عانى العالم طويلا من ويلات الحكم العسكري، لكن بينما استطاعت أكثر الشعوب أن تتحرّر منه، فإن العالم الإسلامي يظل الأكثر تضررا إلى اليوم من هذا النمط القاتل من الحكم الديكتاتوري. الانقلابات العسكرية بالعالم العربي: لو تحدثنا عن العالم العربي فقط نجد أنه شهد 123 محاولة انقلاب عسكري، نجح منهم 39. كان انقلاب الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر في يوليوز 1952 نقطة تحوّل مركزية في العالم العربي، إذ من نتائجه أن ظهرت سلسلة من الانقلابات –منها الناجح ومنها الفاشل- في معظم الدول العربية كانقلاب القذافي بليبيا، وانقلاب اليمن، وانقلاب عبد الكريم قاسم بالعراق، وانقلاب حزب البعث بسوريا.. حتى محاولتيْ الانقلاب اللتان شهدهما المغرب في عامي 1971و1972 تأثرتا بهذا السياق العام الذي دشّنه انقلاب عبد الناصر. لذلك كان الانقلاب الأخير بتركيا خطرا جدا، لأنه لا يتعلق بهذا البلد وحده، بل كان سيشجع كثيرا من الجيوش على خوض مغامرة الانقلاب.. هذا ما يُعرف في علم السياسة بنظرية: الدومينو.. أي كيف أن حدثا سياسيا ما يؤدي إلى إشعال سلسلة من الأحداث المشابهة.. مثلا حين سقط الاتحاد السوفياتي رأينا كيف تساقطت الواحدة إثر الواحدة الأنظمةُ الشيوعية بشرق أوربا وغيرها. في الحقيقة بيّنت هذه الأحداث الأخيرة أن الساسة الأتراك كانوا على حقّ حين رفضوا انقلاب مصر الأخير.. فقد رأى البعض هذا تدخلا في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، بينما كانت تركيا تخشى من أن انقلاب مصر سيمهّد السبيل لانقلابات في المنطقة لا تستثني تركيا نفسها. مساوئ الحكم العسكري: تدل تجارب البشرية في الماضي والحاضر على أن الحكم العسكري يؤدي إلى تصحّر عام في الحياة العامة بجميع تفاريعها السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية.. فقد كانت ببعض الدول العربية بذور حياة ديموقراطية حقيقية، ببرلمانات منتخبة وصحافة مستقلة وحياة عامة حرة نسبيا.. وذلك أيام كانت مَلكية، كمصر وسوريا والعراق في الأربعينيات والخمسينيات.. فجاءت هذه الانقلابات وقضت عليها تماما. وقد عاش وتكوّن ونبغ أكثر المفكرين والعلماء والأدباء والشعراء والروائيين.. في عهود ما قبل الانقلابات العسكرية.. لو أخذنا مصر نموذجا نكتشف أن طه حسين ومحمد حسين هيكل ولطفي المنفلوطي وتوفيق الحكيم وأمثالهم.. نشأوا ودرسوا قبل انقلاب 1952.إن الإبداع يحتاج لجوّ من الحرية ولابدّ.. بل في تاريخنا كان المجتمع يتسامح مع المُبدعين حتى إن تمرّدوا عن ثقافته العامة. وفي العادة العسكر قوم بلا ثقافة ولا مشروع سياسي، بله أن نتحدث عن مشروع حضاري.. ذلك لأن تكوين العسكري تقني يتعلق بفنون الحرب والقتال وآلاتهما. لكن بلغ من إفلاس أنظمتنا العسكرية بالمشرق العربي أنه حتى على مستوى المواجهة الحربية انهزمت جميعا أمام المشروع الصهيوني، ففقدنا فلسطين بين 1948 و1967 في سلسلة هزائم منكرة. إن العسكر بحكم طبيعة تكوينهم يفتقدون إلى المرونة وأخلاق الحوار والتدافع السلمي لأن تربيتهم العسكرية تجعلهم ناسا مؤهلين للقتل والقتال، لذا لا يحسنون سياسة ولا بناء حضارة ولا إدارة دولة.. وإن فعلوا فبالمؤامرات والدسائس التي تهدم ولا تبنِ. يحكى عن ستالين أن بعض مستشاريه ذكروا له موقف بابوية الفاتيكان في قضية معيّنة، فكان جوابه: كم يملك البابا من دبابة؟ يقصد أنه لا قيمة لموقفه لأنه لا يمتلك قوة –عسكرية تحديدا- لفرضه أو الدفاع عنه. تأتي خطورة الحكم العسكري أيضا من أنه حكم بالقوة، لذا لا يمكن إزالته بسهولة.. فلو أن شعبا اكتشف سوء الحكم العسكري وأراد تغييره، فإنه لا يستطيع، وإن نجح فبثمن باهض من الأرواح والممتلكات.. يكفي هنا أن نذكر مثال سوريا التي تدمّرت تماما. بينما الحكم المدني أيسر وأضعف من أن يقف في وجه المطالب الشعبية. على المستوى الأخلاقي والاجتماعي تمزق الأنظمة العسكرية النسيج الاجتماعي، وتقضي على العلاقات الاجتماعية، فينتشر الخوف والشكّ في كل شيء وتضيع الأخلاق في المجتمع بفشوّ الأنانية والمادية والنفعية... إن القمع يقتل إنسانية الإنسان، وقد سقط الاتحاد السوفياتي من الداخل رغم كونه دولة عسكرية هائلة. أما على المستوى الاقتصادي يلازم الفسادُ الحكمَ العسكري لأن تطور الحياة الاقتصادية ونموّها يتوقف على وجود مناخ من الأمن والاستقرار والعدالة وسلطة القانون.. فلا استثمار مع الفوضى، ورأسُ المال جبان كما يقول خبراء الاقتصاد. لذلك تظهر في الحكم العسكري طبقة من المفسدين والمنتفعين والسُّرّاق تتحكم في دواليب الاقتصاد.. ويتراجع المستثمرون من التجار والرأسماليين الطبيعيين (أي الذين كوّنوا ثرواتهم بالعمل الاقتصادي المعتاد). هكذا عرفت معظم تجارب الحكم العسكري فشلا اقتصاديا وماليا ذريعا أدى بالدول إلى إفلاس تام. إن الشعوب التي تعيش في ظل الأنظمة العسكرية، -كما ببعض دولنا العربية- شعوب على حافة المجاعة.. فالناس بكوريا الشمالية مثلا يأكلون الأعشاب. الدرس الإسلامي: يرى كثير من المؤرخين أن بداية انحطاط الحضارة العربية-الإسلامية كانت مع نهاية الطور العباسي الأول، حيث دخلت حضارتنا في ما يسمى ب: طور الوصاية. والوصاية في حقيقتها عبارة عن حكم عسكري، فقد سيطرت قبائل من أصول تركية في الغالب، كالبويهيين والسلاجقة، على العاصمة بغداد، وفرضوا أنفسهم بالقوة العسكرية على الخلفاء العباسيين الضّعاف، فحكموا فعليا باسم هؤلاء الخلفاء الصوريين. ويعتبر حكم مماليك مصر نموذجا للحكم العسكري السيء في تاريخنا، خاصة في مرحلته الثانية. من ناحية أخرى يتفق المؤرخون على الدور السلبي الذي قامت به نخبة الجيش العثماني، المسماة ب: الانكشارية، في إضعاف الخلافة العثمانية.. فقد كان تدخلهم المستمر في السياسة وتعيينهم وعزلهم للسلاطين من أهم أسباب سقوط هذه الدولة العظيمة. الدرس الأوربي: وقد عانت أوربا طويلا من حكم العسكر، إذ الدمار الكبير الذي لحق بهذه القارة يتحمّل مسؤوليته الأولى أنظمةٌ عسكرية في جوهرها كالنظام النازي بألمانيا والنظام الفاشي بإيطاليا. أما حكم الديكتاتور الجنرال فرانكو فقد تسبّب في حرب أهلية راح ضحيتها مئات الآلاف من الإسبان.. بل إن إرث فرانكو لا يزال يهدد –بشكل ما- مستقبل ووحدة هذا البلد، إذ للمطالب الانفصالية بمنطقة كاطالونيا مثلا صلة بهذا التاريخ العسكري السيء.. وقِس على ذلك ديكتاتوريات اليونان والبرتغال.. ونحوها. فحرصت الدول الغربية على إبعاد العسكر نهائيا عن الحياة العامة، فأصبح منصب وزير الدفاع مدنيا صِرفا. العالم ودّع عصر الانقلابات إلا نحن: هذه التجارب القديمة والجديدة علّمت العالم أن الحكم العسكري هو أسوأ أنواع الحكم، وأنه فساد للبلاد والعباد.. لذا واجهت أكثر شعوب العالم ظاهرة الانقلابات واستطاعتْ إنهاءها. بدأ ذلك بأوربا الغربية منذ نهاية حقبة نابوليون بونابرت في القرن التاسع عشر، ثم أوربا الشرقية إثر سقوط المعسكر الاشتراكي.. وتبعتها مناطق أمريكا اللاتينية.. وحتى كثير من الدول الإفريقية. ومن المُلفت للنظر فعلا أن العالم الإسلامي تحديدا لا يزال أرضية خصبة للانقلابات، وأن بعض أعتى الأنظمة العسكرية وأشدّها قبحا وسوءا توجد في عالمنا نحن. وهذا يعود إلى جملة أسباب، أهمها خارجي، أعني أن القوى الكبرى، أي أمريكا وأوربا الغربية وروسيا، وصلت إلى نتيجة مهمة هي أن أيّ حكم ديموقراطي بالعالم العربي والإسلامي حكم خطر لأنه سيحرر الشعوب وسيخدمها ويخدم مصالحها.. لذلك لكي تستمر الهيمنة الغربية والدولية على الشعوب المسلمة ينبغي إبقاءها تحت حكم عسكري، لجملة أسباب منها: السبب الأول أن الحكم العسكري في الغالب ضعيف لأنه لا قاعدة شعبية له.. والدول الكبرى تُحبذ التعامل مع الحكّام الضعفاء لأنهم أطوع لها وأكثر استجابة لمصالحها. السبب الثاني أن الحكم العسكري إذا قرّر التمرّد على هذه القوى، فإن إسقاطه يكون أيسر وأسهل، إذ يمكن تدبير انقلاب آخر، أو اغتيال الشخصية السياسية المطلوبة. وقد سارت أمريكا كثيرا في هذا الطريق في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، فدبّرت الانقلاب على محمد مصدق بإيران، والانقلاب على سلفادور أليندي بالتشيلي.. كما تمّ اغتيالهما. هذا ما يفسّر خيبة أمل الغرب في فشل الانقلاب التركي.. وهي خيبة واضحة لمن تابع الأخبار، تجد معالمها في التأخر عن دعم الحكومة التركية حتى فشل الانقلاب.. وفي تصريحات كثير من الوزراء والخبراء.. وفي بعض الإعلام الدولي كالصِّن ونيويورك تايمز..الخ. وهذا ما يفسّر أيضا حرص روسيا على دعم وإنقاذ نظام دموي وفاسد كنظام آل الأسد، لأنهم يعرفون أن أي حكومة شعبية بدمشق لن تخدم مصالحهم. إن القوى الكبرى في علاقتها بنا لا تؤمن بنظرية تبادل المصالح، بل فقط بأن نخدم نحن مصالحها حتى لو كان ذلك على حسابنا. ما الحلّ، أو كيف نحافظ على الحكم المدني؟ إن الحكم العسكري -بحكم استناده إلى نخبة صغيرة- يميل دائما إلى الديكتاتورية.. إذ طبيعة الإنسان الفرد أن يطغى بسهولة، فالسلطة فتنة، وللحكم جاذبية لا تقاوم (هي جاذبية الكرسي). لذلك توصّل علماء السياسة من قديم إلى نظرية فصل السلط بعضها عن بعض، لأنهم لاحظوا بالاستقراء التاريخي أن تركيز السلطة في فرد أو مجموعة صغيرة يؤدي لظهور الحكم الشمولي.. لذلك كان الحلّ هو في توزيع السلطة على أكثر من مركز، بحيث توقِف السلطةُ (أ) السلطةَ (ب)، بتعبير مونتيسكيو في كتابه روح القوانين.. وهي النظرية التي توجد بذورها في فكرنا السياسي القديم فلابد من مؤسسة تشريعية قوية، ومن قضاء نزيه ومستقل، ومن حكومات تنفيذية تخدم الشعب. بمعنى آخر أن تعميق الديموقراطية –فكرا وممارسة- هو صمام الأمان الرئيس من أيّ انحراف كبير يهدد الدولة واستقلالها وشعبيتها. وهذا يحتاج أيضا لتطوير التعليم وتعميمه وتحسينه، ولتحسين الأوضاع الاقتصادية، ودعم الإعلام المستقل، وإعادة الاعتبار لدور العلماء والفقهاء في التوجيه العام للشعب، و إدارة الاختلاف بعبقرية فيما بين الطبقات والأحزاب والقوى الحيّة للمجتمع، وحلّ إشكالية العلاقة مع القوى الكبرى بإقناعها بأن التبعية ليست هي الحلّ، وتقوية الأجهزة الأمنية المدنية، كالشرطة والمخابرات التي هي في حقيقتها أجهزة مدنية لا عسكرية.. الخ. فلْنننتَه نهائيا مع ظاهرة الانقلابات: يكذب العسكريون حين يقولون نحن جئنا لمرحلة انتقالية، كذا قالوا بعدد من الدول العربية، فإذا بهم تجاوزوا نصف قرن من التسلط على رقاب الناس وحُكمهم بالغصب. وإذا سئلوا اعتبروا أن شعوبنا غير مؤهلة للحكم الديموقراطي وأنه يجب انتظار نصف قرن آخر. كما تدل تجارب التاريخ المعاصر على أن الحكم العسكري غير قابل للإصلاح، لأنه لا يسمح بوجود أيّ آليات لذلك: لا قضاء ولا إعلام ولا طبقة سياسية حقيقية.. فالحكم العسكري يتوجّس خيفة من المجتمع ومن طاقاته. فالقذافي مثلا لم يسمح حتى ببروز لاعب كرة قدم مشهور ومحبوب عند الجماهير، وفي سوريا الأسد تمّ إدخال بعض الرياضيين الناجحين السجونَ. حتى مع النيات الحسنة لبعض الانقلابيين فإنه مع الوقت يتحوّل الحكم العسكري إلى عصابة حقيقية تفكر وتشتغل بمنطق العصابة لا بمنطق رجال الدولة.. فلا أمل في حكم العسكر، ولا تعويل عليه في إقامة دين ولا إصلاح دنيا.. وعلى أجيالنا الشابة أن تتعلم ألاّ تتقبل هذا النمط من الحكم أبدا.. السبب الأول أن الحكم العسكري في الغالب ضعيف لأنه لا قاعدة شعبية له.. والدول الكبرى تُحبذ التعامل مع الحكّام الضعفاء لأنهم أطوع لها وأكثر استجابة لمصالحها. السبب الثاني أن الحكم العسكري إذا قرّر التمرّد على هذه القوى، فإن إسقاطه يكون أيسر وأسهل، إذ يمكن تدبير انقلاب آخر، أو اغتيال الشخصية السياسية المطلوبة. وقد سارت أمريكا كثيرا في هذا الطريق في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، فدبّرت الانقلاب على محمد مصدق بإيران، والانقلاب على سلفادور أليندي بالتشيلي.. كما تمّ اغتيالهما *أستاذ بجامعة فاس