انضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي و"طرد البوليساريو".. مسارات وتعقيدات    بايتاس يُشيد بالتحكم في المديونية    محنة النازحين في عاصمة لبنان واحدة    هل تغيّر سياسة الاغتيالات الإسرائيلية من معادلة الصراع في الشرق الأوسط؟    هاريس وترامب يراهنان على المترددين    مشفى القرب بدمنات يواجه أزمة حادة    طرائف وحوادث الإحصاء    "النملة الانتحارية".. آلية الدفاع الكيميائية في مواجهة خطر الأعداء    بايتاس: الحكومة تتابع عن كثب أوضاع الجالية المغربية المقيمة بلبنان    بذل عمل جديدة لعناصر الجمارك "توضح تراتبية القيادة" شبه العسكرية    الشرطة توقف مروج كوكايين في طنجة    فاتح شهر ربيع الآخر 1446 ه يوم السبت 5 أكتوبر 2024    غارات إسرائيلية عنيفة على ضاحية بيروت وتقارير إعلامية تتحدث عن استهداف هاشم صفي الدين    المياه المعدنية "عين أطلس" لا تحترم معايير الجودة المعمول بها    رسميا: فيفا يعلن عن موعد انطلاق مونديال كرة القدم سيدات تحت 17 في المغرب    الحسيمة.. عائلة من افراد الجالية تتعرض لحادثة سير خطيرة على طريق شقران    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    إسبانيا على وشك خسارة استضافة مونديال 2030 بعد تحذيرات الفيفا    المنظمة العالمية للملاكمة تقرر إيقاف الملاكمة الجزائرية إيمان خليف مدى الحياة    الملك يهنئ رئيس الحكومة اليابانية الجديدة    أسعار النفط العالمية ترتفع ب 5 في المائة    "مجموعة العمل من أجل فلسطين": الحكومة لم تحترم الدستور بهروبها من عريضة "إسقاط التطبيع" ومسيرة الأحد تؤكد الموقف الشعبي    مومن: قائمة المنتخب المغربي منطقية        بايتاس: الحكومة تتابع عن كثب أوضاع الجالية المغربية المقيمة بلبنان    مشروع هام لإعادة تهيئة مركز جماعة "قابوياوا"    "درونات" مزودة بتقنية الذكاء الاصطناعي لمراقبة جودة البناء    الركراكي: الانتظام في الأداء أهم المعايير للتواجد في لائحة المنتخب المغربي    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    الركراكي يساند النصيري ويكشف هوية قائد المنتخب        أخبار الساحة    أعترف بأن هوايَ لبناني: الحديقة الخلفية للشهداء!    مهرجان سيدي عثمان السينمائي يكرم الممثل الشعبي إبراهيم خاي    قراصنة على اليابسة    مقاطع فيديو قديمة تورط جاستن بيبر مع "ديدي" المتهم باعتداءات جنسية    عبد اللطيف حموشي يستقبل المستشار العسكري الرئيسي البريطاني للشرق الأوسط وشمال إفريقيا    استدعاء وزراء المالية والداخلية والتجهيز للبرلمان لمناقشة تأهيل المناطق المتضررة من الفيضانات    "جريمة سياسية" .. مطالب بمحاسبة ميراوي بعد ضياع سنة دراسية بكليات الطب    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    جائزة نوبل للسلام.. بين الأونروا وغوتيريس واحتمال الإلغاء    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    مؤتمر علمي في طنجة يقارب دور المدن الذكية في تطوير المجتمعات الحضرية    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    القطب الرقمي للفلاحة.. نحو بروز منظومة فلاحية رقمية فعالة        وقفة أمام البرلمان في الرباط للتضامن مع لبنان وغزة ضد عدوان إسرائيل    مندوبية طنجة تعلن عن منع صيد سمك بوسيف بمياه البحر الأبيض المتوسط    المغرب يشرع في فرض ضريبة "الكاربون" اعتبارا من 2025    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    مغربي يقود مركزاً بريطانياً للعلاج الجيني    الرياضة .. ركيزة أساسية لعلاج الاكتئاب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    دراسة: التلوث الضوئي الليلي يزيد من مخاطر الإصابة بالزهايمر    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خواطر وتأملات في مسؤولية العلماء ووحدة الأمة الإسلامية..؟
نشر في العلم يوم 09 - 07 - 2010

كان موت العلماء ولا يزال ذا تأثير قوي على الأمة، وذلك نظرا لما للعلماء من مكانة في المجتمع المسلم، لقد حافظ هذا المجتمع على تقليد منذ البداية يخص العلم والعلماء بالتجلة والتقدير، وعرف العلماء لأنفسهم هذه المكانة في المجتمع، فعملوا باستمرار على أن تبقى الصورة ناصعة ومنسجمة مع هذه المكانة وهذا التقدير.
وقد كان العلماء يسعون باستمرار لتأدية الواجب ولم يكن يؤثر فيهم ما يواجهونه من صعاب أو حتى اضطهاد من لدن السلطة القائمة أو المجتمع أو حتى من زملائهم العلماء، وكان لهم في ذلك مواقف ومشاهد لا تنسى، وكانت الجنائز ولا تزال من مظاهر تقدير المجتمع للعلم والعلماء، حتى أن بعضهم يقول لمن يقلل من قيمته أو مكانته (بيننا وبينكم الجنائز)، وكأنها كما يقال اليوم (بيننا وبينكم صناديق الاقتراع). حضرتني هذه الخواطر والأفكار وأنا أتتبع جنازة المرحوم محمد حسين فضل الله، وأوحى لي ذلك بحديث الجمعة اليوم بعنوان: خواطر وتأملات في مسؤولية العلماء ووحدة الأمة الإسلامية.
التوحيد وعالمية الدعوة
لعل أهم ما جاء به الإسلام وما يميزه عن غيره من الديانات التي جاءت قبله أنه جاء عقيدة وشريعة، وأنه جاء إلى الناس كافة، وإذا كان يلتقي مع غيره من الديانات السماوية في عقيدة التوحيد من حيث الأصل إلا أن الديانات انحرف بها أهلها على فترة من الرسل، مما جعلها تبتعد عن ذلك الأصل الأصيل الذي هو التوحيد.
وفي سبيل إعادة الناس إلى دين الفطرة ودين التوحيد تحمل الرسول عليه السلام من المشاق والعنت ما هو معروف في كتب السير وما يتحدث به الناس منذ ذلك الحين إلى اليوم، ولعله من المناسب ونحن نتحدث عن معاناة الرسول أن نشير الى ذكرى من أهم ذكريات السيرة النبوية ومعلمة من معالمها الكبرى التي لا تنسى بما لها من دلالة وما كان لها من تأثير في حياة الدعوة وصاحبها، وما اقصده هنا هو ذكرى الإسراء والمعراج.
الأمانة ومسؤولية الإنسان
وقد تحمل أعباء الدعوة بعد التحاق صاحب الدعوة بالرفيق الأعلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء في تحمل أعباء الدعوة والرسالة وإرشاد الناس وتوجيههم التوجيه السليم في دينهم ودنياهم، ومنذ ذلك التاريخ والعلماء يحاولون جهد المستطاع القيام بهذه المهمة الصعبة، التي تنوء بها قوة الإنسان وقدرته على التحمل، فالأمانة صعبة، أمانة العلم وأمانة التبليغ، لذلك لم تقدر الجبال على حملها كما ان السماوات والأرض عجزت عن حملها والقيام بأعبائها، وأشفق منها الجميع وحملها الإنسان لأنه يقدر على ارتكاب الخطأ وإتيان الصواب، فهو ظلوم جهول، وهو في نفس الوقت مسؤول والمسؤولية هي التي تجعله يأخذ كتابه باليمين أو الشمال، وهو في جميع الحالات يقرأ كتابه، ويتحمل مسؤولية ما ورد فيه وما هو مدون من قبل الكتبة البررة، وهو كتاب لا يغادر كبيره ولا صغيره إلا أحصاها.
التوحيد ومسؤولية العلماء
والعلماء الذين آل إليهم التوجيه والإرشاد يتحملون هذا الأمر رغم مشاقه وما يترتب عليه من تبعات، لأنهم يرون في ذلك ما يقربهم من الخالق وما يجعلهم في مقام مسؤولية الرسل في التبليغ والدعوة، هكذا كان العلماء في الماضي ولعلهم لا يزالون على هذا النهج في الحاضر، ولم يكن العلماء جميعا في الماضي على منهج واحد وقدرة متكافئة في القيام بما هو مطلوب منهم ولكن أقدارهم تتفاوت كما تتفاوت مواهبهم وكفاءتهم، وحتى القدرة على التحمل ومواجهة الصعاب تختلف باختلاف هؤلاء الرجال، لأن طاقة الناس تختلف قوة وضعفا، ولذلك وجدوا لأنفسهم منفذا وقالوا فوق طاقتك لا تلام.
الوحدة والتوحيد
ولعل من أول الأمور التي واجهت العلماء وواجهت المسلمين جميعا منذ البداية، الجواب على سؤال أساس وهو كيف يحافظون على التوحيد وعلى الوحدة؟
كيف يحافظون على التوحيد، توحيد العقيدة وصيانتها من كل أنواع الشرك أو الانحراف بها عن مقصدها الأسمى وهو أن يكون الله وحده دون سواه هو الذي يتوجه إليه المسلم بالعبادة، وان تكون هذه العبادة وفق ما جاء به الكتاب وما رسمته السنة، ولاشك ان المسلمين والعلماء منهم على الخصوص واجهوا في هذا الباب مصاعب كبرى، لأن النفس الإنسانية ميالة إلى ما هو قريب من تصوراتها الحسية التي تسعى إلى التشخيص في الغالب اكبر مما تسعى إلى التجريد، هذا ما نلاحظه عند بني إسرائيل الذين طلبوا من موسى عليه السلام ان يجعل لهم إلها صنما يعبدونه مثل عبادة الأقوام الذين رأوهم يعكفون على أصنام لهم، وهو مصداق قوله تعالى: »يا قوم ما لي ادعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا ادعوكم إلى العزيز الغفار« الآية: 42 غافر.
الدعوة للعودة إلى المنبع
هذا في الواقع حصل جزء منه لدى الناس حيث بدأت مظاهر الانحراف تتضح لدى الكثير مما استدعى مقاومة ذلك على مستوى العقيدة.
إننا في هذا الحديث لا نريد أن نؤرخ لهذا الأمر أو الحديث عن الدعوات السلفية وغيرها من الدعوات التي تقابلها، ولكننا فقط نريد أن نشير أن من مهام العلماء التي طرحت منذ البداية هي المحافظة على التوحيد وصفائه ونقائه من كل الشوائب التي تؤثر على الناس، وتدفع بهم إلى المزالق، وما أكثر ما اثار هذا الأمر من نقاش وخلق من جدال ولا يزال، ولكنه في الواقع يبقى باستمرار مسؤولية الأمة كلها وفي مقدمتها العلماء العاملون.
إشكالية الوحدة والتاريخ
والأمر الثاني الذي أرق الأمة ولا يزال هو أمر تفرق الكلمة وانقسام الأمة إلى طوائف وفرق مع ما ترتب عن ذلك من حروب ونزاعات في بعض الأحيان سعيا لنصرة هذه الفرقة أو تلك أو هذا المذهب أو ذاك، ولكن الأكثر إيلاما هو ما حدث في آخر منتصف القرن الأول الهجري في معركة (صِفين) تلك المعركة التي لا تزال آثارها بادية للعيان، ولا يزال المسلمون يجترون مرارتها إلى اليوم، ذلك ان الشرخ الكبير الذي أثر في الأمة ومصيرها، وأثر في سياق الوحدة بين الأمة الإسلامية هو هذا الذي حدث في تلك المعركة المشؤومة التي أثرت على وحدة الأمة الإسلامية سلبا على مر القرون، فهي تاريخيا لا تزال تطل بكل مرارتها وأبعادها على واقع الناس اليوم، وقد غذت هذه المأساة أطماع الكثيرين في السلطة والجاه والثورة على الحاكمين ارتباطا بهذا المذهب أو ذاك أو هذه النزعة أو تلك.
دعوة النهضة وانبعاث التقريب
وإذا كان الوضع السياسي العام والفكري في العالم الإسلامي خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر والقرن العشرين عرف نهضة فكرية وعلمية وسياسية في العالم الإسلامي، فإنه عرف كذلك انبعاث روح التقارب والوحدة بين المسلمين، فالجهاد ضد الاستعمار الذي غزا أرض الإسلام والمسلمين دفع بقادة الحركة النضالية الجهادية إلى البحث عن وسائل الوحدة والتقارب بين المسلمين، مما جعل نزعة التمزق والتشتت تثير بعض المخاوف وتدفع إلى التساؤل، بل ان الناس في كثير من الأوقات تجاوزوا هذه المرحلة، ولا يمكن مع ذلك ان نغض الطرف على ما قام به البعض من إثارة للنزاعات العقدية بالسلفية أو المذهبية أو غير ذلك من متاعب للأمة الإسلامية، ولكن عقلاء الأمة استطاعوا رغم ذلك ان يتجاوزا ذلك، ولا لما كان لشخصية مثل شكيب أرسلان ان تقوم بالدور الذي قامت به في العالم العربي والإسلامي، وان يتعاون معها كل قادة الحركات التحريرية في العالم الإسلامي أو جل هذه القيادات على الأقل، ولو كان لا يزال أمر المذهبية أو الطائفية موجودا في الأذهان.
التعاون فوق المذاهب والفرق
انه في الوقت الذي كان هذا الرجل ذي خلفية مذهبية درزية يقوم بتوحيد وتنسيق نضال الأمة ضد الاستعمار ويسعى لتوحيدها وجد بجانبه ومعه كل العناصر الخيرة من الأمة الإسلامية دون ان يتناسى أو يتنازل أي منها عن مذهبيته، ولكن كانت الأولوية للإسلام وأرض الإسلام وهذا يدل على أن الأمة قادرة على التوحد وجمع الكلمة إذا استطاعت ان تجد قيادة قادرة على ان تنسى ذاتها وأنانيتها وتذوب في مصلحة الأمة وأهدافها الحقيقية ورغم ما كتبه بعض السلفيين مثل المرحوم محب الدين الخطيب أو تفرغ الشيخ رشيد رضا للدعوة السلفية أو أمين الحسيني مفتي فلسطين أو علال الفاسي المالكي الذي ما قرأ سيرة الإمام مالك الا سبقته الدموع إلى مآقيه هؤلاء جميعا وغيرهم مثل عبد العزيز الثعالبي من تونس كل هؤلاء كان هذا الرجل شكيب ارسلان الذي حمل قلما سيالا ولسانا فصيحا للدفاع عن الإسلام وأرضه مستقطبا لهم وكلهم كانوا متعاونين معه.
محمد حسين فضل الله والتضامن مع المقاومة
لقد تذكرت هذا كله وسرحت بي الخواطر والأفكار وأنا أتتبع الفضائيات وما تنقله حول رحيل العالم المرجع الشيعي السيد محمد حسين فضل الله هذا الرجل الذي كان من العلماء القلائل الذين كان همهم الأساس هو الدفاع عن الإسلام وأرض الإسلام ولم يحل بينه مذهبه وقيامه بتدريسه لهذا المذهب على دعم المسلمين في فلسطين وفي العراق وفي لبنان وان يتعاطف مع كل القضايا الإسلامية وأن يدافع بكل قوة على تقريب الشقة بين المسلمين، وان يحمل قلمه لمحاربة ما يعرفه أهل مذهبه من انحراف وتحريف لفهم محبة آل البيت وكل الأساليب المبتدعة ولكن حارب ذلك بالدعوة الحسنة وبالأسلوب اللائق والمناسب، ومع ذلك فهو يعترف أنه لحقه من ذلك أذى لدى البعض.
وهذا ما عرفه له الجميع واعترف به الجميع وهم يتحدثون عنه بعد فقدانه والتحاقه بالرفيق الأعلى.
الوحدة لا تعني إلغاء التاريخ
والواقع ان كتابات الرجل وأحاديثه ومؤلفاته لا تخلو من الدعوة إلى توحيد صف المسلمين وتجاوز مرحلة التمزق والتشتت والوحدة لديه كما لدى كثير من العلماء المسلمين لا تعني إلغاء المذاهب أو الانتماء إليها ولكنها تعني احترام المسلمين بعضهم لبعض والتقاءهم حول كلمة سواء الكلمة الطيبة التي جاء بها القرآن الكريم ودعت إليها السنة المطهرة، وهو يرى رحمه الله الوحدة الإسلامية لا تزال القضية المركزية الأولى للعلماء والمفكرين العاملين في خط الإسلام المنفتح على مواقع القوة في قضايا الحياة والإنسان في ساحة الصراع الفكري أو السياسي الجاد الذي يمثل التحدي الكبير للواقع الإسلامي كله على صعيد الحركة الإسلامية العالمية أو في نطاق الواقع التقليدي الذي يتحرك فيه المسلمون في امتدادهم التاريخي وفي التزامهم الإسلامي العام المنطلق عدد 113 خريف 1995 ص:17.
المنهج القرآني والوحدة الإسلامية
وفي هذا البحث نفسه رغم ما قدمه فيه من تحليل ونقد للمعوقات أو الصعوبات التي تطرح أمام الوحدة الإسلامية فإنه يرى أن المنهج القرآني في الحوار هو أكثر المناهج الحوارية عقلانية أولا: لأنه يعيد الذات في قناعاتها الحاسمة عن الدخول كعنصر سلبي في الحوار ليجعل المسألة حوار فكر يشك صاحبه فيه، في أسلوب العرض، مع فكر يوجه من صاحبه نفس حالة الشك لدى الآخر وهكذا هو مضمون قوله تعالى: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) سورة سبأ آية: 24.
ثانيا: ولأنه يبحث عن مواقع اللقاء مع الآخر في الطريق إلى الحوار حول مواقع الخلاف، حتى وإن كانت موقع اللقاء تختزن في داخلها خلافات تفصيلية متنوعة، لأن الخط القرآن يطرح الوفاق المبدئي بعيدا عن التفاصيل، وذلك من خلال الفكرة الإنسانية التي ينفتح فيها الإنسان على الحوار الخلافي بروحية الحوار الوافي، لأن مستوى الروحية وطبيعتها هو الذي يساهم في النتائج الإيجابية الحاسمة بلحاظ أن الحوار هو فعل إنسان في مضمون إنسانيته، وليس مجرد كلمات تتطاير في الهواء، مما يجعل حالة الإنسان النفسية دورا كبيرا في حل المشكلة الفكرية لتدخل الحالة الفكرية بالحالة الإنسانية في حركة الحوار. وهذا هو مضمون قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) سورة عمران، أية: 64
وقوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) سورة العنكبوت، آية:46 .
وإذا كانت مواقع اللقاء بين المسلمين وأهل الكتاب، مع العبد الشاسع بينهم في التفاصيل، تغري بالانطلاق من قاعدة مشتركة في الحوار وفي الحركة فكيف يمكن للمسلمين المتعددي المذاهب، أن لا يفكروا في قاعدة اللقاء الفكري والروحي والفقهي فيما بينهم ليكون ذلك أساسا لانطلاقة الحوار فيما بينهم ؟
ثالثا: لأنه يقود المسلمين جميعا إلى إرجاع الأمر الخلافي إلى الله والرسول في الكتاب والسنة، باعتبار أنهما المصدر الأصل، والمنطلق الأساس في الإسلام كله عقيدة وشريعة ومنهجا وحركة في الحياة فيكون قولهما الفصل على أساس القاعدة الإيمانية التي يقف عندها الإنسان المسلم ليعبر عن إسلامه الطلق لله في كتابه وللرسول، فيما ألهمه الله في سنته وذلك هو قوله تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) سورة النساء، أية:59 .
وقوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) سورة الأحزاب، الآية:36 .
وهكذا يمكن للمسلمين أن يخضعوا للمنهج القرآني الحواري في الذهنية والأسلوب والمرجع.
الوحدة بين فضل الله وعلال الفاسي
هذا ما يقوله المرحوم محمد حسين فضل الله عن الوحدة وضرورتها ويحلل في نفس المقال المعيقات التي تشبث بها بعض الناس ويرى انها يمكن معالجتها بالأسلوب القرآني المشار إليه وهو الحوار واستحضار ان مصلحة الأمة الإسلامية أسمى وأهم من مصالح آنية وعابرة وفي هذا السياق نفسه أرى من المناسب هنا التذكير بما كتبه المرحوم علال الفاسي وهو يرأس المؤتمر الالفي للشيخ الطوسي في مشهد الإمام الرضا بإيران، ولاشك ان كلا الرجلين كتب عن الوحدة الإسلامية الكثير ولكن اكتفينا بالنصين لارتباطهما بالموضوع الذي نحن بصدده وبتداعياته. يقول المرحوم علال الفاسي:
في كنف الإمام علي الرضا وفي مشهد عاصمة الروح والمعرفة نجتمع بدعوة من هذه الجامعة في مؤتمر علمي ثقافي لإحياء ذكرى رجل إسلامي عظيم، وفيلسوف نظار كبير هو أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي شيخ الطائفة وإمام من أئمة المذهب الشيعي الاثني عشرة، وإن في إقامة هذه الذكرى لدليل على تعليق العلماء الإيرانيين بقيمهم المثلى وبمجد وطنهم الكبير وتراثه السامي.
وإن في حضورنا نحن ممثلي الجامعات الإسلامية السنية لدليلا قاطعا على تقديرنا لرجالكم واعتبارنا لهم من أعلامنا وقادة الفكر من آدابنا الإسلامية الواسعة ودليلا كذلك على توافي رغبتنا في بعث روح الإخوة الإسلامية التي نادى بها النبي صلى الله عليه وسلم وضحى في سبيلها علي كرم الله وجهه وذريته الصادقون عليهم السلام، وإذا كان في الظروف التاريخية ما يبرر مع الأسف الاختلافات التي وقعت بين المسلمين فإن العصر الذي نعيش فيه يدعونا إلى الوحدة وتناسي كل ما من شأنه أن يسيء لقضية الإسلام ويعوق عن العمل المشترك في سبيل النهوض ورفع اسم الإسلام عاليا بين الأنام.
إن التطور الاقتصادي والتقدم التقني الذي حصل عليه غيرنا في أثناء غفلتنا يفرض علينا ان نعمل يدا في يد متآخين متحابين متمسكين بالعروة الوثقى والدين الحنيف عاملين على تحقيق التضامن الإسلامي الذي انعقد له مؤتمر القمة الإسلامي الأول والذي سينعقد من أجله بعد بضعة أيام التقاء وزراء الخارجية المسلمين في جدة.
وإنني لأنتهز هذه الفرصة لنوجه نداءنا إلى قادة الشعوب الإسلامية ملوكا ورؤساء وحكومات ليبذلوا جهدهم في سبيل تحقيق أهداف التضامن الإسلامي وإقامة أمانة عامة دائمة لتنسيق العمل بين الدول الإسلامية.
واضح من خلال النصين السابقين للرجلين اللذين عملا كل منهما من موقعه للدفاع عن الإسلام ووحدة المسلمين ومحاولة تجاوز ما ترسب في عقول بعض الناس من أثر خلافات الماضي التي لم يعد لها مبرر، والناس اليوم تعيش تطورا مذهلا، بل إن خصوم الأمة يسعون اليوم إلى تعميق الخلافات وبعثها من جديد وتخويف المسلمين بعضهم من بعض.
وإذا كان الرجلان تحمل كل منهما مسؤولية التوجيه وتذكير العلماء بدورهم في توجيه الأمة، وكتب الزعيم علال الفاسي في هذا الصدد الكثير، فلنحاول إلقاء بعض الضوء على بعض كتابات محمد حسين فضل الله في هذا الموضوع وهي كتابات ترجع إلى منتصف السبعينات من القرن الماضي يقول:
العلماء وأسلوب التوجيه
.. قد يتحرك علماء الدين في مجابهة الانحراف الاجتماعي والأخلاقي، فنراهم يقيمون الدنيا ويقعدونها في الثورة على القمار وشرب الخمر والزنا والخلاعة في الملابس والمظاهر والأفلام والصور والصحف وغير ذلك ويركزون كثيرا على الميوعة والانحلال لدى الشباب والفتيات ويملأون الدنيا خطبا ومواعظا تحاسب الشباب على ما يستحدثون من أزياء وأساليب في إرسال شعورهم، وتضييق ثيابهم وتهاجم النساء على الأزياء التي تبتدعها دور الأزياء، مما يتنافى مع الأخلاق الإسلامية العالية لأنها تمهد السبيل إلى الانحراف.. وهذا كله خير لا كلام فيه ولا نقاش من حيث المبدأ، وان كان لنا بعض التحفظ في الطريقة التي تعالج فيها هذه القضايا، والأسلوب الذي يستخدم في حياة الناس..
الفساد المالي والظلم الاجتماعي
ولكن هل الأخلاق الإسلامية هي أخلاق جنس، وهل الانحراف الأخلاقي، يتمثل بالخمر والقمار.. إذا.. فأين قضايا الرشوة في الحكم، والغش في المعاملة والرأي والكلمة، وأين قضايا السرقة في حياة الفرد على مستوى ما يملك الأفراد من مال وفي حياة المجتمع في الكليات العامة التي ترعاها الدولة ويسرقها المسئولون، وأين قضايا الظلم الاجتماعي في داخل الأسرة في ظلم الرجل للمرأة، أو ظلم المرأة للرجل، وأين قضايا الفساد في العلاقات الاجتماعية العامة والخاصة، وأين الجرائم الاجتماعية كالقتل بغير حق، والجرح بغير حق، والبغي في الناس بغير حق، وأين قضايا التحلل الاجتماعي الذي يتمثل في أساليب الفتنة والكذب والغيبة ونقص العهد والحكم بغير حق.. ماذا عن ذلك كله، وعن غير ذلك من المشاكل العامة والخاصة التي تجسد الانحراف الأخلاقي في العلاقات المالية والقضائية والاجتماعية...
الأخلاق عامة
وتكر علاقات الاستفهام لتشمل كل مظاهر الانحراف الموجودة في الحياة، فتقرر حقيقة إسلامية خالدة، وهي أننا نعرف أن الأخلاق لا تنحصر في دائرة معينة في التشريع الإسلامي بل تشمل الإسلام كله.. بعد أن أطلق النبي محمد (ص) كلمته الخالدة « بعثت لأتمم مكارم الأخلاق..» فكيف حدد التوجيه الوعظي الأهمية في هذا الجانب دون بقية الجوانب مع أننا نعرف خطورة بعض الانحرافات التي ألمحنا إليها، وتأثيرها الكبير على حياة المجتمع وسلامته ولهذا صنف الفقهاء المسلمون بعضها في نطاق الكبائر التي يستحق فاعلها دخول النار، كما صنفوا البعض الآخر في نطاق الصغائر التي لن تكون كبيرة إلا إذا أصر فاعلها عليها، لأن الإصرار على الصغيرة كبيرة في مفهوم الفقه الإسلامي ولكن المفارقة التي نواجهها في سلوك بعض الوعاظ، هو أنه يثير الجو كله أمام كشف المرأة شعرها، بينما لا يحرك ساكنا أمام قضايا الغيبة والنميمة والظلم الاجتماعي والغش والتطفيف في الميزان والمكيال.. مما يؤدي إلى نتائج خطيرة في وعي المؤمنين الساذجين للمفهوم في الإسلام انسجاما مع طبيعة التوجيه الوعظي الذي يقدم إليهم، فيصنع لهم تصوراتهم عن الأخلاق على طريقته.. وينعكس ذلك على ممارساتهم العملية إزاء الواقع المعاش.
الأخلاق ليست محصورة في الجنس والخمر
ولا تقتصر خطورة هذا الأسلوب على تأثيره في وجدان المؤمنين الطيبين، بل يتعداه إلى التصور العام الذي يأخذه الناس عن المفهوم الديني للأخلاق ليحصروه، أو ليحصروا أولوياته، في هذا النطاق المحدود الذي لا يتعدى أخلاقيات الجنس، وأخلاقية الشرب واللعب، فيما يلاحظونه من توجيهات وممارسات واحتجاجات، فقد يلفت النظر أن الاحتجاج الذي يقدم إلى السلطات على الفساد الأخلاقي، لا يتعدى جانب الجنس.. ولا يتعرض للجوانب الاجتماعية الأخرى، فلم نلاحظ هناك احتجاجا واحدا قدم إلى السلطة من قبل الهيئات الدينية ضد عمليات الغش والسرقة والاحتكار، في الوقت الذي تقدم فيه الاحتجاجات الكثيرة ضد فلم خلاعي، أو صورة خليعة أو ما يشبه ذلك ونحن لا نريد أن نقلل من أهمية الجنس في الفساد الأخلاقي، بل أن الإسلام قد اعتبره في الدرجة الكبيرة من الخطورة انطلاقا من حديث النبي (ص) الذي يشرح فيه قيمة الزواج وأهميته ويعتبر المتزوج محرزا لنصف دينه أو ثلثي دينه على اختلاف الروايات في ذلك، ولكننا نريد أن نؤكد على أهمية الجوانب الأخرى وقيمتها في البناء الأخلاقي للفرد والمجتمع، واعتبار الجميع كلا واحدا يمثل الصورة الحقيقية للإسلام في شموله واتساعه«.
هذا نموذج من أسلوب دعوة الرجل وطريقته التي يرى أنها انسب لحياة المجتمع المسلم الذي يبنى على التوازن بين قيمه الأخلاقية كلها، وإن وظيفة العالم الموجه هو أن يذكر الناس بحكم أن مسؤوليته هي مسؤولية الكلمة وتبليغها إلى الناس بالتي هي أحسن ودون جلبة أو تهريج.
لقد كان الرجل حسب شهادة الجميع وما تتضمنه مقالاته وكتبه رجل دعوة للاعتدال والتفاهم والتعاون والتقارب بين المسلمين، بل بين المسلمين وغيرهم من أرباب الديانات دون التنازل أو التساهل مع من يحتل أرض الإسلام ويستعبد المسلمين. رحمه الله وغفر لنا وله وعزاءا لأهله وللأمة الإسلامية، وتقبل الله منه بالقبول الحسن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.