بمجرد ما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، دخل العالم مرحلة الحرب الباردة، فانقسم على نفسه إلى معسكرين اثنين، وهما المعسكر الرأسمالي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية، والمعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي. انحازت الصين في البداية إلى المعسكر الشيوعي، لتنفصل عنه لاحقا منذ أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، وتنحاز بشكل تام إلى قضايا العالم الثالث. وباعتبار فترة الحرب الباردة كانت فترة تقاطب أيديولوجي، فقد حاول وقتها كل معسكر اعتماد مجموعة من الإستراتيجيات، من أبرزها تقديم المساعدات، التي اختلطت فيها في الكثير من الأحيان الأهداف النبيلة بالمآرب السياسية. وفي هذا الصدد توجهت مساعدات الاتحاد السوفياتي إلى البلدان الاشتراكية، بغرض تحقيق سوق اشتراكية مستقلة عن الغرب الرأسمالي، ليتشكل بذلك النموذج الواقعي في تقديم المساعدات؛ أما الولاياتالمتحدة فركزت مساعداتها على الدول المؤثرة في الحروب الذي خاضتها على طول فترة الحرب الباردة إلى الآن، وكان هدفها عموما هو ضمان هيمنتها العسكرية؛ وهكذا تركزت مساعداتها في خمسينيات إلى سبعينيات القرن الماضي في كوريا الجنوبية وفيتنام وشرق أسيا عموما، ثم انتقل تركيزها إلى أمريكا اللاتينية في الثمانينيات؛ وفي التسعينيات تركزت مساعداتها في الشرق الأوسط، لترجع إلى بلدان شرق أسيا في الوقت الراهن. وعكس النموذجين السابقين، أخذت المساعدات الفرنسية طابعا ثقافيا، إذ توجهت بالخصوص إلى مستعمراتها القديمة، وخاصة الدول الذي اعتمدت اللغة الفرنسية كلغة رسمية للإدارة والتعليم. في المقابل سعت حكومة اليابان إلى الحصول على أسواق جديدة لمنتجاتها بعيدا عن التوازنات السياسية، في ما سمي بعد ذلك النموذج الواقعي الجديد. أما الصين فتبنت نموذج مساعدات يسميه الخبراء النموذج المثالي، إذ بادرت إلى أن تكون من الدول المانحة رغم كل ما كانت تعانيه من فقر ومن حاجة إلى المساعدات؛ وهكذا حاولت دائما تقديم مساعدات إلى الدول الحديثة العهد بالاستقلال في كل من إفريقيا، وأسيا وأمريكا الجنوبية. وأعلن رئيس الوزراء الصيني "تجو ان لاي"، في مؤتمر "باندونغ" لسنة 1955، المبادئ الثمانية لتقديم المساعدات إلى بلدان العالم الثالث، وكان من أبرزها عدم استغلال المساعدات من أجل التدخل في الشؤون الداخلية للدول؛ وهي المبادئ التي لازالت متحكمة في السياسة الصينية لتقديم المساعدات إلى حد الآن. جدير بالذكر أن الحكومة الصينية بادرت منذ الستينيات إلى تكليف كل حكومة محلية بتقديم المساعدات الطبية إلى بلد إفريقي محدد؛ فمثلا تم تكليف مقاطعة "هوباي" بمساعدة الجزائر، ومقاطعة "شان سي" تم تكليفها بمساعدة السودان، بينما تم تكليف مقاطعة "ها باي" بمساعدة الكونغو الديمقراطية؛ أما مقاطعة شنغهاي فقد تم تكليفها بتقديم المساعدات الطبية إلى المغرب. وبمقتضى هذه التكليف استقبل المغرب البعثة الطبية الصينية إلى مدينة سلطات، ثم البعثة الطبية الصينية إلى مدينة المحمدية، والبعثة الطبية إلى مدينة الحسيمة، والتي تعتبر رسميا في الصين كعربون صداقة ربطت المغرب بالصين منذ أواسط القرن الماضي، رغم اختلاف توجههما الإيديولوجي. وأطلق برنامج المساعدات الطبية الصينية للمغرب منذ سنة 1975 بالبعثات المذكورة أعلاه. وخلال السنوات الأربعين السابقة أرسلت الصين حوالي 170 طاقما طبيا، بمجموع فاق 1600 متطوع، قاموا بإجراء أكثر من خمسة ملايين فحص وما يقرب 450000 عملية جراحية. وعلى العموم، يوجد جو عام جيد يحيط بعمل البعثات الطبية الصينية في المغرب، غير أن بعض الصعوبات في المقابل مافتئت تعترضها. فبالرجوع إلى مذكرات الطبيب الجراح "وانغ هاو بينغ"، التي تناول فيها الفترة التي أقام فيها في المغرب، بين 2005 و2017، نجد أبرز الصعوبات التي اعترضته، ومن المرجح أنها لازالت تعترض فرق البعثات الطبية الصينية المغرب. ومن هذه الصعوبات عامل الطقس، إذ تتجاوز درجات الحرارة 40 درجة مئوية في بعض الأحيان خلال فترة الصيف، والصعوبات المرتبطة بالطعام، إذ تنعدم بعض البهارات الضرورية للأكل الصيني في الأسواق المغربية. وفضلا عن كل ذلك، فظروف العيش في مدينة شنغهاي تختلف عن ظروف العيش في المغرب بصفة كبيرة جداً، خاصة في الجوانب الثقافية. أما من حيث أجواء العمل، فجاء في المذكرات ذاتها أن الصعوبة الأساسية التي تواجه أغلب أفراد البعثات الطبية الصينية ترتبط بالعامل اللغوي، فإتقان اللغة الانجليزية لا يسهل عملية التواصل في المغرب بين الطاقم الصيني والمغربي، إذ تبقى اللغة الفرنسية هي السائدة؛ بل وحتى في الحالات التي يتقن فيها الطبيب الصيني للغة الفرنسية، تبقى الصعوبة قائمة، إذ إن المرضى لا يتقنون في مجملهم اللغة الفرنسية، خاصة القادمون من مناطق بعيدة. وفضلا عن الصعوبة المرتبطة بالجانب التواصلي، ترد صعوبة أخرى ترتبط بالتجهيزات الطبية بشكل أساسي. فعندما تأتي حالات مستعجلة يكون من الصعوبة بما كان القيام بالإسعافات الأولية في ظروف ملائمة، باعتبار عدد الحالات التي يتم استقبالها في بعض الأحيان تفوق الطاقة الاستيعابية للمستشفى، وباعتبار كذلك غياب بعض التجهيزات الضرورية أو تهالك الموجودة منها. هذا يعكس بشكل كبير الواقع المزري لمستشفياتنا، التي لا ترقى في الكثير من الأحيان إلى ما يمكن للمرء أن يجده من تجهيزات حتى لدى المستوصفات الصينية في المناطق النائية. ويبرز هذا الطبيب الجراح الصيني أن أغلب الحالات التي كان يستقبلها مرتبطة بالجهاز الهضمي، خاصة أمراض المعدة، وكذا التقرحات في الأطراف الناتجة عن مرض السكري، بالإضافة إلى الحالات الاستعجالية الناجمة عن حوادث السير، والتي كانت تعرف ارتفاعا كبيرا في هذه المنطقة. وبحكم أن مستشفى الحسن الثاني هو المستشفى الحكومي الوحيد في منطقة سطات المؤهل لإجراء عمليات الولادة القيصرية، فإن جميع حالات الولادة المستعجلة كانت تحال إليه، فكانت 4 إلى 5 ولادات قيصرية في الليلة أمرا معتادا للأطباء الأربعة الصينيين المختصين في أمراض النساء، يورد الطبيب ذاته. ويستحضر "وانغ هاو بينغ" حادثة سير أليمة وقعت بالقرب من مدينة سطات في ليلة ال30 من يوليوز سنة 2007، ونقلتها القناة الثانية ووسائل الإعلام الرسمية الصينية آنذاك، والتي أسفرت عن 40 إصابة بين قتيل وجريح، موردا أنه تم نقل ما يقارب 30 جريحا إلى مستشفى الحسن الثاني الذي كان يتواجد فيه الفريق الصيني. ولمصادفة الحادثة فترة العطلة كان هناك نقص كبير في الأطباء المغاربة، ما حتم على فريق الأطباء الصيني قطع فترة الاستراحة التي كانت تؤخذ عقب فترة المداومة، يضيف الطبيب ذاته. ولازال "وانغ هاو بينغ" يتذكر باعتزاز تفاني الأطباء الصينيين ووقوفهم جنبا إلى جنب مع زملائهم المغاربة في عملية تنظيم أعمال أقسام المستعجلات والجراحة، ما سهل إسعاف المصابين وتقليل الخسائر في الأرواح. وفي الوقت الراهن تتواجد في المغرب 8 فرق صينية طبية، يبلغ عدد أطقمها 79 شخصا، يقومون بتقديم مساعدات إنسانية من أجل النهوض بقطاع الصحة العمومية في المغرب. لا يسعنا إلا التعبير عن التقدير والشكر لهذا الشكل من أشكال التضامن الإنساني الذي يساهم في التقريب في ما بين الشعبين المغربي والصيني. وفي المقابل، ندعو إلى تضافر جهود الجميع من أجل تجاوز الصعوبات التي يعاني منها القطاع الصحي في بلادنا، وهي المسؤولية التي يبقى على الحكومات القادمة مهمة الاضطلاع بها في استغلال كل ما تمت مراكمته من إيجابيات، وتجاوز كل السلبيات. * باحث في العلاقات الصينية الإفريقية بمعهد السياسة بجامعة صن يات سين