وفي تعليق له على المناظرة، اعتبر سليمان بن الشيخ، الصحفي بمجلة "تيل كيل" أن "المناظرة بين عيوش والعروي كانت مهذبة ومتوازنة"، مضيفا أن " كلاهما وجهان لعملة واحدة وهي عملة المخزن" [...]. فالنقاش الذي تابعناه يعكس الغموض الذي يحكم هرم الدولة، والذي يلح على ضرورة الإصلاح دون الإخبار بمضمونه". الفرنسية..التيار الثالث في النقاش ظلت أسبوعية "تيل كيل" لوقت طويل في طليعة وسائل الإعلام المدافعة عن الدارجة، لاسيما من خلال نسختها العربية "نيشان"، التي توقفت عن الصدور في عام 2010. دافعت أسبوعية "تيل كيل"، الناطقة بلسان نخبة فرنكوفونية، عن الدارجة ضد اللغة العربية الفصحى، دون أن تدرك التأثيرات اللغوية التي قد تنجم عن هذه المواجهة، خصوصا إذا استحضرنا أن هنالك عضوا ثالثا قد انضم إلى النقاش والمتمثل في اللغة الفرنسية. أما المصالح الثقافية للسفارة الفرنسية، والتي تتمتع بحضوركمي ونوعي متميز بالمملكة، فقد استوعبت الدرس جيدا وظلت حذرة وبعيدة عن ساحة النقاش. يرى الصحفي عبد الله الترابي، رئيس تحرير المجلة الشهرية "زمان" الناطقة بالعربية والفرنسية، في النقاش الحالي المطروح حول اللغة "فضاءا لمزيد من التوثر بين النخب القديمة والجديدة"، مضيفا أن " قوة التيار الفرنكوفوني يواجه منافسة من قبل طبقة سياسية واجتماعية جديدة ومحافظة فاتجه بالتالي نحو الشرق". فالبنسبة للترابي فكل تيار يدافع عن موقعه الاجتماعي، مكتسباته، وامتيازاته، وقيمه من خلال اللغة التي تضمن هيمنته وتقوي نسبه"، متسائلا حول التكلفة التي يمكن أن تنجم في حالة إن تم التخلي عن اللغة العربية الفصحى ؟ فهذه اللغة تمثل بغض النظر عن المخزون الثقافي والحضاري، امتيازا تنافسيا، وفرصا اقتصادية ورابطا قويا وثمينا بين الشعوب العربية . وفي الوقت الذي يصعب فيه تفسير هذا الشكل من أشكال رفض اللغة العربية الفصحى لاسيما وأن هذه اللغة لازال تحظى بمكانة متميزة في التعليم في مختلف أنحاء العالم، يعتقد الباحث في علم الاجتماع، عمر الساغي، أن "نشر ما يسمى باللغة العربية الفصحى سيكون خطأ فادحا، ليس فقط على المستوى البيداغوجي والأكاديمي، لكن أيضا على صعيد التكلفة السياسية والهوياتية في حالة إن تم اختيار الدارجة كلغة رسمية "، مضيفا أن"اللغة في ملكية الجميع". حينما نتحدث حول الدارجة، فإننا نتحدث في الواقع حول دارجة البيضاويين، التي ازدادت في القرن العشرين، واقتصرت على ساحل المحيط الأطلسي. فالدارجة ليست من فاس، ولا من طنجة، أو مراكش، التي تبدو أقل من اللغة الأمازيغية الأطلس أو الريف.