يعيش المغرب هذه الأيام على وقع محاكمة غير عادية، ليس لأنها تخص صحفيا أصبح يمثل ظاهرة، ولكن أنها قد تحدد المسار الذي ستأخذه قضايا النشر والصحافة في المستقبل، خاصة وأن الأمر يقبر في صورته الحالية، كل الشعارات التي زينت الواجهة الحقوقية للمغرب خلال السنوات القليلة الماضية. بعيدا عن لغة المجاملة وتكرار عبارات التضامن، أفضل أن أسجل بعض الملاحظات العابرة، من وحي اللحظة الراهنة، والتي ستكون علامة بارزة في تاريخ علاقة القضاء بالصحافة في مغرب العهد الجديد. -لا أحد من حقه أن يمن اليوم على رشيد نيني، ويمارس اتجاهه أي نوع من الترفع والاستعلاء والنرجسية الفظة، ولا أحد من حقه أن يعطيه دروسا في "العفو عند المقدرة"، فقد كان أولى بهؤلاء وأولئك أن يمتلكوا الشجاعة عندما كان نيني يجلدهم صباح مساء في عموده اليومي، دون أن يتجرأ أي منهم على الر عليه. لقد كتبت قبل أسابيع متمنيا لو نسمع أن واحدا ممن اتهمهم نيني -بالباطل طبعا فكلهم أبيض من الثلج- وضع نفسه تحت تصرف أجهزة التحقيق، أو طالب بفتح بحث مفصل ودقيق في تلك "الادعاءات"، أو بادر من تلقاء نفسه للتصريح بممتلكاته، أو حتى رفع دعوى أمام القضاء واكتفى بطلب درهم رمزي كتعويض انتصارا للحقيقة العارية. إن السكوت على كل تلك الاتهامات الخطيرة، والمس بالشرف الذي يصم المتهم وأسرته وحتى من قد يسلمون عليه بشكل عرضي، ثم انتظار قيام "القابلة" بعملها -على رأي وزير الاتصال السابق عند حديثه عن مشكل قناة الجزيرة- للظهور بمظهر "الجنتلمان" الذي يتعفف عن الشماتة في نيني في وقت الشدة، بل ويتضامن معه في محنته، ولم لا يطالب بأعلى صوته، بمتابعته في حالة سراح..هي ممارسات يصعب توصيفها أو تصنيفها.. - لا أحد مع القذف والسب المجاني، لكن حين يتحمل شخص ما مسؤولية عامة، فإنه يتخلى تلقائيا عن جزء كبير من حصانته الشخصية، لأن كل خطوة تحسب عليه، حتى لو كانت في مناسبة عائلية أو خلال سهرة على أضيق نطاق. ولنستحضر فقط كم يبلغ سعر الصور الحميمية لشخصيات عامة في أعرق الدول الأوروبية، حتى لو التقطها المصور المتطفل في غرفة نوم أو مرحاض. ومن أراد ألا تتعرض له الصحافة فليجلس في بيته، فنحن لم نقرأ لا لرشيد نيني -ولا لغيره- أنه كتب عن "س" من المواطنين العاديين الذين يشغلهم الهم اليومي الخاص عن الشأن العام. - إن بعض الصيغ التي استعملها كثير من الزملاء الصحفيين في التعبير عن تضامنهم "المبدئي" مع نيني، هي إدانة لهم قبل أن تكون موقفا يحسب لهم. فحين يركز كثيرون على القول بأنهم لا يتفقون مع ما يكتبه نيني لكنهم رغم ذلك يتضامنون معه في محنته، فإنهم يلعبون أسوأ الأدوار، فلو كان مفروضا في كل صاحب قلم أن يكتب فقط ما يتفق ووجهة نظر الآخرين، فلماذا يوقع كل كاتب باسمه الشخصي، أليس الأولى البحث عن توقيع مشترك بما أن الاتفاق شرط..في الأخوة المهنية؟.. - علينا أن نقر بأن تجربة "المساء ميديا" أثارت حسد كثير من المشتغلين عالم الصحافة، حيث لأول مرة شاهدنا كيف أن عمودا يوميا ثابتا، نجح في بناء مقاولة صحفية حقيقية تربعت على عرش الصحافة الوطنية في عز تراجع المطبوعات الورقية. ولا أحد من قبيلة الصحافيين في موقع يؤهله لمحاكمة هذه التجربة من الزاوية المهنية، لأننا باختصار لا نتوفر على ضوابط مهنية حقيقية، وقد سبق وكتبت بأنه من العيب أن تتوفر حتى أبسط الحرف اليدوية على أمناء وعلى قواعد عرفية صارمة، في الوقت الذي يضع فيه كل حامل قلم قواعده الخاصة التي يحاسب غيره وفقها وبناء عليها. ولهذا فإن كثيرا من الذين نصبوا المحاكم الأخلاقية لرشيد نيني وجريدة "المساء" في الآونة الأخيرة، عليهم فقط مراجعة أرشيفهم الشخصي.. ومن وجد أنه ليس في صحيفته ما يشينه، فليرم الآخرين بحجر.. - كثير من الأصوات اعتبرت ما تعرض له رشيد نيني جزءا من معركة رسم الحدود بين مراكز القوة في محيط صناعة القرار، وهذا ليس كلام مدمني المعارضة الراديكالية، أو هواة تفسير كل شيء وفق مقتضيات نظرية "المؤامرة"، بل جاء في أعمدة ثابتة على صفحات الجريدة الناطقة باسم حزب الاستقلال الذي يقود أمينه العام الحكومة، بل إن الزميل عادل بنحمزة سمى الأشياء بأسمائها، وبشكل لا يحتاج إلى شرح أو توضيح. - إن المشكلة الحقيقية ليست في ما يكتبه رشيد نيني، بل في استعداد القارئ لتصديق ذلك بعيون مغمضة. فنيني لم يزد في النهاية على أن نقل الكلام الذي يتداوله الناس في المقاهي والنوادي والشواطئ وحتى على موائد الطعام في أقصى قرية على طول المغرب وعرضه..بل إن شباب 20 فبراير الذي يصنع الحدث هذه الأيام رفع لافتات، لا تحمل فقط صور من "تطاول" عليهم نيني في جريدته، بل ولائحة الاتهامات الخطيرة والصريحة الموجهة إليهم..وأكثر من ذلك فإن ما تتداوله المواقع الإلكترونية أخطر ألف مرة مما يمكن أن يحمله عمود "شوف تشوف"..بل إن صورة ذلك المواطن الذي تجول طويلا أمام البرلمان وهو يرفع سبورة عريضة يتهم فيها وزيرا في الحكومة الحالية بأنه "شفار كبير"..هكذا بالبنط العريض وبالألوان الطبيعية..جابت كل بقاع المعمور عبر الشبكة العنكبوتية..دون أن تتحرك أية جهة لإعمال نصوص القانون.. - إن الخوف الحقيقي الذي عبرت عنه أكثر من جهة، وهو خوف مشروع"، يتمثل في إمكانية استدراج القضاء إلى معركة يفترض أنه ليس طرفا فيها، خاصة وأنه مقبل على الحصول على "استقلاله" كسلطة ظلت منذ أول دستور للمملكة، مجرد عصا في يد مراكز القرار لتأديب الخارجين من "بيت الطاعة". والمشكلة ليست في "المحاكمات ذات الطبيعة الخاصة"، بل في ضعف التأليف وسوء الإخراج. فمن حقنا أن نتساءل مثلاً، لماذا لم تبادر أية جهة لفتح تحقيق في الاتهامات التي وجهها رشيدي نيني لمسؤولين معروفين؟ ألم يكن بالإمكان استدعاؤه حينها كشاهد أو صاحب بلاغ لمطالبته بتنوير العدالة بما عنده من أدلة، وفي حال عجزه أو امتناعه، ساعتها يمكن محاسبته بعيدا عن الطريقة الاستعراضية التي تسير بها الأمور حاليا؟ - ألا تتم إهانة القضاء، حين يتم الإفراج عن الانفصالي التامك ومن معه، ومتابعته في حالة سراح، مع أن الجميع يدرك ما الذي تعلمه في تندوف، وما الذي أوحت إليه به المخابرات الجزائرية خلال حجته الشهيرة، التي انتهت باتهامه بالخيانة العظمى من طرف الصحف والأحزاب المغربية..وهي التهمة التي سبقته إلى "التشرفط بها أميناتو حيدر، التي أصبحت اليوم فوق المساءلة رغم أن ما قالته وما فعلته أخطر مليار مرة من المنسوب إلى رشيد نيني.. ألم يبدإ التامك جولته العالمية "المعادية" لمصالح المغرب بمجرد مغادرته الزنزانة؟ - الأعجب من ذلك، أنه من بين كل الضحايا المفترضين لرشيد نيني طيلة السنوات الأربع من عمر جريدة "المساء"، لم يتحرك لوضع شكاية سوى رجال أمن، اعتبروا أنفسهم متضررين مما كتبه "المتهم". فأية رسالة يراد توجيهها من هذه الخطوة؟ وهل عجز كل الذين تعرضوا ل"التعلاق" في ركن "شوف تشوف" عن الحضور أمام هيئة المحكمة ولو كشهود، بحيث لم يتحل بشجاعة المواجهة سوى الأمنيون؟ لقد كانت أهم الخلاصات التي طبعت ما يعرف اليوم بسنوات الرصاص، أن جهات ما عملت ما في وسعها من أجل زرع أسباب العداء بين المجتمع المدني والمجتمع الأمني. وكنا نعتقد أن تجاوز مرحلة الإنصاف والمصالحة، سيؤدي إلى مد جسور الثقة بين الطرفين، فرجل الأمن في نهاية المطاف هو مواطن مغربي يأكل نفس الخبز ويشرب نفس الماء ويتنفس نفس الهواء..وبالمقابل حين تسوق الظروف مواطنا "مذنبا" بين يديه، فالمعيار الوحيد هو القانون ولا مجال للانتقام أو منطق التعليمات.. - يدعي كثيرون أن معالجة ما بعد أحداث 16 شابتها شوائب، وقد جاء ذلك على لسان ملك البلاد شخصيا في حواره مع "إل باييس" سنة 2005، كما أن أفواج المعفو عنهم خلال السنة الجارية لا يمكن أن يفهم منه سوى أنه خطوة على درب التصحيح.. فهل الحل هو محاكمة رشيد نيني لأنه ردد كلاما يجتره سياسيون وحقوقيون في السر والعلن؟ أليس الأجدى تشكيل لجنة من شخصيات قانونية مشهود لها بالاستقامة، تنكب على دراسة كافة الملفات المتعلقة بهذه القضية، وتقدم خلاصة عملها بعد ستة أشهر أو سنة، فيأخذ كل ذي حق حقه، بدل أن يظل هذا الملف حصاة في حذاء المغرب تعوقه عن السير بالسرعة المطلوبة على درب بناء دولة الحق والقانون والمؤسسات؟ - لقد علمنا التاريخ، أن أفضل طريقة لنشر الأفكار هي سجن أصحابها، فقد عجزت أسوار الزنازن مهما كانت عالية عن حصار الكلمة أو قتلها؟ ولا أحد يدري ما هي الرسالة التي يفترض أن يفهمها حملة الأقلام وعموم المواطنين من الطريقة التي يحاكم بها صحافي أعزل لا يقود حركة انفصالية ولا يطالب بإسقاط النظام.. لقد كنا ننظر في ركننا الغربي إلى إخواننا المشارقة، بنوع من الاستعلاء والثقة الزائدة في النفس في كل ما له علاقة بحرية الرأي، ويبدو أن الآية انقلبت..فبعد أن بدأت الديموقراطية في الزحف على مصر وتونس وليبيا وسوريا وغيرها من المعاقل التقليدية للديكتاتورية..سيكون من المخجل أن يهدم المغرب في لحظة، كل ما بناه في عقود..بسبب خوف البعض من "ن والقلم وما يسطرون".. * كاتب من المغرب [email protected]