في البدء كان القرآن وفي البدء كان الوجوب الرباني بضرورة التلاقي وعدم الافتراق (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) الآية 105 -سورة آل عمران. وقد أسس القرآن الكريم منظوره عن الأمة الإسلامية على جدلية الوحدة والتوحيد بحيث لم يُلْغِ الإسلام أحدا حتى توسعت رقعته وامتدت مساحته الجغرافية لتحتضن طوائفا ومللا ونحلا وأجناسا وشعوبا وقبائل مختلفة يقول تعالى في الآية 52 من سورة المؤمنون (وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) ويقول في سورة الأنبياء الآية 92 (إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون). ورغم هذا التأصيل الإلهي لماهية العلاقة بين المسلمين إلا أنهم غرقوا في حالة من التمذهب والتطييف ما أدى إلى إضعافهم على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، وإلى شعورهم بانقسام الشخصية إلى شخصيات متعددة يتقوقع كل واحد منها داخل شرنقة إطار مغلق، مما يجعل التفكير مستغرقا في الحالة الطائفية بعيدا عن الشخصية الأخلاقية الإسلامية الموحدة. وقد أدى هذا الواقع إلى ابتعاد قيم الإسلام عن حياة الواقع وإخضاع المسلمين لقوى الاستعمار والاحتلال والاستغراب التي استخدمت نقطة الضعف هذه فحولت البلاد والعباد إلى ما يشبه أحجار الشطرنج التي تلعب بها كما تريد وتحركها كيف ما تشاء. ليطرح التساؤل: كيف بالإمكان تجاوز هذا المأزق الحضاري مع الاحتفاظ بالتنوع الاجتهادي والغنى المعرفي وهل يتلازم الاختلاف مع الخلاف وهل البديل الحتمي للاختلاف هو الاتحاد والاندماج أم أن لدينا خيارات أخرى تتسع أو تضيق تبعا لوعي وإرادة وإدارة أفراد هذا الوطن؟ المعلوم بالضرورة من تاريخ المسلمين أنهم اتفقوا على أصول تجمع بينهم في مقدمها التوحيد والإيمان باليوم الآخر والغيب كما توافقوا على مرجعية القرآن وصحيح السنة النبوية المتواترة الموافقة والمتوافقة أخلاقا ومنطقا وعقلا مع روح الوحي المقدس، لكنهم تباينوا في نظرتهم لقضايا مثل الإمامة وقضية من هو الخليفة بعد وفاة الرسول (ص) بين قائل إن الرسول مات ولم يستخلف بعده أحدا وترك للأمة حرية اختيار من يقودها سواء كان هذا الاختيار بالبيعة أو بالتعيين أو بالشورى أو حتى بالإجماع، وبين قائل أن الرسول نص على الإمام الخليفة من بعده بالنص الجلي الواضح. إن هذا الاختلاف في النظرة إلى من سيخلف الرسول استفادت منه السياسات المنحرفة للحكام والخلفاء والأمراء الذين سطوا على خلافة المسلمين والتاريخ غني بالأمثلة الحية نذكر منها الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية. فهؤلاء عملوا على تكريس الاختلاف والتشرذم وخططوا لكي يوقعوا الأمة في مناظرات وصراعات فكرية تصوروا أنها ستدمر الدين من داخله وتفك عراه وتفصم وحدته، كما عملوا بكل ما في أيديهم من سلطة على الدس والتشويه وإثارة الأحقاد بين المذاهب ومعتنقيها والطوائف ومعتقديها بقصد زرع الكراهية وتكريس منطق إقصاء الآخر. فتشربت تيارات الأمة الكراهية والبغضاء وانتهت إلى ما انتهت له اليوم. وقد كان لسلاطين المسلمين وانحرافهم عن النهج الذي خطه قرآنهم وتضييعهم للنهج الذي سلكه لهم نبيهم، أنْ فتح الباب للاستعمار والقوى المعادية للوحدة لترسيخ الفرقة والتشتت بين الشعوب العربية من خلال تركيز مبادئ ومفاهيم تخالف الأخلاق وأيضا عبر زرع بذور الشقاق والانشقاق وتشويه الحقائق التاريخية والتمييز الطائفي وغريب مناهج التربية والتعليم وممارسة سياسات التجهيل والتهميش للفكر الواعي الملتزم بأخلاق الإسلام وبتوحيد كلمة المسلمين، فقاموا مرة بدعم أمراء الظلم ودول الطغيان وحكومات الانحراف وأخرى بدعم وعاظ التكفير ودعاة التفجير وخطباء الذبح من أجل تعميد الفُرْقة بالدم، الغريب في الأمر أن هؤلاء الفقهاء والخطباء والوعاظ والدعاة يَدْعُون و يَدٌعُون بأن الاختلاف في المذاهب لا يفسد للود في أحكام ومقاصد الفقه قضية، لندرك بأن جميع قضايا أحكام ومقاصد الفقه التي جمعت الفقهاء والخطباء والوعاظ والدعاة عبر تاريخ المسلمين إلى حاضرنا أفسدتها قضية الاختلاف في المذهب. من هنا فإن الحديث عن التكامل ونبذ الطائفية والمذهبية كان ولايزال الهدف الأرقى والحلم الأسمى عند دعاة فكر التغيير والإصلاح منذ أكثر من قرن من الزمن وذلك نظرا لحالة التمزق والفُرقة على الدين والأمة الإسلامية، حيث تحولت بفعلها إلى طوائف ومذاهب ومجتمعات منفصلة عن بعضها البعض يتصادم أفرادها وأبناؤها فتزداد وهنا سياسيا وضعفا اجتماعيا واقتصاديا. إن الانقسام المدمر جعل الانسان العربي يتقوقع داخل شرنقة مذهبية جامدة بدل أن يتسامى في إطار الشخصية الإسلامية المنفتحة على القيم الإنسانية الحضارية، الأمر الذي ساهم وسهل للعدو إبعاد أخلاق الدين الحنيف عن واقع الحياة ووضعه في دائرة التراث والتاريخ وإفساح المجال لاتساع النفوذ الاستعماري في البلاد الإسلامية وحولها إلى مقاطعة صغيرة ومناطق نفوذ وبؤر للصراع تسيطر فيه القوى الكبرى على مفاتيح وأزرار العمل والتأثير فيها وبها،] ويقول في هذا الصدد برنار لويس منظر الصهيونية الأول في تصريح لمجلة البنتاغون الأمريكي سنة 2005: "إن العرب والمسلمين قوم فاسدون فوضويون لا يمكن أن يتحضروا وإذا تُرِكوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمر الحضارات وتقوض المجتمعات ولذلك فإن الحل السليم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافة السلم والسلام لديهم وهدم أخلاقهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، وفي حال قيام أمريكا بهذا الدور فإن عليها الاستفادة من التجربة البريطانية والفرنسية في استعمار المنطقة لتجنب الأخطاء والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان. إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية ومناطق طائفية ولا داعي لمراعاة خواطرهم أو التأثر بانفعالهم"[ وجعل العرب يعيشون ضمن دائرة من السلبيات والأحقاد والحساسيات المختزِنة التي يملك الغرب قرار تفجيرها حسب المرحلة المناسبة عبر الحروب الحدودية والداخلية والطائفية وأصبح التقارب الباحث عن المساحة المشتركة بين الجميع سلاحا يفتك بعناصر التخريب الداخلية ويردع الأعداء المتربصين في الخارج. إن الاختلاف سنة من سنن الاجتماع وإن التتريب على المسلمين في أن يتنازعوا ويتخاصموا ويتنابزوا بالألقاب، في وقت تنشط الأمم كافة إلى الترابط والتعاون والتناصر فيما بينها ليسند بعضها بعضا في خدمة بعض، ونحن المسلمون على اختلاف مذاهبنا أولى بهذا منهم اعتمادا على ما يشد بعضنا إلى بعض من وشائج كثيرة تأتي في طليعتها وشيجة الإنسانية في الدين. أخيرا، إن الحكام والحكومات والمحكومين في العالم العربي الاسلامي مثل المعادن: بعضهم يذوب في درجة حرارة لا تتجاوز العشرين، والبعض الآخر يصمد إلى درجة حرارة الخمسين، ولكن قلة منهم لا يذوبون حتى في الفرن الذري، وحين يذوبون يتحول فحمهم إلى ماس. الإنسانية هي الحل