تحل في هذه الأيام ذكريان وطنيتان عزيزتان : الأولى توافق20 غشت ، وهي ثورة الملك والشعب التي تؤرخ للذكرى الثالثة والستين ، والثانية توافق بعد الحاديَ والعشرين من الشهر نفسه .إن تتابع المناسبتين زمنيا ، له من المعاني بعضها في هذا المقال . فأما ثورة الملك والشعب فهي حدث في تاريخ المغرب المعاصر، صنعه رجال كانوا شبابا ، وغدوا اليوم شيوخا ، وأكثرهم قد أفضوا إلى ربهم برصيد من الجهاد الذي قدم فيه هؤلاء أرواحهم ودماءهم ، فكانوا من الشهداء ، والشهداءُ أحياءٌ غيرُ أموات ، " وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرحينَ بِما آتاهُمُ اللهُ من فضله ويَسْتَبْشِرون بالذين لمْ يَلْحَقوا بهم مِن خَلفهمُ ألاَّ خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون" آل عمران 170. ومن هؤلاء من متَّعه الله بصحة وعافية وطول عمُر ، حتى عاش مرحلة الاستقلال بما لها وما عليها. إنّ تكامل الدلالات في الحدثين والمناسبتين ، الثابتُ فيه هو : الثورة ، فالأول ثورة على الاحتلال والاستعمار ، انتصارا للأرض والدين والعِرض، والثاني ثورة قادها الشباب بعد اندحار المستعمر الغاشم ، ولذلك بقدر ما كانت ثورة الملك والشعب انتفاضة وغضبا في وجه الاحتلال ، حين استهدف رمز الأمة الملك محمدا الخامس - رحمه الله- ، بقدر ما ينبغي أن يكون عيد الشباب محطة لشباب المغرب للاعتبار والتذكر، ومن ثَمّ كان الواجب على الشباب في ذكرى عيد الشباب ، أن يمتلك الوعي الكافي بمركزيته داخل الوطن ، ويفهم التحديات التي تواجهه ؟ على الشباب أن يسأل نفسه: من أنا ؟ لماذا وجدت ؟ وماذا أريد ؟ وما مسؤولتي نحو الدين والوطن الذي ضحى من أجله هؤلاء المقاومون وهو شباب ، ليقدموا هذا الوطن نقيا مطهرا من رجس الاستعمار؟ وأول التحديات أما الشباب امتلاك الوعي ، بأمور ، منها : الوعي بالهوية : التي تمثل المنبت الذي نشأ فيه الشباب ، وهويةُ الشباب المغربي جامعها: الدين والوطن. إن الشباب مدعو لكسب رهان الإحساس والاعتزاز بالانتماء لدينه ، الذي يعتبِر مرحلة الشباب مرحلة النشاط والطموح والقوة التي لا يُضاهيها قوة ، إذا أحسن الشباب استغلالها استغلالا جيدا، وهي القوة التي تحدث عنها القرآن في قوله تعالى :" الله الذي خلقكم من ضُعف ثم جعل من بعد ضُعفٍ قوَّةً ثم جعل من بعض قوّةٍ ضُعفاً وشَيْبَة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير " الروم 53. وقد حدثنا القرآن أيضا عن قوة الشباب التي استثمرها أنبياء الله الشباب في الدعوة إلى الخير والإصلاح ، ،فهذا إبراهيم - عليه السلام – يتحدى المجتمع الغافل ، بعد أداء واجب البلاغ فيعمَد إلى تحطيم الأصنام ، فحين يُسألُ عن الفاعل يأتي جواب القرآن :" قالوا سمعنا فتىً يذكرهم يُقال له إبراهيم" ، و"يحي" كان شابا ، وقد أُمر بأخذ الكتاب بقوة وأوتي " الحكمَ صبيا " ، وموسى عليه السلام في رحلته الطويلة مع فرعون ، وأصحاب الكهف الذين كانوا شبابا حين اعتزلوا أهل الباطل " إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى " ، وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تربية الشباب على الطاعة وأرشدهم إلى استثمار قوة الشباب في العبادة حين أفرد الشاب الناشئ في عبادة ربه بأن يكون أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ،وكان يخاطب ابن عباس من موقع مرحلة الشباب فيقول :" يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك.." ، وكان عليه السلام يأخذ برأي الشباب ، بل وأمّر على الجيش في إحدى السرايا أسامة بن زيد ولم يتجاوز الثامنة عشرة من العمر ، وكان عمر بن الخطاب يقول عن ابن عباس :" ذاكُم فتى الكُهول ، إن له لسانًا سؤولاً وقلبا عقولاً " . الوعي بأهمية العقيدة : عنوان الانتماء للدين ، وكلُّ حركات التغيير عند الأنبياء ظلت مشدودة إلى العقيدة ، وحين تغيب العقيدة السليمة لدى الشباب، يحلّ محلها الضلال والفساد ، ويغدو الشباب فريسة للتيارات الإلحادية ، والمتطرفة التي تستحوذ على العقول والقلوب ، فكم هي الدعوات – اليوم - المناهضة للدين ، التي تصدر عن بعض فئات الشباب ، وكم هم الشباب الذين سقطوا ضحايا الفهم الضال لأمور الدين ، فانقلبت مفاهيمهم ورؤيتهم للمجتمع ، وأصبحوا يصدرون أحكام التكفير والتبديع والتفسيق ، ويرتكبون -على أساس هذا الفهم الخاطئ - أبشع المنكرات ، وكم من الشباب الذي غاب لدي الفهم السليم لأمور الدين ، فألْقى بنفسه في غياهب اليأس والقنوط ، وبدل أن يفكر بروية وإيجابية، للبحث عن الأفضل ، ركن إلى الخمول والكسل ، وغدا ينظر إلى الدنيا وما حولها بعين لا ترى إلا السواد، فإذا به يقع فريسةً للمخدرات بأنواعها ، والمسكرات بأشكالها ، ومنهم من يعمَد إلى التخلص من نفسه بالانتحار ، وما نسبة الانتحار المرتفعة في صفوف الشباب إلى الدليل البيّن، كلُّ ذلك بسبب فراغ الروح ، وضآلة الوعي ، ولذلك فإن من أكبر التحديات أمام الشباب ، أن يسائل النفس عن حالة التدين لديه ، اعتقادا وعملا. إن رمزية مناسبتي : "ثورة الملك والشعب ، و"عيد الشباب"، تظل قائمة ، ومستمرة لمساءلة الشباب عن العلاقة التي تربطهم بذكريات الوطن، باعتبارها جزء من تاريخ البلد الذي يعيش فيه ، فماذا يعرف الشباب عن تاريخ بلادهم ؟ وهل يستحضرون هذه الأحداث معرفة ووعيا وإدراكا لحجم التضحيات التي قام بها الشيوخ والشباب قبل "ثورة الملك والشعب" وأثناءها وبعدها ؟ وهل تحمل الدولةُ هذا الهمَّ ، فتجعلَ من أولوياتها تعليمَ الشباب تاريخ بلادهم ؟ إن عديدا من الشباب اليوم أصبح " يشكّك" في انتمائه للوطن ، ويسائل هذا الوطن بقوله :" ماذا أعطاني الوطن" ؟ شبابٌ أصبح يطرح مثل هذه الأفكار على صفحات التعبير الواسعة ، وإن كانت بأسماء مستعارة، ألا يُخشى على الشباب الذي لا يعرف تاريخ بلاده أن يصبح شوكة في خصْر وطنه ؟ ولذلك فإن من الأجدر في الاحتفال بمناسباتنا الوطنية ان نستمع إلى شبابنا ، إلا معاناة شبابنا ، أن يكون اهتمامُنا بهم بالقدر الذي أولاهم إياهم دينُهم ، حتى نعزز فيهم الانتماء للوطن ، فحاجةُ الوطن إلى شبابه حاجة ماسة ، بهم يتقدم الوطن ، بهم يُحمى الوطن ، بهم ينمو الوطن ، فلا بد من الاعتراف الفعلي للشباب بأنهم العمود الفقري للمجتمع ، بعد الاعتراف الدستوري للشباب ، حين تم التنصيص على دستورية " المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة والشباب" . وإذا كان كثير ممّن صنع " ثورة الملك والشعب" ، وأسهم فيها قد جُوزيَ وكوفئَ ، بما حظي به من إمكانات العيش الرغيد ، والامتيازات المهمة ، فإن فئة عريضة من الشباب تحتاج إلى كثير رعاية ، وأفضل الرعاية تعليمُ الشباب تعليما نافعا، وضمانُ فرص العيش الكريم ، وتوفيرُ فرص العمل أمامهم . إن نسبة البطالة الكبيرة ،هي التي تضرب صفوف الشباب، وتمكينُ الشباب من العمل يجعله منتجا وفعالا لنفسه ولوطنه. في مناسبتيْ " ثورة الملك والشعب" ، و"عيد الشباب" نتذكر رجالا " صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا "، نتذكر شعبًا ثار على نفي ملِكه بعفوية وتلقائية ، فهبّ الناس جميعا للثورة ، فما هدأت ثورة الشعب إلا بعد استرجاع رمزه، وتلت هذه الثورةَ ثورات أخرى ، على الجهل والانحطاط والتخلف ، فكانت ثورة البناء والتشييد ، مع ما شابها من اختلالات ، ومع ذلك فإن هذه الثورة لا زالت مستمرة في عهد جلالة الملك محمد السادس ، تواكب العصر وتطوراته ، وتجلّت آثارها على الثورة على بعض الأساليب الخاطئة التي أصبحت من الماضي في مجالات كثيرة منها : حقوق الإنسان وقضايا المرأة ، والهشاشة الاجتماعية ، ومشاريع التنمية الاجتماعية والاقتصادية . وإذا كانت النخب- إضافةً إلى عموم الشعب- قد تصدت للاستعمار يوم 20 غشت 1953 ، نخبا واعية بقضايا الوطن ، فإن النخب الحالية تحتاج إلى شيء من هذا الوعي بقضايا الوطن وتحديات شعبه ، ومنها أنّ خدمة الوطن لا تخضع للمزايدات الضيقة ، الوطنُ ليس مقاعد للتنافس، قضايا الوطن أكبرُ من أن تُحصَر في مناصب مهما كانت مغرية ،خدمةُ الوطن مسؤولية شرعية وقيمة وطنية وأخلاقية ، ولذلك كان العتاب الملكي في خطاب العرش الأخير قويا لهذه النخب ، من خلال دعوتها إلى الارتقاء بالفعل السياسي ، يقول جلالته :" وهنا أقو ل للجميع، أغلبية ومعارضة : كفى من الركوب على الوطن، لتصفية حسابات شخصية، أو لتحقيق أغراض حزبية ضيقة " . إن هذا الخطاب يحمل أكثر من دلالات لهذه النخب ، ومن أهم هذه الدلالات، أن خدمة الوطن تحتاج إلى صدق وعزيمة وإرادة وتجرّد ، وهذا هو المعيار الصحيح للانتماء لهذا الوطن، وهي عربون الوفاء الذي يُقدمه أبناء هذا الوطن إلى شهداء المغرب في ذكرى " ثورة الملك والشعب"، وهو المطلوب من شباب المغرب في ذكرى " عيد الشباب" الذي هو رمز لكل الشباب.