وجه الملك محمد السادس في ذكرى ثورة الملك والشعب خطاباً جدد فيه التأكيد على توجهات المغرب في سياسته الخارجية وركز فيه على رؤيته لدرء خطر الإرهاب. الخطاب كان فرصة للتأكيد على أولوية السياسة الإفريقية على أجندة المملكة المغربية وعزم هذه الأخيرة على لعب دور محوري في إفريقيا. كما اغتنم الملك محمد السادس رمزية الذكرى ليدعو الجزائر إلى مراجعة مواقفها العدائية تجاه المغرب من أجل بناء مستقبل أفضل لشعوب منطقة المغرب العربي. ولعلَ أكثرَ ما يُميز خطاب 20 غشت هو إدانة الملك للإرهاب وبسطه لموقف الإسلام في علاقته بمفهومي الجهاد والاستشهاد. شجاعة وصراحة أمير المؤمنين جاءت لغة الخطاب التي تبناها الملك في معالجته لإشكالية الإرهاب والجهاد لتكسر صمت الكثير من زعماء الدول الإسلامية. فبينما اختار عدد من القادة العرب والمسلمين الجنوح للصمت أمام المآسي التي يقف ورائها الإرهاب، تعتبر هذه المرة الأولى التي يتبنى فيها رئيس دولة بصفته أمير المؤمنين خطاباً مباشرا ضد الإرهابيين، خطاباً يضع فيه النقط على الحروف. "إن الإرهابيين بإسم الإسلام ليسوا مسلمين، ولا يربطهم بالإسلام إلا الدوافع التي يركبون عليها لتبرير جرائمهم وحماقاتهم. فهم قوم ضالون، مصيرهم جهنم خالدين فيها أبدا." يقول الملك في خطابه. ومن خلال التأكيد على أن الإرهابيين لا يمتون للإسلام بصلة وأن "مصيرهم جهنم خالدين فيها أبدا"، أبان الملك عن شجاعة كبيرة بأن صنفهم خارجين عن ملة الإسلام وقطع مع الفكرة المتجاوَزة التي تقول بأنه لا يمكننا تكفير شخص طالما أنه يعتيؤ نفسه مسلماً. فعندما عالج الملك إشكالية الإرهاب مستدلاً بآيات من القرآن الكريم، فقد أراد أن يدحض الدعاية الإعلامية التي استهدفت في الأشهر الأخيرة الجاليات المسلمة والجالية المغربية على الخصوص في أوروبا والولايات المتحدة. لقد خاطب الملك ولأول مرة المغاربة المقيمين بالخارج داعياً إياهم أن يكونوا في طليعة المدافعين عن السلام ومذكراً بأن الإرهاب بعيد عن القيم الدينية والتقاليد العريقة التي جُبل عليها المغاربة. وكانت تلك رسالة ضد كل الاتهامات التي كيلت من قبل المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأمريكية دونالد ترامب والذي اتهم المغرب بتصدير الإرهابيين. لقد قام الملك بصفته أمير المؤمنين في الآن نفسه بواجبه الكامل كزعيم ديني عندما دعا المغاربة عبر العالم إلى التشبث بقيم دينهم التي تحث على الوئام والعيش المشترك مع الآخر بغض النظر عن معتقداته الدينية. هي إذن المرة الأولى التي يدعو فيها رئيس دولة مسلمة مواطنيه لتقديم أفضل ما لديهم واحترام القوانين في بلدان إقامتهم. ومن خلال تذكيره بالمآسي التي خلفها الإرهاب عبر العالم، أشار الملك صراحة إلى أن المغرب كان من ضمن البلدان الأوائل التي استهدفها هذا الداء. كما جاء الخطاب الملكي ليجيب بشكل جلي على الإعلام الغربي ومحلليه الذين يلومون في الغالب غياب الأصوات المسلمة المنددة بالإرهاب، حيث يهدف هذ الإعلام من خلال ذلك إلى تبرير غياب الأصوات المنددة بالإرهاب بدليل على أن العنف متأصل في الإسلام. وتدحض لهجة الخطاب الملكي في تطرقه للجهاد وأحكامه وكذا الظروف التي تسترعي قيامه ادعاءات من يقولون بأن الإسلام يجيز قتل الأبرياء، حيثُ كان الملك واضحاً حينما ركز على أن الدعوة للجهاد هي من اختصاص إمارة المؤمنين ولضرورة دفاعية ولا يمكن أن تصدر عن أي فرد أو جماعة. إدانة التضليل تخللت الخطاب الملكي آيات قرآنية لدعم حججه، وبصفته أميرا للمؤمنين فقد جرد الملك الجماعات الإرهابية كالقاعدة وداعش من أي شرعية دينية تخول لها الدعوة إلى الجهاد أو تمثيل المسلمين، فهي جماعات ضالة كما وصفها الخطاب تستعمل التضليل والكذب لإقناع الشباب الذين يجهلون اللغة العربية أو الإسلام الصحيح في أوروبا وشبابا آخرين في بلدان إسلامية بالانضمام إليها وخوض مغامرة تعطي معنى لحياتهم. ومن خلال استحضار عدد من الآيات القرآنية والتأكيد على أن الإرهابيين يستغلون التباس المفاهيم وفقدان الهوية والجهل باللغة العربية لدى الشباب في الغرب، فقد أراد عاهل البلاد الدلالة على أن هؤلاء الإرهابيين لا يمكن بأي وجه كان أن يُعتبروا مسلمين وبأن الإسلام بعيد عن التهمة التي لطالما ألصقت به من كونه أرضية مغذية للإرهاب. وبخلاف تكرار نفس الخطاب الذي يُررده عدد من قادة العالم، الغربيين على الخصوص، حول إصلاح الإسلام وتجديده، أكد الملك على أن المشكل لا يكمن في الإسلام في حد ذاته بل في التضليل وفي غسل أدمغة الشباب المسلم من قبل الجماعات الإرهابية. ولعل في دعوة الملك المسلمين والمسيحيين واليهود للوقوف في صف واحد من أجل مواجهة الكراهية والانغلاق رسالة غير مباشرة للإعلام الغربي لحثه على إعادة النظر في رؤيته لإشكالية الإرهاب وميله لربطه في الغالب بالإسلام. لم يكن الإسلام أبداً منبعاً للإرهاب بل كان أول ضحاياه وذلك ما جاء في الخطاب الملكي الذي أرجع السبب في ذلك إلى "الضالين" الذين "يفسرون القرآن والسنة بطريقة تحقق أغراضهم ويكذبون على الله ورسوله" وبذلك تقتضي الضرورة أن يجد الإعلام الغربي والمراقبون مقاربة جديدة لفهم وباء الإرهاب بعيداً عن شيطنة الإسلام وعن تجريد المسلمين من الإنسانية. مصداقية الخطاب الملكي لعل ما يضفي على الخطاب الملكي سلطة ومصداقية وشرعية ليس فقط مكانة الملك باعتباره أميراً للمؤمنين، بل المجهودات التي قام بها المغرب في السنوات الأخيرة لمحاربة كل أشكال التطرف ونعزيز التعايش بين الثقافات، بالإضافة إلى النموذج الإسلامي بالمغرب المبني على قيم السلام والأخوة والتسامح. وعلى عكس كثير من الدول التي تجعل من الأمن أهم ركن في إستراتيجيتها لمحاربة الإرهاب، فقد اختار المغرب تعزيز ونشر السلام والتعايش كما نص على ذلك كتاب الله وسنة رسوله الكريم. وإذا عُدنا قليلاً للوراء، ففي أعقاب هجمات 16 ماي 2003 التي باغتت الدارالبيضاء، اتخذت السلطات المغربية سلسلة من الإجراءات التي أبانت عن فعاليتها في محاربة الإرهاب وجعلت المغرب في منأى عن الإرهاب. فبعد أن فطنت السلطات المغربية إلى أن الرسائل والخطب التي تلقى في المساجد خلال الثمانينات والتسعينات كانت مخالفة لنموذج الإسلام في المغرب وموغلة في التطرف، قررت أن تجعل كل المساجد تحت وصاية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وبالتالي بات كل الأئمة والقائمين على المساجد يعينون من قبل السلطة الوصية. وشملت حزمة الإجراءات أيضاً إطلاق إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم وقناة السادسة للقرآن الكريم بهدف ترسيخ القيم الصحيحة للإسلام لدى المغاربة وتحصين الشباب على الخصوص من أي انحراف أو تضليل من قبل المتطرفين. كما أن المغرب أعاد تأهيل بعضاً من أبرز وجوه السلفية من أمثال محمد الفيزازي وحسن الكتاني وعمر الحدوشي الذين تم توقيفهم بُعيد هجمات الدارالبيضاء وأدينوا بثلاثين سنة سجناً نافذاً. وبتعليمات من الملك محمد السادس، أطلق المغرب في سنة 2014 برنامجا كبيراً لتحويل المساجد إلى فضاء لتكوين الأئمة وتلقين مبادئ الإسلام، وجاء كل من معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات الذي أطلقه عاهل البلاد في مارس من سنة 2015 ومؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في يونيو من السنة ذاتها ليعززا المسار الذي نهجه المغرب في تأهيل الحقل الديني وتحصينه. إن إستراتيجية "القوة الناعمة" هذه جعلت المغرب يعزز دوره كنموذج عالمي في محاربة التطرف وتعزيز قيم السلام والتسامح والاحترام المتبادل. وبالتالي، فليس من باب الصدفة أن تستعين العديد من الدول الإفريقية والأوروبية مثل فرنسا وبلجيكا وإيطاليا بالمغرب بتكوين الأئمة على أراضيها وفق منهاج سوي. لقد كان للخطاب الملكي الأخير السبقُ في غلق النقاش حول اختصاص التحليل المهيمن في الغرب وعلاقة السبب والنتيجة بين الإسلام والإرهاب. وبفضل الصدى الذي خلفه على صعيد العالم، فقد عزز المغرب نموذجه الفريد في محاربة الإرهاب والتطرف وأبان عن قدرته على احتضان القيم السوية للسلام والتسامح كما دعا لها ديننا. وبالتالي، فعلى الدبلوماسية المغربية أن تُحسن استخدام الزخم الذي خلفه الخطاب لجعل الدبلوماسية الدينية واحدة من أهم أدوات إشعاع المغرب وجعله المُحاور الرئيسي لدى المجتمع الدولي في محاربة التطرف وتعزيز قيم التعايش والتسامح. *مستشار دبلوماسي ورئيس تحرير Morocco World News | ترجمة: محمد معاذ شهبان