وجه الملك محمد السادس إلى القمة الإفريقية المنعقدة في رواندا رسالة تاريخية أعلن فيها رجوع المغرب إلى صفوف الاتحاد الإفريقي (الوريث الشرعي لمنظمة الوحدة الإفريقية) بعد غياب دام أكثر من ثلاثين سنة. هذا الغياب الذي كان اضطراريا أملته الظروف التي كانت تدور فيها معركة الحفاظ على الوحدة الترابية آنذاك. يبدو أن المعطيات الموضوعية أثبتت مع الوقت أن الظروف قد نضجت لالتحاق المملكة بهذا الاتحاد بغية إدارة الدفاع عن الوحدة الترابية من داخل المؤسسة الإفريقية، والدفع نحو تعزيز الشرعية الدولية والانضباط لمقررات الأممالمتحدة احتراما لترابية المؤسسات. وجدير بالذكر هنا إن انسحاب المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية أواسط الثمانينات لم يعزل المغرب عن انتمائه الإفريقي، بل كان اتصاله ببلدان هذه القارة متواصلا، خاصة ببلدان إفريقيا الغربية التي تجمعها بالمغرب علاقات تاريخية عريقة جداً، ومثلت بالنسبة له دائما شريكا استراتيجيا من الناحية السياسية، والاقتصادية، والدينية وغيرها. هذا المعطى الأخير كان له ولاشك دوره الكبير في تشجيع المغرب على العودة إلى هذه المنظمة أملا في أن تصحح خطاها التاريخي الذي ارتكبته أواسط الثمانينات من القرن الماضي بسبب التوازنات التي فرضتها موازين قوى الحرب الباردة آنذاك، وبالتالي فتح المجال أمام البلدان الإفريقية لبناء مستقبل أفضل يستجيب لتطلعات الجميع. ويأتي هذا القرار في ظل أوضاع اقتصادية تسير نحو التحسن بشكل تدريجي في العديد من الدول الإفريقية، والتي حققت بعض التطور بفضل مداخيل صادراتها من الموارد الطبيعية، وكذا بفضل مداخيل خوصصة بعض القطاعات الحيوية وخاصة الطاقية منها. غير أنه مقابل هذا التطور، مازالت في طور البحث عن منظومة اقتصادية متكاملة لتقدم مستدام تحقق من خلاله تطلعات شعوب القارة السمراء، خاصة في التعليم والصحة والقضاء على الفقر. ويأتي هذا القرار فضلا عن كل هذا في سياق عودة القارة الإفريقية إلى صلب اهتمامات القوى الكبرى والقوى الصاعدة الأخرى، كالصين مثلا. هذه الأخيرة التي ما لبثت تفرض نفسها نموذجا جديدا لتحقيق التنمية يتحدى بشكل كبير نموذج البلدان الغربية التي بنت مختلف سياساتها في القارة، خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة، على مقولة الديمقراطية هي المدخل الأساسي لتحقيق التنمية. فالصين بدأت نهضتها بمحاربة الفقر وبالنهوض بالتعليم وكذلك بالرفع من مستوى الخدمات الاجتماعية، وتركت مسألة الدمقرطة وغيرها من المقولات السياسية جانبا ولو إلى حين. وعليه، من الواضح أن التجربة الصينية قد تكون جديرة بأن تستلهم منها الدول الإفريقية بعض الدروس، خاصة وأن الطرفين يشتركان إلى حد قريب في الانتماء إلى العالم الثالث، والآن ما فتئت الفوارق تتسع فيما بينهما من حيث مستويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فالصين الشعبية، كما يؤكد تاريخها الحديث، بدأت نموها بشكل أساسي بإجراءات سهلت عليها الحصول على العملة الصعبة باعتبارها عنصرا ضروريا لتطوير القدرات الصناعية. فتطوير القطاع الصناعي كان هاجسا ملازما للصين منذ تأسيسها سنة 1949؛ حيث استعانت في البداية بالاتحاد السوفياتي قبل أن تجهز تناقضات السياسة وتدهور العلاقة بين ماو تسي تونغ وخروتشوف على هذا التعاون؛ حيث سحب الروس جميع خبرائهم ووجدت الصين نفسها أمام أوراش غير منتهية. بعد الفشل على مستوى التعاون مع بلد يفترض أن يكون "حليفا أيديولوجيا"، قامت الصين بفتح الأبواب أمام صينيي الخارج، خاصة الأساتذة منهم وحاملي الشهادات العليا من أمريكا وأوروبا واليابان، من أجل المساهمة في تكملة الأوراش الصناعية. وبدأت الصين في دعم الصناعات الثقيلة، كصناعة الحديد والصلب، وكذلك صناعة السيارات والقطارات، بل وتمكنت في وقت لاحق من إرسال أول قمر صناعي سنة 1970، وذلك بعد أن تمكنت من الحصول على أول قنبلة ذرية قبل ذلك بست سنوات لتدخل إلى قسم الكبار وتضمن استقلالا سياسيا واقتصاديا واضحا. وعرفت هذه الفترة كذلك بناء أكثر من 200 جامعة ومعهد لتكوين الموارد البشرية، وكذلك تم إرسال بعثات تعليمية إلى دول المعسكر الاشتراكي، وخاصة ألمانيا الشرقية التي كانت رائدة في مجال التصنيع. وبعد إطلاق "دنغ سياو بينغ" لسياسة الانفتاح بداية أواخر السبعينات وبداية الثمانينات، فتحت الصين أبوابها أمام الاستثمارات الأجنبية وألزمتهم بعقد شراكات مع الصينيين، وذلك بهدف اكتساب التقنيات الحديثة، سواء في مجال الإدارة والتسويق أو في مجال التخطيط المالي. وقد تمكنت هذه السياسة من أعطاء أكلها، بحيث باتت الصين تفرض نفسها وتملك كفاءة كبيرة لمنافسة الشركات الأجنبية؛ حيث غزت منتجاتها جل الاسواق العالمية، مما در عليها مداخيل ضخمة تحولت إلى استثمارات تهدف إلى الرفع من المستوى المعيشي للشعب الصيني. وبحلول القرن الواحد والعشرين، دخل الاقتصاد الصيني مرحلة جديدة؛ حيث ارتأت الحكومة الصينية أن الاعتماد على وفرة اليد العاملة ليس نموذجا مستداما لخلق منظومة تقدم اقتصادي مستدام؛ بحيث إن سياسة الطفل الوحيد ستؤدي لا محالة إلى شيخوخة المجتمع الصيني، الشيء الذي سيرفع من أجور العمال. وفضلا عن ذلك، فقد ظهرت الكثير من البلدان المنافسة، كالفيتنام والهند وإندونيسيا، لذا بدأت الصين في الاستثمار في البحث العلمي وتشجيع المقاولات المبتكرة. فعلى سبيل المثال، تجاوزت نسبة الاستثمارات في البحث والتطوير داخل الصين نظيرتها في الاتحاد الأوروبي؛ حيث بلغت 2.1% من الناتج الوطني الخام سنة 2014، وهو ما يمثل أكثر من 210 ملايير دولار. بالإضافة إلى ذلك، تعمل الصين على أن تتجاوز استثماراتها في البحث العلمي الاستثمارات الأمريكية في المجال ذاته بحلول سنة 2022. والى جانب كل ما سبق، ارتفع عدد الجامعات والمعاهد العليا داخل الصين إلى أكثر من 2800 مؤسسة حتى سنة 2015. وتسعى الصين إلى ترقية صناعاتها المحلية وجعلها قادرة على منافسة الصناعات التي كانت إلى وقت قريب حكرا على الدول المتقدمة، كصناعة الطيران ومجال الطاقات المتجددة، وكذلك الأنظمة العسكرية الحديثة. وفي هذا الصدد، فقد وضعت الصين برنامج "الصناعة الصينية 2025" باعتباره رؤية بعيدة المدى لتحديث شامل للصناعات الصينية عبر تطوير الصناعات الذكية. وفي الوقت الراهن، باتت الصين تركز مجهوداتها بشكل كبير على تحسين الخدمات الحكومية للمواطنين وتحديثها؛ بحيث بات بإمكان المواطن الصيني قضاء جميع حاجياته الإدارية عبر الانترنت، بل وفي الكثير من الأحيان عبر الهاتف النقال. أما من الناحية السياسية، فقد بدأت الصين تخوض تجارب "ديمقراطية"؛ بحيث بات يتم اختيار المسؤولين في القرى عن طريق انتخابات محلية، وهي عبارة عن تجارب محدودة في مناطق جغرافية بعينها على أن يتم تعميمها على باقي المدن والمقاطعات إذا ما اثبت الواقع توافقها وتناغمها مع الثقافة الصينية ومرحلتها الحالية من التطور. فالصينيون يؤمنون بأن الأمن والنمو الاقتصادي هو أولوية قبل المضي في أي مسار لتحقيق التنمية السياسية، وفي جميع الأحوال فلا يمكن تحقيق التنمية إلا انطلاقا من الواقع الموضوعي الخاص بكل بلد. إن التحدي الذي يطرحه أمامنا "النموذج الصيني" كمغاربة، وكأفارقة ننتمي لقارة واحدة، هو كيفية استلهام التجارب الإنسانية المختلفة، وعلى رأسها التجربة الصينية، وغيرها من تجارب البلدان الصاعدة، في مجال التنمية والتقدم وتطبيقها على الواقع الإفريقي بما يضمن نمو القارة بأكملها في بيئة يطبعها التعاون المثمر بين جميع أعضائها. فالمأمول أن تسمح عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي بتجاوز عقليات الحرب الباردة التي "ناضلت" لتطويع الواقع ليلائم مواقف أيديولوجية دوغمائية، والوصول إلى مرحلة ننصت فيها معا إلى الواقع الإفريقي وواقع التغيرات الجيوستراتيجية على الصعيد العالمي في أفق ما تمليه التغيرات الجديدة، وهو الدرس الآخر الذي يجب علينا كأفارقة أن نتعلمه من الصين، خاصة في المرحلة الراهنة. * باحث في العلاقات الصينية الإفريقية بمعهد السياسة بجامعة صن يت سن