إذا كان هناك تخوف على الثورة في مصر وتونس من أن تتم سرقتها أو الالتفاف عليها من طرف فلول النظام السابق، فإن الخوف على ما جاء في خطاب 9 مارس هو من الحاشية التي أصبحت تستأثر وحدها بظل المظلة.. حيثما وليت وجهك هذه الأيام إلا وتسمع أو تقرأ كلاما عن مفاعيل "الثورة العربية"، ونصيب المغرب منها، بل أكثر من ذلك انطلق نقاش عمومي صاخب، وخاصة بعد الخطاب الملكي "المفاجئ" أولا بحجم الخطوات "الإصلاحية" التي بشر بها، وثانياً بتوقيته غير العادي، وهو نقاش لم يرتق -بكل أسف- وفي جميع الأحوال إلى مستوى حساسية المرحلة. من المؤكد أن التاسع من مارس مثل لحظة مفصلية سيتحدد بناء عليها شكل مغرب المستقبل، لكن هذا لا ينبغي أن يدفعنا إلى الإفراط في التفاؤل، لأن التجارب علمتنا أن بين القول والفعل، ما بين الأرض والسماء، وليس هذا تشكيكاً إطلاقاً في صدق الإرادة الملكية، بل هو خوف مشروع من "البطانة" التي عادة ما تتكفل بالتفسير والتأويل وحتى "التنقيح".. لكن دعونا أولا نسجل بعض المعطيات حتى تكون علامات على طريق تحليل ما حدث وما هو آت: - إن ما نشهده اليوم في من تغييرات، لم يكن ليخطر على البال خاصة بعد أن "استقر" الوضع لمهندسي المرحلة الذين دفنوا السياسة عميقا تحت الأرض، وتفرغوا للتمدد في كافة الاتجاهات، بعد أن تيقنوا بأن المغرب الذي يوصف عادة بأنه "استثناء" في محيطه العربي، لم يشذ عن القاعدة التي تجعل السياسة ضمن آخر اهتمامات المواطن المنشغل أساساً بالجري خلف الخبز اليومي، وبأمنه الشخص المباشر في ظل حالة الانفلات غير المسبوقة.. - إن ما حدث في تونس ومصر لم يكن ثورة بالمفهوم الاجتماعي والسياسي لهذه الكلمة، بل كل ما في الأمر أن النظامين انتهى عمرهما الافتراضي، بسبب الفساد المستشري الذي وصل حد "السيبة"، ولأن الفساد لا ينتشر إلا مع الخوف، فبمجرد ما انهار جدار الرعب الذي شيده النظامان الشموليان، تهاوت كل الأصنام..ثم إن الثورة مشروع بديل مناقض لمنظومة قائمة، وهو ما لم يتوفر في البلدين معاً، بدليل المخاض الذي نتابعه يوميا..حيث مازال الجميع يتلمس طريقه نحو المستقبل.. - لو حدث ما حدث في الشرق قبل عشر سنوات، لما كان هناك صوت واحد قادر على التخويف من تكرار نفس السيناريو بالمغرب، على اعتبار أن البلد كان قد دخل فعلا مرحلة جديدة من تاريخه السياسي، وكان على وشك إنجاز انتقال ديموقراطي حقيقي، لولا أن مهندسي المرحلة ارتأوا - بقصر نظر لا يحسدون عليه- أنهم أمسكوا بكافة الخيوط، وأن أمامهم "عمراً مديدا" من الانفراد والارتجال، حتى أصبحنا أحيانا أمام تكرار لكثير من صور تسلط الماضي، لكن دون أن نفهم هل نحن أمام "اجتهادات/عنتريات فردية"، أم "سياسة/انتكاسة عامة".. - من المستبعد أن يصبح في المغرب جماعة 20 فبراير في مواجهة جماعة 9 مارس، كما يخطط له البعض، على غرار 8 و 14 آذار اللبنانيتين، لسبب بسيط، هو أن معركة الإصلاح السياسي لن تكون بين هؤلاء في نهاية المطاف، بما أن الفيسبوك سيظل في كل الأحوال عالما افتراضياً بعيدا كليا عن الواقع على الأرض.. - إن التطورات الأخيرة، لا تنزع عن الدستور المغربي صفة "المنحة" التي رافقته منذ صدور أول "طبعة" منه في بداية الستينات، والفرق الوحيد أننا سنكون هذه المرة أمام لجنة معينة، هويات أصحابها معروفة، عكس ما كان عليه الأمر في السابق، حين كان الملك يعلن التعديلات الدستورية عبر خطاب متلفز، ثم يهلل لها الإعلام العمومي على طريقة "اكذب.. حتى يصدقك الناس"، ثم تتولى "أم الوزارات" عملية كتابة سيناريو وتمثيل وإخراج مسرحية الاستفتاء..لتأكيد حالة "الإجماع الوطني"الموهوم..ولا أظن أن نزول بضع عشرات أو مئات أو حتى آلاف من "الشباب" إلى الشوارع، أو توزيع منشورات "إلكترونية"، سيغير من واقع الحال شيئا.. إن هذه المعطيات تظل ضرورية لفهم السياقات التي ستحكم المرحلة الراهنة وما سيليها من تطورات مازالت في رحم الغيب، وسيكون من العبث ادعاء القدرة على قراءة المستقبل في ظل الضبابية التي نعاينها حاليا، والتي مردها أساسا إلى وجود انطباع قد يتحول قريبا إلى حقيقة واقعة، يتمثل في وجود أكثر من مركز قوة داخل دهاليز صناعة القرار..وهو ما يفسر حالة التخبط التي كثيرا ما أجهضت في السابق أوراشا إصلاحية وسياسية لا تقل أهمية عن الأوراش الاقتصادية والاجتماعية التي عرفها المغرب في العقد الأخير.. ولنبدأ من حيث ينبغي البدء.. هل كان نزول الشباب في 20 فبراير وتكرار الاحتجاج كل نهاية أسبوع بعد ذلك، سببا في الخطوات المتسارعة التي تم اتخاذها :الانسحاب من "التجارة الداخلية" والقطاعات المالية والإنتاجية، فالإعلان عن فتح أبواب السجون والإفراج عن كثير من المحكوم عليهم وفق التعليمات وليس بناء على نتائج التحقيقات، ثم التعديلات الدستورية الجذرية...؟ في اعتقادي المتواضع أن ما جاء في الخطاب الملكي ليوم 9 مارس، لم يكن وليد يوم وليلة، ولا عملا متسرعاً مرتجلا من وحي اللحظة، بل أدعي أن خطوطه العامة ربما اختمرت منذ زمن، لكن "الاجتهادات" الخاطئة والنصائح المضللة لبعض مهندسي المرحلة هي التي أوقفت السيرورة التي رافقت عملية انتقال العرش حيث إن الجميع كان يتوقع إطلاق إصلاحات سياسية شاملة قبل الانتخابات التشريعية لسنة 2002، لتتويج مرحلة انطلقت في أواسط التسعينات، وعلى أمل وضع العهد الجديد بصمته على دستور مغرب الألفية الثالثة.. لولا أن "البطانة" لم تستوعب أن مستقبل البلد أكبر من كل الطموحات الشخصية الضيقة، والمعارك الصغيرة، والحروب المجانية على المواقع تحت المظلة، والتي وصلت في لحظة من اللحظات إلى حد الإيهام بوجود منافسة من نوع ما بين الوزير الأول والملك الشاب، وهو ما تمت ترجمته من خلال كثير من الإساءات للأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، انتهت بإخراجه من الباب الخلفي بالشكل المهين الذي تابعناه..مع عزف نغمة "قطع الطريق" على عرف دستوري محتمل يقضي بتعيين الوزير الأول من الحزب الذي حصل على الرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية.. و"قطع الطريق" هذا، سيتحول إلى لازمة متكررة لتبرير كثير من الممارسات التي عرقلت اندفاعة العهد الجديد، وأعادت الأوضاع عقودا إلى الوراء، بل أجهزت حتى على المكاسب السياسية والحقوقية القليلة التي راكمها المغرب خلال الخمسة عشر سنة الماضية، وأساءت إلى صورته ومصداقيته في المحافل الدولية، فقط لأن عينة "رجال الدولة" الذين جاءت بهم المرحلة عجزوا عن التأقلم مع حجم السلطات التي وجدوها بين أيديهم..ورحم الله الإمام عليا..ف "من تولى ولاية رآها أكبر منه تغير لها".. لقد أضاع المغرب عشر سنوات وزيادة في مرحلة انتقالية مملة وطويلة بدت بلا نهاية، وتحولت مع الوقت إلى نكتة لا تضحك غير مؤلفيها، خاصة بعدما استفاق كل الذين راهنوا على الاندفاعة "التحديثية" للعهد الجديد من مغاربة وأجانب، على تأسيس "الحزب الإداري الجامع المانع"، كتتويج معاكس لمسار طويل جدا من الإنصاف والمصالحة ومحاولات دفن الماضي، كان يفترض أن ينقل المغرب إلى مصاف دول الشمال، لا أن يخسف به إلا حضيض دول المشرق.. إن ما يبرر الشك المنهجي في المستقبل، والنظر إلى مشروع الإصلاح السياسي الملكي بنوع من الخوف والتوجس، هو أن كثيرين مروا بجانب الملفات الحقيقية التي يفترض أن تكون موضوع نقاش مفتوح وصريح..بلغة السياسة وأدواتها، وليس بالشعارات والاستعراضات والتعابير المحنطة المستمدة من سواء من قاموس "مولاي مصطفى"..أو من تركة "غيفارا".. **هؤلاء خطر على المغرب.. لقد حذرت قبل سنوات أن الخطر الحقيقي على المغرب يكمن في زواج محتمل بين جزء من الطبقة السياسية، مستعد لبسط ظهره لكل راكب، بما أن سقف طموحاته لا يتعدى مصلحته الشخصية ولو في أضيق الحدود، وبين جزء من النظام لا يؤمن بالديموقراطية، ولا يتسع صدره لسماع رأي مخالف مهما كان وجيها..وهو الزواج الذي نتج عنه "الوافد الجديد" الذي كان ميلاده إيذانا بنهاية عهد السياسة في هذا البلد، ونعياً صريحا للإرادة الشعبية، ودفنا لكل التطلعات المشروعة في الحرية والعدالة والمستقبل الأفضل. بصراحة، لا يمكننا اليوم الحديث عن أي أصلاح سياسي أو دستوري، في ظل استمرار الوضع على ما هو عليه، وفي ظل استمرار نفس اللاعبين في الإمساك بكافة خيوط اللعبة.. صحيح أن الإرادة الملكية كانت صريحة وواضحة وصادقة، لكن الشيطان يكمن في التفاصيل، وهذه التفاصيل بكل أسف قليلون هم من يهتمون بها..رغم أنها قد تؤدي إلى إجهاض حلم شعب بأكمله، وإلى السطو على الإرادة الملكية وتحريفها، تماما كما حدث في السنوات الأولى من "العهد الجديد"..وكما حدث قبل ذلك في سنوات الرصاص، عندما كان رجال "الحاشية" يخترعون الأعداء ويحاربونهم باسم الدفاع عن الملك والملكية.. وأظن أن الأمر هنا يتطلب ربما تقديم مثال بسيط لهذه التفاصيل التي يستقر فيها شياطين الإنس، ممن لا تنفع معهم استعاذة ولا بسملة..فكلنا نعلم أن الملك لا يمكنه مثلا أن يطلع شخصيا على ملفات كل المرشحين لشغل الكثير من المناصب التي يتم التعيين فيها بظهير، وهذا واقع مشترك بين جميع رؤساء الدول حتى الديموقراطية منها، لأن التدقيق والتمحيص هو عمل الدائرة الضيقة لمركز صناعة القرار.. وهنا تبرز مثلا قصة الوالي جلموس الذي حمله كثيرون مسؤولية ما حدث في العيون من أحداث دامية، وما لحق جراء ذلك من ضرر بقضية الوحدة الترابية، فقد رأينا كيف تم إقحامه بعد ذلك ضمن لائحة التعيينات، وبشكل أوحى بترقية بدل محاسبة.. إن هذا المثال معبر للغاية، فالمسؤول الذي كان يفترض أن يحال على "محاكمة عسكرية" أو على الأقل على "كراج الداخلية"، تمت تزكيته وتقديمه من جديد أمام الملك، قبل أن تخمد نار "اكديم إيزيك" ربما ليساهم في إشعال حريق أخر في عبدة، لولا أن تعيينه "الجديد" لم يتعد مفعوله وكالة المغرب العربي للأنباء، حيث إنه لم يطأ آسفي ولو زائرا أو عابر سبيل، قبل أن يتم تعيين خلف له بعد أيام معدودة.. ألا نقول هنا على الأقل إن هناك من حاول وضع الملك أمام الأمر الواقع؟ ولا داعي بعد ذلك لطرح كثير من الأسئلة الأخرى الضرورية التي ليس أقلها : من هو المسؤول عن هذا "التفصيل" الصغير المسكون بالشياطين؟ ** الإعلام العمومي.. لا يجادل إلا معاند في الإقرار بأن قناة "الجزيرة" ساهمت بقدر وافر في إسقاط كل من بن علي مبارك، حتى أن هيلاري كلينتون نفسها اضطرت للإقرار صراحة بأن هذه القناة أصبحت لاعبا أساسيا على المستوى الدولي وليس في حدود الشرق الأوسط فقط.. هذه الحقيقة، وحدهم الجاثمون على صدر الإعلام العمومي عندنا لم يدركوها، حيث مع مغرب كل يوم تقترب تلفزتنا أكثر فأكثر من القنوات الخضراء "الجماهيرية" تلفزات الأخ العقيد وفضائيات اليمن السعيد، بل إن صناع القرار اعتقدوا أن النماذج التي تقدمها القنوات "العمومية" لشباب مغربي بلا لغة ولا هوية ولا انتماء، هي السمة الغالبة في الشارع المغربي، وأن سقف الأحلام هو المشاركة في "ستوديو دوزيم"، بل حتى عندما تحركت جماعات 20 فبراير..ظلت المسلسلات التركية والكورية والأمريكية اللاتينية المدبلجة باللهجة المغربية طبقا يقدم يوميا للمشاهد، وكأن القائمين على الشأن الإعلامي يعيشون في كوكب آخر.. لم تصمد قنوات مصر - وهي بالعشرات- أمام تسونامي الجزيرة، فهل تصمد قنواتنا العشرة غير المبشرة ..في مواجهة من هذا النوع؟ لحسن الحظ أن "الجزيرة"، ومن يرسم خطها التحريري، لم تتحرك للرد على هرطقات "مسقط الطائرات" يوم أطلق النار على قطر وحريم حكام قطر..وإلا لكانت الخسائر أكثر من أن يحصيها العد.. فماذا يجدي إذن تعديل الدستور إذا كان الإعلام العمومي أول قلعة معاكسة للتغيير؟ ألا نتذكر كيف استضافت القناة الثانية، غداة الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية مرشحا "مستقلاً" كل ما في حوزته ثلاثة مقاعد حصدتها لائحته، ومع ذلك تحدث كما لو كان خلفه 300 نائب ضمن أغلبية مريحة؟ في أي بلد يحترم نفسه، يمكن لقناة عمومية أن تتصرف وفق ما يمليه عليها مزاج أشخاص، وليس وفق ما تحدده الضوابط المهنية وتوجهات الرأي العام، ونتائج الانتخابات؟ ألا يمنح الإعلام الفرنسي العمومي فرصة حتى للحزب الذي يطالب بعودة الملكية للدفاع عن أفكاره؟ وهل هناك بلد في العالم يمكن أن يسلم مديرية الأخبار لمديرة لا تتكلم اللغة الرسمية للبلد؟ ثم ألم تكن الأنشطة الحزبية للتراكتور تنافس الأنشطة الملكية على الصفحة الرئيسية لموقع وكالة المغرب العربي للأنباء على شبكة الانترنيت؟ و...و...و...و... ** الحكامة الجيدة.. يفترض أن يقود التعديل الدستوري بداية ومنطقياً إلى ترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة، بما أن نجاح الديموقراطية المحلية رهين بتوفر هذا العنصر.. لكن دعونا نتساءل على الأقل عن مفهومنا المغربي للحكامة الجيدة.. فالتغيير المأمول لن يحدث بمنطق "كن فيكون" أو بالضغط على الأزرار، ولو كانت المشكلة في النصوص القانونية، لتم حلها منذ قرون وليس عقود فقط..وإنما المشكلة في البشر الذين يترجمون هذه النصوص على أرض الواقع.. ولو طلب مني تحديد تعريف ل"الحكامة الجيدة"، لقلت إن سكان الرباط مثلا لن يخسروا شيئا إذا حرموا من مشاهدة أفخاذ الليدي "جاجا"، وعجيزة شاكيرا هذه السنة..لكن سكان أنفكو وما جاورها وما ماثلها من قرى المغرب المنسي سيخسرون كثيراً إذا لم تتوفر الاعتمادات اللازمة لبناء مستشفيات ومدارس وطرق.. لكن هذا المفهوم يتناقض ربما جملة وتفصيلاً مع "المشروع المجتمعي" الذي بشرنا به مهندسو المرحلة، ولم نر من ثماره لحد الآن سوى صدر نانسي وسيقان هيفاء..وفلجة خالد وصلعة بلال.. ** القضاء..والقدر.. طبل كثيرون للارتقاء المتوقع بالقضاء إلى "سلطة مستقلة"..وغاب عنهم هنا أيضا أنه حتى لو استوردنا التنظيم القضائي البريطاني بنقطه وفواصله، فإن المشكلة ستظل في البشر الذي يطبق النصوص.. وإذا كان المصريون يفخرون بأنه حتى لو لم يكن لديهم قضاء مستقل، فلديهم على الأقل قضاة مستقلون، فإن الإشكالية التي ستظل عالقة قبل وبعد التعديل الدستوري عندنا في المغرب هي "السادة القضاة".. لسوء الحظ أن النقاش المتصاعد منذ خطاب 9 مارس، ظل في غالبه نظرياً وبيزنطيا، وقد كان بالإمكان اختصار كثير من الوقت والجهد عبر اختيار نماذج لأحكام صدرت في قضايا "رأي عام" أو ضد صحف وصحافيين مثلاً، ومناقشة القضاة الذين أصدروها، لنفهم على الأقل هل نحن أمام ضعف في التكوين وجهل بالقانون، أم أمام شيء آخر... وأظن أن نقاشا من هذا النوع سيقودنا حتما إلى تحديد موطن الداء، خاصة إذا أخذنا على سبيل المثال الأحكام الصادرة في الطعون المتعلقة بالانتخابات الجماعية الأخيرة، وعلى رأسها التفسير العجيب الذي أعطي للمادة الخامسة من قانون الأحزاب، حيث كنا في الواقع وربما لأول مرة في التاريخ أمام سلطة قضائية تعاكس إرادة السلطة التشريعية.. فأي إصلاح دستوري أو قضائي يمكن انتظاره من قضاة يتحركون وفق ما يمليه عليهم التليفون وليس القانون؟ وأية استقلالية يمكن أن يحققها القضاء، إذا كان كثير من رجاله ونسائه يقبلون التحول إلى أدوات لتصفية الحسابات الحزبية والشخصية الضيقة؟ ** الإدارة الترابية..والإرادة الملكية.. سيكون من الوهم المطلق الرهان على نجاح ورش "الإصلاح المؤسسي الشامل"، في ظل استمرار نفس المنطق الذي يتحكم في ممارسات رجال السلطة، خاصة منهم الولاة والعمال. لا داعي هنا لتوقيع شهادة وفاة "المفهوم الجديد للسلطة"، فقد أصيب بسكتة دماغية بعد كل الانتكاسات التي راكمها منذ الإعلان عنه قبل أكثر من عقد من الزمن..لكن دعونا نتوقف فقط عند بعض المؤشرات المعبرة.. فلا يمكن لأية خطوة إصلاحية أن تنجح في هذا البلد ما لم يتجند العمال والولاة بصدق للدفع بها إلى الأمام، وهذا واقع لا يرتفع..وأظن أن أول إشارة كان لابد من إطلاقها قبل الحديث عن تعزيز صلاحيات رؤساء الجهات، هي تطهير الإدارة الترابية من الأسماء التي لعبت نفس الدور الذي كان المحافظون يلعبونه في مصر لصالح مرشحي الحزب "الوثني" الديموقراطي.. وأظن أن اللطخة التي تسبب فيها هؤلاء خلال الانتخابات الجماعية الأخيرة، تتطلب إعمال مبدإ "التخلية قبل التحلية"، لأنه ما لم ترسل رسالة واضحة وصريحة إلى هذه الفئة من الموظفين النافذين، فالأكيد أن الدستور المعدل لن يكون سوى كتيب إضافي يزين رفوف الخزانات، بل قد يكون أقل حظا من مدونة الأسرة أو مدونة السير.. لقد شاهدنا خلال انتخابات 2009 كيف أن بعض الولاة والعمال تخلو عن واجب التحفظ الذي يفرضه عليهم موقعهم كممثلين للملك، وانخرطوا صراحة وعلنا في دعم مرشح على حساب آخر، بل لم يبق أمام بعضهم سوى ارتداء تي شورت "البام" والنزول إلى الشارع لتوزيع منشوراته الانتخابية.. إن هذا النوع من المسؤولين المحليين، خطر على الدولة أولا وقبل كل شيء..وفي ما حدث في مصر وتونس عبرة لمن يعتبر..وإن كان كافيا أن نتساءل عما إذا كان العمال والولاة يتعاملون بنفس الموازين مع "طلبات" تأتيهم من "البام" وأخرى ليس من حزب العدالة والتنمية، بل من حزب الوزير الأول نفسه..حتى لو تعلق الأمر بطلب الترخيص لتنظيم نشاط حزبي .. **حان وقت السياسة.. إذا كان هناك من يعتقد أن خرجات وتحركات شباب 20 فبراير، يمكن أن تكون كافية وحدها لتحريك المياه الآسنة، فهو واهم..والأخطر من ذلك أن يعتقد هؤلاء الشباب أنهم أصبحوا فعلا يملكون مفاتيح التغيير..وأنهم يمثلون الشعب المغربي، أو أن من حقهم تقديم أنفسهم كبديل للبرلمان الذي يطالب بعضهم بحله..بدعوى أنه لا يتمتع بالصفة التمثيلية.. إن هؤلاء الشباب سيكونون أمام ثلاث امتحانات متتالية خلال الثمانية عشر شهرا القادمة، ليؤكدوا مدى إدراكهم لدقة المرحلة، وإتقانهم لأدوات "اللعبة" السياسية، وإلا فسيكونون مجرد موجة عابرة في تاريخ المغرب، مثل موجات الهيبي والهيب هوب..وما قبلهما وما بعدهما.. الامتحان الأول هو الضغط على لجنة المنوني من خلال تقديم أرضية واقعية وعملية للتعديلات الدستورية، تكون بعيدة عن الغوغائية والتهريج واستحضار شعارات ثقيلة على اللسان خفيفة في الميزان.. فاعتبار أن المؤسسات الحالية لا تمثل الشعب، أو أن الأعداد القليلة التي نزلت إلى الشوارع منذ 20 فبراير أخذت تفويضا على بياض من المواطنين المغاربة، هو نوع من الطيش السياسي الذي لا تسمح به هذه المرحلة المفصلية في تاريخ المغرب.. الامتحان الثاني هو الاستفتاء على الدستور، حيث سيظهر مدى العمق الشعبي الذي يتوفر عليه شباب 20 فبراير، ونسبة المشاركة ستكون كلمة الفصل. فسواء رفض هؤلاء التعديلات أم وافقوا عليها، فإن قدرتهم التعبوية والتأطيرية ستكون على المحك، لأنهم إن نجحوا في دفع الكتلة الناخبة إلى المشاركة بكثافة سواء للتصويت بلا أو بنعم، فإن ذلك سيعتبر مؤشراً تنبغي مراعاته في الخطوات اللاحقة، وسأكون سعيداً لو نجح هؤلاء الشباب في إسقاط الدستور عبر صناديق الاقتراع، بدل إطلاق التهديدات الفارغة ب"تحريك" شارع مصاب أصلا بالشلل.. الامتحان الثالث وهو الأهم، يتمثل في الانتخابات التشريعية لسنة 2012، والتي ستحدد مصير مغرب المستقبل..فإذا كان شباب 20 فبراير واثقين من قوتهم التنظيمية، فلماذا لا يؤسسون حزباً -أو أحزابا-، خاصة وأن الإدارة لا يمكنها أن تحرمهم من هذا الحق، ثم يخوضوا الانتخابات، وإذا احتلوا المرتبة الأولى يقودوا الحكومة..فالمعادلة بسيطة للغاية، وتجار الانتخابات سيسقط في أيديهم حين تتجاوز نسبة المشاركة 70 أو 80 في المائة، لأنه لا يمكنهم شراء مئات الآلاف من الأصوات خاصة إذا تغيرت قواعد اللعبة، كما أن السلطة في أحسن الأحوال لن يكون في مقدورها أكثر من الاستمرار في حيادها "السلبي".. وامتحان الحزب والانتخابات هو الذي سيكشف ما إذا كان الشباب قادرين على التكتل في إطار سياسي، وقادرين على تدبير الاختلاف بأساليب ديموقراطية.. إن هناك فرقا كبيرا بين السجال من أجل السجال، والتحدي كتعبير عن الرفض أو التميز، وبين ممارسة السياسة في الواقع، لأنه لا توجد دولة على الأرض، أو على مر التاريخ، حكمها جيل واحد، بل إن الطبيعة البشرية تفرض التكامل بين الأجيال..فإذا كانت الأمم والدول في حاجة إلى جرأة واندفاع الشباب، فهي أحوج إلى حكمة ورزانة الكهول والشيوخ...اللهم إلا إذا كنا سنخترع مؤسسات موزعة وفق نظام "الكوطا" بين الأجيال والأعراق واللغات والسحنات ولون البشرة والذكر والأنثى.. ** هذه مبررات التشاؤم.. إذا كان هناك تخوف على الثورة في مصر من أن تتم سرقتها أو الالتفاف عليها من طرف فلول النظام السابق، فإن الخوف على ما جاء في خطاب 9 مارس هو من الحاشية التي أصبحت تستأثر وحدها بظل المظلة.. لقد قلت أعلاه، إن الخطاب الملكي جاء بسقف أعلى مما كان يتوقعه كثيرون، والخوف الحقيقي هو من "مهندسي المرحلة" الذين لن ينظروا حتماً بعين الرضا إلى أية خطوات إصلاحية حقيقة تجردهم من أصولهم "التجارية" التي جعلتهم الآمرين الناهين في السياسة والاقتصاد وحتى المهرجانات الفنية.. إن أية ثورة تكون ملزمة بتحصين مكاسبها، وتطهير جيوب المقاومة المتوقعة، وشل حركة أعدائها المحتملين..وإذا صحت تسمية الخطاب الملكي "ثورة"، فإن أول خطوة لقطع الطريق أمام محاولات "التخريب"، تتمثل في إبعاد من عجزوا عن قراءة الواقع المتغير، وكانوا يقودون المغرب نحو تكرار نماذج مصر وتونس..وإذا لم يحدث ذلك، فيبدو أن مشاهد العنف في الدارالبيضاء وخريبكة ستتنقل ككرة النار لتشعل حرائق في كل مكان، في محاولة لإثبات أن الشعب لا يستحق كل هذه الجرعة من الديموقراطية..وأظن أن من لعبوا ببراميل البارود في العيونن وانتقلوا مؤخرا إلى تقديم حروب المصالح على أنها احتراب بين أهل فاس وأهل الريف، أو بين قبائل الصحراء.. لن يثنيهم شيء عن إشعال حرائق في كل مكان مادامت رؤوسهم مطلوبة لأكثر من جهة ديموقراطية.. قد يقول قائل، لقد قطع الخطاب الملكي ألسنة من يقدمون أنفسهم على أنهم سدنة الملكية وأنهم ملكيون أكثر من الملك..ولذلك أقول..لقد استمعت إلى الخطاب وقرأته أكثر من مرة..فلم أجد أفضل من هذه المقولة الفرنسية للتعليق .." Trop bon pour être vrais.."..ليس تشكيكا في الإرادة الملكية..ولكن خوفا من ردات فعل "مسامير البلاط".. [email protected]