ينظر فنانون عرب واسبان إلى الموروث الأندلسي هذه الأيام بنوع من التفاؤل، فهم يشهدون على محاولات احيائه التي يشاركون فيها، ويقولون انهم يعولون على الارث الموسيقي تحديدا ليشكل "القنطرة" بين ضفتي المتوسط، مدللين أيضا على مبادرة اسبانيا لاعادة الاعتبار للإرث الاسلامي ولو من باب "الاستثمار السياحي". أحد الشواهد على تزايد الاهتمام بالتراث الموسيقي الاندلسي، هو التعاون القائم بين الموسيقي المغربي عمر المتيوي وفرقته والموسيقية والمغنية الاسبانية بيغونيا أولفيد، الذي تابع جمهور بروكسل أحد ثماره في حفلة اقيمت السبت الماضي ، في قصر الفنون الجميلة، تحت عنوان "اندلسيات"، وشاركت فيها ايضا العازفة والمغنية الجزائرية الفرنسية بهجة رحال وقدمت فيها المقامات الاندلسية الكلاسيكية. الموسيقية الاسبانية تقيم مع زوجها، الموسيقي وصانع الالات كارلوس بانياغوا، في مدينة طنجة المغربية، وتقول لوكالة فرانس برس "منذ أكثر من ستة سنوات ونحن نشتغل على الآلات الموسيقية". وتضيف "نبحث دائما عن المفاتيح التي تجمع بين الأعمال الموسيقية الاسبانية في القرون الوسطى، والتي حافظنا عليها بطرق مختلفة، وبين الموسيقى المغربية التي تناقولها كإرث شفهي". في الحفل، عزفت بيغونيا أولفيد على آلة "بسلتري" قامت بتطويرها مستوحية أسلوب العزف على القانون، ومن لا يعرف تاريخ الآلة الغربية القديمة ويراها بين يدي العازفة، يعتقد للوهلة الأولى انها ليست إلا آلة القانون المعروفة. وإلى جانب العزف أدت أولفيد مع مغني الفرقة أشعارا اندلسية عربية، كما غنت بالاسبانية. وإلى جانب ذلك ادت أغنية بلغة عرفوا عنها باعتبارها "لغة ميتة" كانت تستخدم للتواصل بين خليط سكان الاندلس القديمة، وتحوي كلمات عربية واسبانية وعبرية. ويلفت الموسيقي عمر المتيوي إلى "النظرة المختلفة" التي باتت اسبانبا تنظر بها الى التراث الاسلامي الاندلسي، ويقول لوكالة فرانس برس أن اسبانيا "فهمت انه بامكانها استثمار هذه الفترة الاسلامية الذاخرة بما خلدت من تراث حضاري معماري وموسيقي وغيره". ويضيف أن هذه "الصحوة" جاءت "بعد سنين طويلة من محاولات الاسبان، لينسوا تماما الحضارة الاسلامية التي استقرت على أرضهم". ويستشهد المتيوي بمؤسسة "إليغادو أندلسي" (الموروث الاندلسي)، وهي مؤسسة كبيرة تعمل من مدينة غرناطة، وتهتم بالحقبة الاندلسية وما انتجته من تراث معماري وفكري وموسيقي. ويقول الموسيقي عن هذه المؤسسة انها "أخرجت العديد من الكتب والابحاث وغيرت الصورة المشوهة التي كانت شائعة في اسبانيا عن حضارة الاندلس". مؤسسات التوثيق الاسبانية هي احدى ركائز التعاون بين الموسيقيين العرب والاسبان، إذ يقول الموسيقي المغربي "في المغرب نفتقر الى الوثائق والصور لنتعرف على الموروث الاندلسي، لذلك لجأنا إلى الضفة الاخرى". وتقدم زميلته الاسبانية ما يفيد فهم وجهة تعاونهم، وتقول أنهم لا يهتمون بدراسة الالات القديمة "من أجل استرجاع ماض فقط، بل للمضي إلى الأمام"، فهم كما توضح يفحصون أيضا التراث الموسيقي الذي نقل وعاش في المغرب عبر الذاكرة الشفهية، وذلك "لاكتشاف ما جرى من خلط واقحام لآلات لا تتنساق مع طبائع الموسيقى الاندلسية". هذا المشروع، وفق النهج الذي وصفه أصحابه، هو محاولة لأن يشكل الموروث الاندلسي "القنطرة" ما بين المغرب واسبانيا، كما يقول المتيوي، وهو الأمر الذي تشير اليه أولفيد بدورها، إذ تقول إن سفرهم في هذه الذاكرة التاريخية يشكل "بحثا عن تجديد ينبثق من الذاكرة الغابرة".
وقد جاء حفل "اندلسيات" تعاونا بين الفنون الجميلة ومؤسسة "موسم" البلجيكية، التي تعمل على ترويج الثقافة العربية. ويقول مديرها محمد أقوبعان لوكالة فرانس برس أن اهتمامهم بعرض التراث الموسيقي الاندلسي "هو محاولة كي نشير إلى هذا التاريخ الذي يعيد نفسه لكن بطريقة مختلفة" عبر تجارب التعاون العربي الاسباني لاعادة احيائه. ويرى أقوبعان أن التراث الاندلسي يشهد مرحلة من "اعادة الاعتبار" على يد الاسبانيين، ويقول إن "كل ما له علاقة بالوجود الاسلامي في الاندلس تم تهميشه سابقا، لكن في السنوات الأخيرة هناك محاولة اسبانية لاعادة احياء هذا التراث عبر باحثين واكاديميين، وفي مختلف ميادين الموسيقى والشعر والمعمار". ويرى المعنيون أن هنالك سعيين مختلفي الدوافع يلتقيان في الغاية، فالعرب يريدون استحضار ما يمثل "أوج حضارة مجيدة" قامت لهم في الاندلس، على ما يقول أقوبعان، كما أن الاسبان ماضون في إعادة الاعتبار لتراث الاندلس الاسلامي "لانهم تنبهوا إلى أهميته من الناحية السياحية ولمردوده الايجابي في مجالها". ويشكل حفل "اندلسيات" حلقة في سلسلة مشاريع تتبناها مؤسسة "موسم"، إذ أنها تقوم بانتاج عمل مشترك بين فرقة اسبانية وأخرى عربية يقوم على كتابة عمل موسيقي لقصة الحب الشهيرة بين ولادة بنت المستكفي والشاعر الاندلسي ابن زيدون، وسيقدم العام القادم. وتعبر الموسيقية والمغنية بهجة رحال عن تفاؤلها وهي ترى مشاريع احياء التراث الاندلسي تتزايد، وهي كانت اول صوت نسائي يقوم بتسجيل المقامات الاندلسية كاملة، لكنها تؤكد على ضرورة "تجنب العبث بهذا التراث تحت عنوان التجديد"، مضيفة "يجب أن نوصل هذه الموسيقى إلى الاجيال القادمة كما وصلتنا، فهي جزء من التراث الكلاسيكي العربي". وإن كان الموسيقي المتيوي أقل تحفظا تجاه التجديد، فهو يقتبس من انطونيو غاودي، المهندس المعماري الاسباني الشهير (1852-1926)، ليقول إن "التجديد يقوم على الاحتفاظ بالقديم".