تدور دوائر الزمن السياسي في حلقات مفرغة تضرب في الصميم أي إمكانية في انقشاع الحكمة السياسية مقابل الاستمساك المحكم والمعتم في تدبير شؤون الناس والعباد، وعمه البصيرة هو الثابت والراسخ،ولم تعد الحكمة ضالة السياسي الذي ظل عن الطريق السوي والرأي السديد، وراح يبث سمومه في معاقل التسيير والتدبير وينثر أمراضه النفسية الفتاكة في أي صرح سياسي معقول قد ينفع ،فمعاول الهدم هي الراجحة وهواجس الردم هي الرائجة،وسلعة السياسي كاسدة. فالسياسي الذي يضل عن الحكمة ولا يصدح بها ويهجرها، حتما تفارقه القيم والأخلاق ويسقط في المحظور ،والرشد السياسي مطلوب والتعقل ونكران الذات وتحمل المسؤولية، كلها مكنات مطلوبة في حماية وصون المصلحة العامة، وخدمة المواطن، ودرئ المفاسد،وهجران عقيدة الحزب الفاسدة ومجابهة شرور النفس الأمارة بالسوء والزائغة عن الطريق القويم، والشاردة في الدفاع عن مصالح الناس في بيئة الفعل السياسي. لم يعد السياسي يملك الحكمة العلمية والعملية التي ترشده إلى فعل الخير وخدمة الصالح العام، بقدر ما أضحى يبرع في صنع التحذلق و الانتصار المرضي لمصالحه، ويحسن فن اللعب والمناورة والسعي وراء رفعته وصلاحه وفلاحه، والبحث عن قارب النجاة لنفسه، و"العيش من وعلى السياسة"، وامتهان الكذب والخداع.والعيش من أجل السياسة بحسب تعبير "ماكس فيبر"، مبدأ لم تعد له قائمة في غياهب الاسترزاق السياسي المدوي والمحصن حتى بقواعد معيارية وقيمية حاضنة له، وتيسر له السبيل نحو بلوغ القمة.حيث يبحث السياسي دائما عن الخلود ويتوخى الفخامة والعيش في بحبوحة غير متناهية. والاحتكام إلى الضمير والإيمان بقضايا الناس وحاجياتهم والسعي الحثيث وراء تحقيقها، عملة نادرة في زمن كثرت فيه الرتابة والرداءة والمفسدة المطلقة، إنه زمن التكالب على المال العام،وقل فيه "التبصر السياسي"في اتخاذ القرارات واعتماد السياسات ،فالسياسي الحكيم دائما ما يراعي ظروف الحال والأحوال ويتخذ القرارات في أوانها دون بطء أو عجل أو تخبط أو مكيدة بالناس، تحشرهم في زمرة الضيق وفلك المعاناة،والشيء الأفظع بحسب تعبير "حنا أرندت" هو "أن يتخذ السياسي قرارا خاطئا فهذه مشكلة، لكن ألا يعرف كيف يقدم قراره للناس فهذه كارثة".أو يتماهى في التبرير والتسويغ لدرجة أن يجعل حتى من القتل مسألة مقبولة كما يقول "جورج أورويل"، ذلك هو المنطق الذي يحكم منطق لغة السياسي عندنا. فلم يعد هناك سياسي حصيف تغريك خطابته وتبحر بك في عوالم المعرفة السياسية و المطارحات الفكرية الثاقبة والتنظير الراقي المترفع عن استغلال شجون الناس ومعاناتهم، بقدر ما هناك من يتقن المتاجرة بالأحلام ويسوق الأوهام و اقتياد قلوب الناس بغير صدق وبغير أمانة ،حيث تتغذى جهالته من جهالة الناس، ولا يحسن إلا زراعة الأشواك والألغام في خاسرة كل من يتوق إلى الإنعتاق من ربقة الفقر، الذي يحاصره من كل الزوايا. وطبعا كل الرهان منصب على حصان خاسر لا يرى إلا نفسه ولا يمجد إلا ذاته ولا ينفخ إلا جيوبه.فقول السياسي ما هو بقول فصل، إنما قول هزل/ماكر يبتغي هوان الناس ويثبط عزيمة الإصلاح و الإقلاع عن إدمان العبث . أليس منكم سياسي حكيم ورشيد يصنع الحدث ويرفع سقف الرهان على خدمة مصالح الناس ويرعاها ويحتكم لصوت الضمير والعقل ويعيد للسياسة اعتبارها ويصالح الناس معها.تبا لكم "إن السلطة المطلقة تخرج أسوا ما في النفوس البشرية" فيليب زيمباردو