شهدت العلاقات المغربية الموريتانية، خلال السنوات القليلة الأخيرة، توترا كبيرا على المستوى الدبلوماسي. وبعد أن سادت حالة من الترقب، في ظل صمت رسمي من الطرفين لكشف حقيقة ما يجري، كسّر التحرك الأمني نحو الشريط الحدودي الغربي مع موريتانيا حاجز الصمت، وكان العاصفة التي سبقت الهدوء المغربي. البيان الرسمي الوحيد الصادر عن الجانب المغربي، أعلنته ولاية جهة الداخلة وادي الذهب التي أكدت أن "المصالح الأمنية وعناصر الجمارك بدأت، منذ الأحد ما قبل الماضي، عمليات تطهيرية بمنطقة الكركارات للحد من أنشطة التهريب والتبادل التجاري غير المشروع". وبالرغم من أن البيان لم يشر إلى تفاصيل أدق، فإن البيان ذاته أكد أن هذه "العمليات ما زالت مستمرة"، حيث أسفرت عن "إخلاء ثلاث نقط تجمع لهياكل السيارات والشاحنات المستعملة، وعددها أكثر من 600 سيارة، كما تم تطهير المنطقة من جميع أشكال التجارة غير القانونية ومن يمارسها". جغرافيا، تقع منطقة الكركارات على ساحل الصحراء المغربية قرب الحدود مع موريتانيا، ويطلق عليها سكان المنطقة تسمية "قندهار" نسبة إلى المدينة الأفغانية، اسم يحمل بالفعل أكثر من دلالة. ولعل ما أضفى على التحرك المغربي بعدا أكثر مما حمله البيان الرسمي هو ما اعتبره متزعم الجبهة الانفصالية في رسالة إلى الأممالمتحدة "خرقا عسكريا قرب الحدود مع موريتانيا شملت عددا كبيرا من الوحدات العسكرية وتجاوزت الحاجز الترابي الذي يمثل حدود السيطرة المغربية العادية على الصحراء". الرد الأممي لم يتأخر كثيرا معتبرا، في صفعة قوية للكيان الانفصالي، أن بعثة الأممالمتحدة إلى الصحراء لم تلحظ أي تحركات عسكرية مشبوهة للمغرب في جنوب غرب الصحراء. بعيدا عن لغة البيانات الرسمية، والتي لا تتناول غالبا الأبعاد العميقة والحقيقية للأحداث السياسية، نعتقد أن هذا الحدث يشكل تحولا نوعيا في المقاربة التي سيعتمدها المغرب في تعامله مع الجارة الجنوبية، مقاربة أملتها سياقات متشعبة ومتداخلة. كما أن العملية تحمل، في حد ذاتها، أبعادا ستتعدى تداعياتها المنطقة المغاربية لتشمل منطقة الساحل والصحراء. السياقات الثلاثة للتحرك المغربي في المنطقة الحدودية الغربية مع موريتانيا: لعل السياق الأبرز للتحرك المغربي يرتبط، أساسا، بالتوتر المتصاعد الذي تشهده العلاقات المغربية الموريتانية؛ فكل طرف يؤاخذ على الآخر، ولو بشكل غير صريح، ما يعتبره تصعيدا من جانبه وتهديدا للعلاقات الثنائية التي كانت تتميز قبل وصول القيادة الحالية بموريتانيا، بنوع من الاستقرار والتعامل البراغماتي، خاصة في تدبير الملفات الاقتصادية والأمنية. إن نقطة التحول الرئيسية في العلاقات بين المغرب وموريتانيا هي ما تم تداوله داخل القيادة الموريتانية عن مسؤولية المغرب في محاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس الموريتاني الحالي سنة 2012. معطيات كرّسها رفض الرئيس استقبال مبعوث عن العاهل المغربي داخل المستشفى الذي كان يعالج به داخل فرنسا. من جهة أخرى، فالقيادة الحالية لموريتانيا تؤاخذ على المغرب ما تسمّيه تدخلا في شأنها الداخلي، من خلال إيواء بعض المعارضين على أرضها. كما أصدرت اتهامات مبطنة إلى المغرب بمحاولة إفشال القمة العربية بنواكشوط، من خلال التأثير على حضور بعض رؤساء العرب. كما وجهت سهام الاتهام أيضا إلى الرباط في ما أسمته تسميم العلاقات بينها وبين جارتها السنيغال. من الجانب الآخر، فالمغرب بدأ ينظر بعين الريبة إلى السياسة الموريتانية الجديدة بخصوص ملف الصحراء؛ فقد شكلت وفاة المتزعم السابق للكيان الانفصالي الحدث الذي فضح بشكل واضح النوايا الحقيقية للقيادة الحالية لموريتانيا، سواء من خلال مضمون برقية العزاء أو تمثيلية الوفدين اللذين شاركا في كل من الجنازة والمؤتمر الذي تم فيه فرض متزعم جديد للجبهة الانفصالية. مسلسل استفزازي كرّسته موريتانيا ببرنامج لتبادل الزيارات مع قيادات انفصالية رغبت في الحصول على الدعم الموريتاني؛ بعد الخطوة المغربية لاستعادة العضوية داخل الاتحاد الإفريقي، وتصميمه على طرد الكيان الانفصالي من هذا الاتحاد. الاستفزازات الموريتانية تواصلت من خلال استغلال انعقاد القمة العربية على أراضيها، فنشرت في شارع نواكشوط صورا لخريطة المغرب منقوصة من صحرائه، صورة هزت مشاعر المغاربة قبل أن تستفز القيادة السياسة بالمغرب. وعلى الأرض، ربما شكّل رفع العلم الموريتاني على مدينة الكويرة المغربية ومنع القنصل المغربي بنواديبو من دخول هذه المدينة النقطتين الأخيرتين حتى يفيض كأس العلاقات الثنائية المغربية الموريتانية، ليتبعه مباشرة التحرك المغربي، والذي يبدو أنه لن يقف حتما عند مجرد تطهير الحدود من عمليات التهريب والتجارة غير المشروعة. إن التحليل الهادئ والموضوعي لخلفيات التوتر الحاصل في العلاقات المغربية الموريتانية يجعلنا نميز بكل وضوح بين المؤاخذات الموريتانية، التي تستند في مجملها على مجرد ظنون واستنباطات لوقائع غير ملموسة على الأرض، وتوضح معطى أساسيا وهو أن موريتانيا ربما كانت تبحث عن ذرائع لتسميم العلاقات مع الجارة الشمالية. في المقابل، تعتبر الاستفزازات الموريتانية وقائع ملموسة وواضحة، ومسا مباشرا بالوحدة الترابية للمملكة، ومحاولة مع سبق الإصرار والترصد لتغيير الواقع على الأرض. السياق الثاني للتحرك المغربي يتعلق بالاختراق الذي تمكنت الجزائر من تحقيقه على مستوى توجيه السياسة الخارجية لموريتانيا، خاصة نحو تحقيق أهدافها بمعاكسة المغرب في ملف الصحراء، إلى درجة أصبحت معها القيادة الحالية مجرد أداة طيعة في أيدي المخابرات الجزائرية؛ فالخلفية العسكرية للرئيس الموريتاني وتخوفه الكبير من احتمال تلقي ضربات من تحت الحزام قد تفقده كرسي الرئاسة هما أمران جعلاه يضع البيض كله في سلة الجزائر، ولو على حساب العلاقات مع المغرب. وكان من الطبيعي أن يستثمر هذا الاختراق بشكل بشع، لمحاولة إنعاش جبهة البوليساريو وإيجاد متنفس لها، بعدما أصبحت تعيش وضعا كارثيا بعدما أدرك المنتظم الدولي أنها مجرد عصابة للاسترزاق الدولي. السياق الثالث للتحرك المغربي تكرس كنتيجة طبيعة للسياق السابق المتعلق بالتقارب الجزائري الموريتاني؛ فقد نتج عن هذا التقارب تشجيع كبير لعمليات التهريب التي تقوم بها العناصر الانفصالية بمباركة من النظام الجزائري. كما شكلت، أيضا، مرتعا خصبا للمتاجرة في المساعدات الأوربية المقدمة لمحتجزي تندوف؛ وذلك وفق ما أعلنه التقرير الصادر عن المكتب الأوربي لمكافحة الغش. تضاف إلى ذلك المخاطر الأخرى المحدقة بالمنطقة، خاصة تنامي نشاط الجماعات الإرهابية وتجارة الأسلحة. معطيات جعلها المغرب المنطلق الرئيسي لتحركه الأمني نحو أقصى الجنوب الغربي على الحدود مع الجارة موريتانيا. أبعاد التدخل الأمني للمغرب مع الحدود الموريتانية: سيشكل التحرك الأمني للمغرب تحولا نوعيا في تعامله مع التهديدات القادمة من الجنوب الغربي ومن منطقة الساحل والصحراء؛ فالسياقات التي جاء في إطارها هذا التحرك تجعل أهدافها تتجاوز بكثير هذا المعطى المبدئي. ومن ثم، فإننا نعتقد أن التحرك المغربي يكتسي ثلاثة أبعاد رئيسية، بالإضافة إلى البعد الأمني الذي أشار إليه البيان الرسمي المغربي بكل وضوح. البعد الأول للتدخل المغربي على الحدود الموريتانية يكتسي، بالدرجة الأولى، طابعا استباقيا؛ ففي ظل الاستفزازات المتواصلة للقيادة الموريتانية يهدف التحرك المغربي إلى تفادي أي تهور يمكن أن تقدم عليه القيادة الحالية لموريتانيا على الأرض. ومن ثم، فالإمساك الفعلي بزمام الأمور، الإدارية منها والأمنية بمدينة الكويرة المغربية، أصبح ضرورة ملحة، خاصة أن الوقائع الأخيرة توضح أن هذه القيادة أصبحت خاضعة بالمطلق لتعليمات النظام الجزائري. البعد الثاني للتحرك المغربي يكتسي طابعا تنمويا؛ فبعد عملية التمشيط التي يقوم بها المغرب للمنطقة الحدودية وتطهيرها من المهربين والأنشطة المشبوهة، ربما سيعمل المغرب، في المدى المتوسط، على وضع اللبنات الأولى لمشاريع تنموية خاصة على المستوى اللوجيستكي؛ وذلك من أجل تنمية المنطقة وتثمين بعدها الاستراتيجي في مقاربته للشراكة جنوب- جنوب، والتي أرساها المغرب مع دول غرب إفريقيا. وبناء عليه، تحويل مدينة الكويرة المغربية من مدينة للأشباح إلى مدينة ذات بعد محوري في التجارة العالمية. البعد الثالث ذو طبيعة إستراتيجية؛ فالتحرك المغربي يهدف، على المدى البعيد، إلى عزل موريتانيا اقتصاديا وتجاريا، وتحييد دورها كصلة وصل بين المغرب ودول غرب إفريقيا. ولا شك في هذا المعطى سيؤثر سلبا على الاقتصاد الموريتاني؛ فإذا كانت القيادة الحالية قد حسمت خيارها بالتقارب مع الجزائر، فيجب عليها، في المقابل، أن تضحي بمصالحها الإستراتيجية مع المغرب. ولعل الحكومة الموريتانية قد فهمت الأبعاد العميقة للتحرك المغربي، حيث أعلن الناطق الرسمي أن التحرك المغربي لا يكتسي طابعا استثنائيا، وأن العلاقات المغربية الموريتانية طبيعية في المجالات السياسية الاقتصادية والعسكرية. تصريح انتظرت الحكومة الموريتانية سنوات طويلة حتى توضح للعالم طبيعة توتر العلاقات مع المغرب، وإن كان هذا التصريح يخالف بشكل كلي المعطيات الدبلوماسية على الأرض؛ فسفارة موريتانيا في المغرب دون سفير منذ خمس سنوات. كما أن المستشار السياسي الأول في سفارتها قد غادر الرباط منذ مدة ليست بالقريبة. لعل الأبعاد المرتبطة بالتحرك المغربي تعكس موضوعا لطالما شكل جدلا كبيرا، ويتعلق بالآليات والوسائل التي تتبناها كل من المغرب والجزائر لبناء تحالفاتهما الإقليمية. فعلى الدوام، راهنت الجزائر على سياسة العصا والجزرة في تعاملها مع الدول الإفريقية، فأعطت العصا لعناصرها الاستخباراتية والأمنية لترويع الدول وتهديد استقرارها خاصة منها الدول الحدودية، ومنحت لدبلوماسيتها الجزرة لتوزيع أموال النفط وشراء ذمم ولاءات هذه الدول. ومع الأزمة الدولية التي تعيشها حاليا، ربما ستغيب الجزرة وتحضر كثيرا العصا. أما المغرب فقد أصبح رهانه الآن واضحا في بناء تحالفاته الإفريقية، رهان يرتكز أكثر فأكثر على قواعد الشراكة الحقيقية والتنمية المستدامة. إن التوتر في العلاقات المغربية الموريتانية أصبح واقعا حقيقيا، ولا يجب إخفاء الشمس بالغربال تحت ذريعة الحفاظ على العلاقات الطيبة بين الشعبين الشقيقين. هما، بالفعل، شقيقان؛ لكن التعامل الصارم والحازم مع الأمور هو الذي يمكنه أن يعيد الأمور إلى نصابها، في أفق تطويق التداعيات الكارثية التي من شأنها أن تنتج عن تصاعد التوتر بين الطرفين، خاصة إذا كان هناك طرف ثالث يصب مزيدا من الزيت على النار. وبالرغم من ذلك، فإننا نعتقد أن موريتانيا ستبقى بعدا إستراتيجيا للمغرب، أما القيادة الحالية فهي مجرد سحابة صيف عابرة. [email protected]