يرجع تاريخ العدالة الانتقالية إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ومحاكمات نورمبرغ والقضاء على النازية، وقد توطد مفهوم العدالة الانتقالية فيما بعد بفضل محاكمات حقوق الإنسان في اليونان في أواسط السبعينيات ؛ ولجان الحقيقة في الأرجنتين سنة 1983 وفي تشيلي سنة 1990 و في غواتيمالا سنة1994 ، وفي جنوب أفريقيا سنة 1994 ، وفي بولندا سنة 1997 ، وفي سيراليون سنة 1999، وفي تيمور الشرقية سنة 2001 ، وفي المغرب سنة 2004. كما تكللت كل تلك الجهود في مجال العدالة الانتقالية ، بمعاهدة روما لسنة 1998 بإحداث المحكمة الجنائية الدولية التي تعتبر قمة التطور في نضال البشرية ضد امتهان كرامة الإنسان وحقوقه. و تشير العدالة الانتقالية إلى مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وذلك بهدف تحقيق العدالة أثناء المرحلة الانتقالية التي تمر ﺑﻬا دولٌة من الدول. وبما أن المغرب عرف انتهاكات جسيمة في السنوات الماضية ، لذلك فإنه سعى إلى طي صفحة الماضي رغبًة منه في تعزيز العدالة والإنصاف والمصالحة ، فكان لا بد من إحداث آلية لرد الاعتبار لضحايا هاته الانتهاكات وتعويضهم لجرر ضررهم والقطع مع كل الممارسات القديمة التي تشكل انتهاكا لمبادئ حقوق الإنسان التي التزم المغرب باحترامها و إدماجها في سياساته وتشريعاته. وقد كانت هيئة الإنصاف والمصالحة الوسيلة المثلى للدولة المغربية لتجاوز آلام و مآسي الماضي و ضمد جروح الضحايا. وقد كان هناك بالمغرب اتجاه يرى أن عقاب مقترفي الانتهاكات يساعد بالأخص الضحايا على التغلب على جراحهم التي عانوا منها أبان سنوات الجمر. ولكن بالمقابل هناك اتجاه آخر يرى أن شفاء جروح المجتمع ككل ربما يتطلب عدالة تصالحية تمنح فيها الفرصة للمذنبين للاعتراف بذنبهم والتنازل عن كل الامتيازات التي حصلوا عليها في السابق والاعتذار وطلب العفو والصفح. وقد اختارت الدولة المغربية الاتجاه الثاني ، عند إحداثها لهيئة الإنصاف والمصالحة ، أي تبني عدالة تصالحية ، وإن كانت هي أيضا تعرضت لعديد من الانتقادات من طرف بعض المنظمات الحقوقية المغربية و معتقلين سياسيين سابقين . وهكذا، أحدثت هيئة الإنصاف والمصالحة بتاريخ 07 يناير 2004، بإرادة ملكية شجاعة ، واشتغلت على الفترة الزمنية الممتدة من سنة 1956 إلى نهاية سنة 1999 ومارست مهاما ترتبط بالتقييم والبحث والتحري والتحكيم والاقتراح، فيما يتعلق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي حصلت في الفترة المذكورة، والمتمثلة في الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والتعذيب ، وغير ذلك . وخلال سنة 2005 ، قدمت هيئة الإنصاف والمصالحة تقريرها يتضمن مجموعة من التوصيات تتعلق بالإصلاحات المؤسساتية وباستراتيجية وطنية لمناهضة الإفلات من العقاب وبتتبع تنفيذ التوصيات. ونذكر بالأساس ، دعم التأصيل الدستوري لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا وذلك عبر ترسيخ مبادئ سمو القانون الدولي على القانون الوطني وقرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة ، و تعزيز مبدأ فصل السلط و التنصيص الدستوري الصريح بفحوى الحريات والحقوق الأساسية ، و إقرار وتطبيق استراتيجية وطنية لمناهضة الإفلات من العقاب ، و اعتماد أسس و مبادئ الحكامة الأمنية ، و تفعيل التوصيات حول الأشكال الأخرى لجبر الأضرار بما فيها التأهيل الصحي والنفسي للضحايا وبرامج جبر الضرر الجماعي. و إن كان تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة محل العديد من الانتقادات من قبل منظمات حقوقية و معتقلين سياسيين سابقين ، فإننا لا نتكر أن تجربة هذه الهيئة تعتبر خطوة للأمام للمغرب لتصفية تركات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان ، كما أنها غير مسبوقة في المنطقة العربية ، و يمكن أن تستفيد منها دول أخرى مثل تونس و الجزائر. هذا و إن نجاح هذه التجربة المغربية في مجال العدالة الانتقالية في المستقبل رهين بتكريس مجموعة من المبادئ ، نذكر منها عدم الإفلات من العقاب و الالتزام باحترام الدستور والقانون و طي صفحة الانتهاكات بشكل فعلي، وتطبيق سياسات عمومية في قطاعات العدالة والأمن ( خصوصا ما يتعلق بالإصلاح القضائي و الحكامة الأمنية ) و ملاءمة القوانين الوطنية والالتزامات الدولية للمغرب . * ناشط حقوقي ، مدير مركز الرباط للدراسات السياسية والاستراتيجية