كملاحظ ومحلل نفساني، من بين الأشياء التي تثير انتباهي بدهشة قوية رُغماً عني هو غياب حب الوطن عند المغربي، والناتج عن افتقاد محبة النفس. وما زلت أتذكر حينما عدت من المهجر إلى المغرب لأستقر فيه نهائيا لكي أساهم في بناء مجتمعنا بعدما اكتسبت تجارب عديدة بالخارج، واجهت انتقادات من معارفي تتلخص في هذه العبارات الدارجة: "واش انت احمق حارق بالمقلوب" أي أنني أحمق لأنني أهاجر في الاتجاه المعاكس. وكم سمعت من العبارات الشديدة ما صدر من أصدقاء ومعارف من مختلف الأعمار والمستويات مثل: "إوا هذا هو المغرب ما عمرو ولا يتبدل" أو "من في المغرب لا يستغرب" أو "والله لوكان صبت كيندير نمشي من هاد البلاد والله ما نعاود نحط فيها رجلي مرة اخرى"، وكم رأيت شباباً لهم مستقبل واعد ويبحثون عن الهجرة، بالرغم من أن لهم عملاَ مستقراً ودخلاَ محترماً فيقتلعون جذورهم من أرض المغرب للهجرة إلى كندا مثلا. وفي بعض الحالات، رأيت عائلات بأكملها تهاجر من أرض الوطن بلا عودة. وأتساءل ماذا يحدث بالضبط في أذهانهم ليرغبوا بهذه الشدة في الطلاق من وطنهم والخروج منه إلى المهجر، ولو بأشد التكاليف المالية والمعنوية. ولن أتحدث عن الشباب الذين يموتون في سبيل الهجرة إلى الخارج عبر قوارب الموت غير الشرعية. ماذا يحدث في نفوس وأذهان المغاربة، خاصة فئة الشباب؟ ولماذا تسيطر عليهم وساوس الهجرة إلى الخارج؟ من أين لهم بهذه النزوات "أحضروا لي المغرب كما تشتهيه نفسي وإلا أهاجر"؟ والسؤال الذي نطرحه بإلحاح هو: من سيغير المغرب ويطوره ويضمن له الإعمار والازدهار والرخاء والسلام؟ الأجانب أم المغاربة؟ المواطن أم الحكومة؟ إنها مسؤولية كل مغربي صغيرا كان أم كبيراً ومسؤولية الأفراد قبل المؤسسات. إنها مسؤولية كل فرد من أي مستوى اجتماعي أو ثقافي أو عقائدي أن يخدم مجتمعه بإخلاص تام وصدق كامل للمشاركة في ازدهاره ووحدته والتعايش السليم. إلى متى سيستمر المغربي في انتقاد الوطن وأهله في آن واحد؟ كلما وقعت له مشكلة مع جاره أو مع مديره أو في إدارة عمومية أو خصوصية يستعمل العبارة الجاهزة للاستعمال: "إوا هادو هما العرب أو إوا هادو هما المغاربة". الغريب في الأمر هو أني لاحظت مرارا في الخارج حينما يتعرض المغربي لمشكلة ما مع الإدارة الأجنبية أو حينما يحصل طفله على نتائج سيئة في المدرسة أو يتم إقصاؤه من مباراة، نراه يردد العبارة الدارجة: "راسيست كيكرهونا"؛ أي أنهم "عنصريون ويكرهوننا". المغربي يجهل أو يتجاهل تماماً عملية مراجعة نفسه والتساؤل في سلوكياته وهو دائما مقتنع بأنه مضطهد داخل أو خارج وطنه، أليس هذا دليلاً على عدم نضجه العاطفي؟ ليس إذاً من الغريب أن المغربي لا يملك حس الانتماء إلى مجتمعه ووطنه ولا حتى للعالم. ولذلك، فهو يشعر بأنه الضحية في وطنه أو حتى خارجه. كيف لنا أن نغير هذه الوضعية تغييراً كلياً ونتخلص من هذا الشعور وهذه الأفكار بعباراتها السلبية الجاهزة للاستعمال، ونغير علاقة المغربي بمجتمعه ووطنه والعالم بأسره؟ إنها معضلة داخلية تدمر كيان مجتمعنا. الإشكالية تجد جذورها في التربية أساسا وتتوزع على مستويات عديدة: غياب حب النفس عند الطفل: من المؤسف أن التربية المغربية ما زالت تستعمل طرق العنف اللفظي والمعنوي والجسدي وتطيح بكرامة الطفل وتكسر شخصيته. ما زال الطفل المغربي ضحية فعلاً لهذا الاضطهاد. إن هذه الطرق ترسخ عند الطفل الإحساس بالدونية وبأنه غير محبوب وغير مرغوب فيه ولا قيمة له وترسخ فيه هذه العبارة الإجرامية "والله متكون منك شيحاجة، وجهك هي وجه السيرايا والسعايا". ومع مرور الزمان، تترسخ الآثار السلبية لدى الطفل فيصبح عاجزاً عن محبة نفسه بحيث يحتقر نفسه بنفسه ويضطهد نفسه بنفسه. وهكذا، يكره سلوك الآباء والكبار على وجه العموم فاقداً كل ثقته فيهم كما يتم تحطيمه عبر منظومة المدرسة ونظام المجتمع. إن الإنسان الفاقد لحب النفس كيف له أن يحب الآخرين؟ وكيف له أن يحب أبناء مجتمعه؟ وكيف له أن يحب وطنه؟ غياب الحس بالانتماء للمجتمع عند الطفل: التربية المغربية بنمطيتها الحالية تدفع الطفل إلى الاستفادة الشرسة من ما يسمى "حلوى أو كعكة المجتمع" بروح المنافسة الأنانية بعيداً عن مبادئ التشارك وقيم التعاون. كما أنها تفسد الأجيال الجديدة، فتجعل همّ كل فرد ليس خدمة مجتمعه ووطنه بل الحصول على أكبر قدر من المكاسب . إن التربية المغربية، في واقعنا اليومي، تصور المجتمع للطفل كأنه "غنيمة" ويجب عليه أن يفترس أكبر حصة ممكنة له منها لوحده حتى يفوز على الآخرين ويكون أفضلهم. وحينما يعجز الطفل عن تحقيق ذلك التفوق الموهوم المنشود المستحيل التحقيق عليه، تتدخل التربية المغربية بسلاح المقارنات مستعملة هذه العبارة الشهيرة: "شوف سيادك القافزين كيدربو يديهم مشي بحالك أ الضبع". هكذا، تدمر شخصية الطفل بامتياز وتدفن إلى الأبد حب نفسه لديه. وهكذا، يُقدم المجتمع للطفل في شكل سوق بورصة للمضاربات الاحتكارية ويجب عليه الاستفادة منه بأكبر قدر ممكن لنفسه دون غيره. والمؤسف هو أن التربية المغربية التي لا تحمل من الوطن سوى الاسم لا ترسخ لدى الطفل أنه ينتمي إلى هذا المجتمع وبأنه "من أبنائه" وعليه أن يشارك في بنائه وليس في افتراسه؛ لكنها على عكس من هذا تحذره من مجتمعه وبأنه خطر عليه، فإما أن يفترسه أو سيتم افتراسه من الغير كأنه في بحر تلتهم فيه الأسماك الكبيرة الأسماك الصغيرة! فكيف للطفل المغربي أن يكتسب الحس بانتمائه إلى المجتمع؟ كيف له أن يحب مجتمعه إذا وُصف له بالخطير عليه كأنه عدو له؟ كيف له أن يضع ثقته فيه ويحبه ويحب الآخرين؟ كيف له أن يحب وطنه في هذه البيئة التربوية المُحبطة؟ غياب الترسيخ في ذهن الطفل لدوره المهم في ازدهار مجتمعه ووطنه: مع الأسف الشديد، ألاحظ أن التربية المغربية الحالية تدفع بالطفل إلى التفوق فقط في دراسته بهدف الحصول على عمل راق من أجل ربح المال الوفير متناسية أن ترسخ في وجدانه أن التفوق في دراسته يجب أن يتحقق من أجل خدمة أفضل وفعالة لمجتمعه وبلاده؛ فالآباء وأولياء الأمور يدفعون بأطفالهم إلى اختيار الدراسة التي تمكنهم من عمل فيه ربح مالي كثير ضاربين عرض الحائط المهنة التي يتمناها الطفل لنفسه متجاهلين تماماً ترسيخ قيم خدمة المجتمع في الاطفال والناشئة. وفي الفكر الشعبي المغربي الدراسة ما هي إلا وسيلة لربح المال، وهذا ما يتعلمه الطفل وليست وسيلة لاكتساب المعرفة في سبيل خدمة وطنه بحكم انتمائه إلى مجتمعه وبذلك تبعده عن انتمائه ومسؤولياته المستقبلية اتجاه الوطن. في غالب الأحيان، ينهي الطفل دراسته بآلام قوية ويدخل عالم المهنة المجبور عليها بعذاب مستدام؛ لأنه ليس من اختياره ولا من أهدافه. فكيف له أن يخدم ويحب مجتمعه في هذه الوضعية الصعبة؟ غياب احترام الطفل من الكبار: التربية المغربية تفتقد مفهوم الاحترام الغائب تماما، في حين أنه من المفروض أن يكون أعظم أركانها؛ فالطفل لا يُحترم كشخص من الكبار ولا يتعلم بصدق احترام الآخرين. الطفل لا يجد مكانه في الدائرة العائلية، وليس له أي دور وليس له تقدير ولا رأي لا بالنسبة إلى عائلته ولا لمدرسته. يعتبر الطفل كإنسان آلي يبرمج لربح المال ويعتبر كذلك مشروع يستثمر فيه الآباء بهدف تحقيق مردودية مادية مميزة. فيستقر الاقتناع في وجدان الطفل بأنه لا شيء وتصبح كرامته كإنسان مفتقدة تماما. هكذا، ينتهي به الأمر ليصنع صورة سلبية ومنحطة عن نفسه. فمن أين سيأتي بصورة إيجابية عن الآخرين وعن مجتمعه؟ وكيف له أن يحب وطنه والعالم؟ غياب تعليم الطفل احترام الآخرين في تنوعهم واختلافهم: بما أن الطفل المغربي يجهل مفهوم الاحترام ويجهل الاختلاف والتنوع لأن التربية المغربية ترسخ في فكره نموذجاً وقالباً نمطياً واحداً للمجتمع؛ فالاختلاف في الفكر ونمط العيش والعقيدة مثلا في مثل هذه التربية يصبح شيئاً مرفوضاً، ونرى -على سبيل المثال- العنصرية القبلية التي يتم ترسيخها. فيلاحظ الطفل رفض زواج أخته مثلا من شخص من مدينة أو قبيلة أو نسب آخر أو لأن وضعه الاجتماعي غير مناسب في نظر الآباء مع الانتقاد المبني على الأحكام المسبقة غير الموضوعية. فينشأ الطفل على سلبيات عدم التسامح بكل أنواعها وأشكالها. فكيف له أن يتحلى بقيم التعايش مع مجتمع متنوع ثقافيا وقبليا ودينيا وقد رسخت التربية فيه بأن نسبه أفضل من الآخرين وأن دينه أحسن الأديان ومذهبه أفضل المذاهب؟ وكيف له أن يتعايش مع الآخرين ويحترمهم؟ وكيف له أن يحب مجتمعه ووطنه في تنوعه؟ لقد حان الأوان لنراجع أساليب التربية المغربية، ونتساءل فيها إذا كنا راغبين في ازدهار مجتمعنا ووطننا وأن نعي كل الوعي بأن كل فرد منا مسؤول على خدمة مجتمعنا بكل تنوعه بدلا من الفرار إلى بلدان أخرى. وبدون مشاركة كل واحد منا، فلن يتغير مجتمعنا.