6 فبراير 1963 ترى عيني النور في درب فريحة المتواجد بقرية الجماعة ( سباتة) بمدينة البيضاء.وقد تزامن ذلك مع حلول شهر رمضان المبارك. كان درب فريحة على غرار باقي أحياء العاصمة الاقتصادية نموذجا لروح وثقافة التضامن والتآزر بين أبناء الحي، إذ تجد مختلف جهات وثقافات المغرب ممثلة في الحومة الواحدة، يسود فيها جو من التآخي والانتماء ( أولاد الدرب). ترعرعت في هذا الجو المفعم بالأخوة والتسامح والوطنية الصادقة وعشت أياما جميلة أتدحرج بين كرم الدفئ العائلي وسخاء وعفوية الجيران رغم الظروف الصعبة وقلة الموارد المالية. لكن غنى النفس ونعمة القناعة كانت هي السائدة آنذاك، جمعت كل أفراد الحي وشكلت كنزا لا ينضب لازلت أغرف منه إلى حد كتابة هذه السطور. عائلتي تنحدر من الأقاليم الجنوبية. ظروف الاضطهاد التي كانت تمارسها السلطات الاستعمارية بداية القرن الماضي على أهلنا في الصحراء وكذا تعاقب السنوات العجاف دفعتهم إلى اللجوء صوب الشمال. بالخصوص منطقة عبدة والحوز والرحامنة وبالتحديد بوشان.دوار التهالات حيث استقرت عائلتي نظرا لتشابه المناخ والتضاريس. في 1938 وبفعل وباء التيفوس الذي اجتاح البلاد وتسبب في الآلاف من الضحايا ، لجأ أبي وعمره لم يتجاوز العشرين إلى مدينة البيضاء حيث بدأ رحلته الكبرى في البحث عن قوت عيشه إذ بدأ مشواره البيضاوي في ''كريان زرابة'' بالقرب من المنطقة الصناعية. والتحق به أبناء عمومته من الدوار ليشكلوا النواة الأولى للعائلة الكبيرة بالمدينة. قيام السلطة الاستعمارية بنفي أب الأمة في 1953 دفع والدي إلى الالتحاق بالمقاومة تحت غطاء التجارة التي كان يمتهنها. وكان صلة وصل بين المواطنين وأعضاء المقاومة عبر الإعانات النقدية والعينية التي كان يتوصل بها لفائدة المقاومة. بعيد الاستقلال ، تأتي مرحلة الجهاد الأكبر حيث شاءت الأقدار أن يهاجر إلى فرنسا طلبا للعمل في 1966. وهناك عان الأمرين البعد عن أبنائه الستة وقسوة الطقس بالمهجر والغربة. فرنسا التي حارب تواجدها بالأمس القريب رفقة المغاربة الشرفاء كانت ملاذه الأخير لكسب قوته وضمان العيش الكريم لعائلته. رحلة العمل المؤقتة ، تحولت إلى استقرار دائم إلى حين حصوله على التقاعد في تسعينيات القرن الماضي. رغم الامتيازات التي كان ينعم بها، كان رحمه الله كان يرفض الكلام عن الجنسية إيمانا منه أن الوطنية مقدسة و"تمغربيت" تجري دماؤها في العروق وليس مسألة وثائق ومستندات فقط. كان يعتبر أن الحصول على الجنسية الفرنسية هو بمثابة خيانة للوطن ودماء الشهداء، وبقي متشبتا بمبادئه إلى أن وافته المنية بداية 2012. محطة 6 نوفبر1975 شكلت منعطفا مهما في حياتي ، إذ عشت وأنا طفل ذو 12 ربيعا حدثا قل نظيره امتزج فيه الوعي مبكرا بروح الوطنية والانتماء للوطن. كنا أنداء ونحن في مقتبل العمر نعيش على إيقاع المسيرة الخضراء ونردد أغنية "العيون عينيا والساقية الحمراء ليا.... " وهي تبث ليل نهار على أمواج الإذاعة والشاشة الصغيرة بالأبيض والأسود. كما كنا نتوجه للساحات لمشاهدة الحافلات التي تأتي من كل حدب وصوب وعلى متنها مئات الشباب والشيوخ والنساء يمثلون كل ربوع المملكة. وجهتهم مدينة مراكش تم أكادير فالأقاليم الجنوبية في مشهد رائع ومعبر عن روح السلام لاسترجاع أقاليمنا الجنوبية وتحرير إخواننا في الصحراء في زمن الحرب والعدوان. تمر السنين وتظهر أول شرارات صراع مفتعل تمتد خيوطه إلى ما بعد الحدود. الغاية منه هو تقزيم المملكة الشريفة وقطع امتدادها الطبيعي والبشري والتاريخي مع أفريقيا واحتواؤها ورهن مستقبل أبنائها..... في شتاء 1981 ، شاءت الأقدار أن أسافر لأول مرة مع أخي محمد إلى شمال المملكة.رافقنا أمي رحمها الله إلى مدينة سبتة حيث كانت ستقل الباخرة في اتجاه اسبانيا ثم باريس حيث كان يعيش والدي. في طريقنا بين مدينة تطوانوسبتة كنت ألاحظ الفراغ الكبير على قارعة الطريق. على يميني البحر الأبيض المتوسط وعلى يساري مئات الحقول وبعض الأكواخ والدواوير المتناثرة هنا وهناك. عندما وصلنا إلى المضيق، استرعى انتباهي مشهد لم يسبق أن صادفته في حياتي. مئات الأشخاص رجالا ونساء يقومون بحمل البضائع وأسطول من الطاكسيات والحافلات في انتظارهم. استفسرت الأمر، فأجابني أخي أن هؤلاء الناس يقومون بتجارة التهريب " CONTREBANDE". لم استسغ حينها معنى المصطلح . لكن عندما وصلنا الى باب سبتة كانت المفاجأة. أسراب من الحمالين يدخلون ويخرجون من المدينة المغتصبة محملين بأطنان من البضائع.صدمت لهول المشهد.انتابني إحساس ممزوج بالغبن والحسرة.....تساءلت مع نفسي ما معنى أن أكون في تراب ينتمي جغرافيا وتاريخيا ووجدانيا للمغرب وتوجد فيه حدود. كيف ومتى ومن قرر ذلك. تساؤل منطقي ومشروع لكل شاب في ربيعه 18. من هنا بدأت فعليا أعي مسألة الانتماء للوطن وأسير على ركب أبي ومنهجه في الحياة."الرجل تيموت على دينو أو ولادو أو بلادو". ثلاثة عقود مرت تحولت خلالها معالم المنطقة وأصبحت جوهرة الشمال وقبلة للمصطافين من مختلف أنحاء المملكة والخارج. كما أضحت شواطئها تضاهي أجمل شواطئ البحر الأبيض المتوسط. صيف 1982 تبدأ المغامرة الكبرى ومعها اكتشاف ما بعد البحار شعوبا وحضارات وثقافات. ذهبت لأول مرة إلى عاصمة الأنوار باريس لأكتشف عالما جديدا بطقوسه وتراثه وأسراره.رحلتي الاستكشافية دامت 3 أشهر زرت فيها العاصمة الفرنسية وأستمتعت بمتاحفها وأزقتها وجمالها..... هنا أيضا كنت على موعد مع التاريخ ؛ إذ شاءت الأقدار أن ألتقي بأحد أقربائي المستقرين بباريس. وكما هو معهود قام بدعوة قريبه الشاب إلى مطعم صيني فاخر متواجد بالمقاطعة 13 (CHINA TOWN ( عربونا على حسن الضيافة .....الخ. بعدها بأيام تأتي الاحتفالات بعيد الإنسانية الذي ينظمه الحزب الشيوعي الفرنسي بمنطقة لوبورجي le Bourget) ( ضاحية باريس بداية شهر شتنبر من كل سنة. يدعوني القريب إلى هذه التظاهرة فأقبل بكل سذاجة الدعوة وأنا شغوف لاكتشاف مهرجان الإنسانية... مرة أخرى الصدمة لكن هذه المرة أفظع وأخطر لآني كنت عن غير قصد ضحية مؤامرة محبوكة ومشروع جهنمي لم أستوعب حينها أبعاده وأهدافه. ولولا لطف الله ورضات الوالدين وحسي المبكر بالمسؤولية لانجرفت في وضع لا تحمد عقباه. أثناء زيارتي لمختلف أروقة المهرجان رفقة ابن العم والتي تضم مختلف بلدان المعمور وجدت نفسي فجأة وسط رواق حسبته للإخوان الفلسطينيين نظرا للعلم الذي يشبه علمها لكن عند انتباهي لبعض الجزئيات فهمت أنني في المكان الخطأ وفي لمحة بصر وجدت نفسي خارج الرواق بل خارج المهرجان كأن قوة خارقة دفعتني خارج الزوبعة. ولحد كتابة هذه السطور لا أتذكر كيف رجعت إلى باريس التي تبعد عشرات الكيلومترات عن لوبورجي le Bourget) ( سنين بعدها فهمت أن الشباب المغربي من أصول صحراوية كانوا مادة دسمة للمخابرات الجزائرية ومؤامرة البعض من أبناء قبيلتهم. إذ كانوا عرضة للإغراءات حيث يتم استدراجهم وغسل أدمغتهم ليجدوا أنفسهم في كف عفريت متحالفين مع الشيطان ومجندين ضد وطنهم الأم. الحمد لله الذي ألهمني إذ لم تنطلي الحيلة علي ورجعت إلى بلادي في سلام رفقة والدي رحمهما الله. أكملت دراستي الثانوية وحصلت على شهادة الباكالوريا صيف 1984 فعدت إلى باريس لاستكمال دراستي الجامعية. كانت الجامعة آنذاك تعج بمختلف الأطياف والتيارات المذهبية والحزبية وكذا المصالح الاستعلاماتية الداخلية والخارجية. كل له أجندته الخاصة. يظهر إبن العم من جديد وتبدأ فصول مسلسل جديد انتهى بداية 1987. وقد صادف ذلك دخول والدتي مستشفى ) ( HOTEL DIEU إثر وعكة صحية. يقوم بزيارتها للاطمئنان عليها ويدعوه والدي لتناول وجبة العشاء في المنزل. كان حينها ينعم في سخاء وهناء ومظاهر الترف تبدو للعيان. بعد العشاء وبدون أي مقدمات كما كان معهودا لدى والدي قام هذا الأخير بإلقاء اللوم على القريب وعاتبه بشدة على تصرفاته والطريق الذي سلكه. كما ناشده بالرجوع إلى رشده وزيارة أمه التي لم يراها منذ أخر زيارة له للمغرب في 1978 ووعده بإقامة وليمة ونحر جمل إن هو تراجع عن غيه وبهتانه. ردة فعل القريب كانت قوية. إذ اعتبر والدي رجعيا....الخ. لكن أشهر بعد هذا الحدث تعتقله الإدارة الجزائرية بتهم شتى وكاد أن يفقد حياته لولا لطف الله وثقل القبيلة واعتبارات أخرى ! في يوم من أيام أبريل من سنة 1994 أتلقى مكالمة هاتفية من عائلتي تدعوني فيها للتسجيل في لائحة الإحصاء للمشاركة في عملية تحديد الهوية المزمع تنظيمها في 1998 تمهيدا للاستفتاء حول الصحراء. لم أتردد لحظة وتوجهت إلى القنصلية العامة بباريس حيث قمت بواجبي الوطني. يأتي صيف 1998 وسيتجدد الموعد مع التاريخ لكن هذه المرة كان بطل القصة هو الحاج الناجم كنتوري لعروسي. المكان مركز الاصطياف التابع للمكتب الوطني للكهرباء بعين السبع. الحدث عملية تحديد الهوية تحت إشراف الأممالمتحدة. في ذلك اليوم تم استدعاء العائلة وفي مقدمتها رب الأسرة للمثول أمام اللجنة الأممية وبالطبع ممثلي قبيلة لعروسيين السيد الكوري والسيد السالك لكماش وممثلها من االجانب الأخر أحمد لكماش. ما أن تقدم الحاج وقدم نفسه والقبيلة ( لعروسيين) والفخضة ( أولاد الخليفية) والعرش (أولاد سي الدغاغ) والأهل ( الناجم ولد المهدي ولد احمد ولد حماد). ما أن سمع أحمد لكماش ما ردده الحاج حتى قام وبدون سابق إنذار وقبل رأس والدي أمام الملأ في مشهد معبر ومؤثر لايحتاج لأي تعليق. سنين بعدها، يعود أحمد لكماش إلى الديار ويستقر بين أهله وذويه بمدينة الداخلة . ونحن على مشارف الاحتفالات بالذكرى 63 لثورة الملك والشعب، الحدث الذي ألهب مشاعر الوطنية لدى الشعب المغربي وعجل برحيل الفرنسيين، الدرس الذي يمكن استخلاصه هو أن مسألة الانتماء للوطن ليست مجرد أنشودة نرددها من حين لأخر وفي المناسبات الرسمية وليست ترف نتباهى به. بل سلوك وثقافة وإيمان. إحساس مقدس ووجداني يغني الإنسان ويعطيه الإحساس بالوجود. تحية العلم تبقى لحظة استثنائية تذكرنا بالشهداء الذين ضحوا بالغالي والنفيس في سبيل الوطن ووحدة الهوية الوطنية. أنتهز أيضا مناسبة الاحتفال باليوم الوطني للمهاجر لتقديم تحية إجلال وتقدير واحترام لإخواننا مغاربة العالم، سفرائنا بالمهجر وجنود الخفاء في قضايا الأمة المصيرية. وأستحضر بهذه المناسبة العزيزة مقتطف من خطاب العرش لسنة 2015 حيث قال جلالة الملك محمد السادس"...غير أن اهتمامنا بأوضاع المواطنين في الداخل لايعادله إلا حرصنا على أبنائنا المقيمين في الخارج وتوطيد تمسكهم بهويتهم وتمكينهم من المساهمة في تنمية وطنهم..." بعد غياب أزيد من 30 سنة يرجع ابن العم إلى رشده ويلبي نداء الوطن ويلتقي بأمه قبل أن تفارقنا إلى دار البقاء. في رحلة العودة صاحبه أبنائه الذين لم يسبق لهم أن عانقوا أرض أبائهم وأجدادهم. ترعرعوا بين مخيمات لحمادة وجزيرة الشباب بكوبا بعيدا عن وطنهم. أرض يوسف ابن تاشفين وأحمد المنصور الذهبي ومحمد الخامس أب الأمة والحسن الثاني باني العهد الجديد ومحمد السادس ملك الألفية الثالثة.