15 بدأ يظهر التعب على المعلم أحمد المفلعص، ولم يعد قادرا على الوقوف، فجلس واضعا كفيه على رأسه يراقب الناس وهم يسيرون في اتجاهات مختلفة. جلست قريبا منه مستندا إلى قفتي..وإذا بصوت ينادي بالأمازيغية: "نِكْرَاتْ أتْسُومْ أسْكّيفْ" ومعناها بالعربية "هيا لتشربوا الحريرة"، انتبه المعلم إلى مصدر الصوت وإذا به رجل يعرفه وإن لم يره منذ عقود، وقد ظنه مات. اقترب المعلم منه وأنا أسير وراءه، وخاطبه باسمه: المعلم: "موسى؟؟" موسى: "اشكون هذا؟" المعلم: "هذا احمد اللي كان خدام معك في دار العيادي".. موسى: "اش جابك لهنا امسكين" المعلم: "الرزّاق" موسى: "أشمن رزق هنا؟" المعلم: "جاء عندي واحد الشيخ موحا..وقال لي كاين شي خديمة عند الخليفة هنا فيها دفوفو سراجهم ودرابز".. اقترب موسى وقد خفض صوته "بعدا.. هذي راها دار القايد ماشي دار الخليفة، وحتى شيخ اسمو موحا ماكاين هنا.. وعلى ما كيبان لي راك غير حصلتي فالمصيدة ديال القايد". قال المعلم مرتعبا: "كيفاش؟". زاد الرجل في حَذَرِهِ وهو يقول "احدر صوتك وسمعني مزيان..اهنا راه اللي ادخل عمرو مايعاود يخرج.. وأنا براسي راني مدفون هنا هذي سنين..والى كنت مزال ماتقيدتي ودخلوك في الكنانش ندبر ليك كيف تهرب انت ومتعلمك". لما نبه موسى مُعلّمِي النّجّار وشرح له الوضع ثم عرض عليه مساعدتنا على الخروج من تلك "الحصلة"، قال له "أحمد المفلعص": "انا مزاوك المعلم موسى ..فُكنا من هذ الحصلة راني قابط العربون من عند الشيخ موحا". أجابه موسى: "اسمع.. ماحد عباد الله مجوقين على الحريرة ..هز الماعون ديالكم وتبعوني جيهت السور دْ الرْوَا". ساعدني المعلم على وضع القفة على كتفي وحمل هو قفته، ثم سرنا خلف المعلم موسى الذي ظهر لنا جليا أن علاقته طيبة مع كلّ من ضَمّهُمْ ذلك "الرّوَا" الفسيح الذي جمع البشر والحمير والبغال، وكأنه أكبر الأسواق الأسبوعية المحيطة بمراكش. عند بلوغنا إلى جانب جدار وسط العتمة، ساعدني المعلم حتى تسلقت الحائط ثم أعطاني القفة فرميت بها خلف الجدار وقفزت خلفها وأنا ارتعش من شدة الخوف، خوفٌ من البشر وخوفٌ من الكلاب الضالة وخوفٌ من الحشراتِ السّامّة التي مازلت أعاني من عُقدتها. بعد أن ابتعدت قليلا عن السور، سمعت حركة ارتطام جسم المعلم بالأرض. كان الشيخ موسى قد وجه المعلم في الاتجاه الذي ظَنَّ أن فيه نسبة أمل أعلى للإفلات من قبضة أعوان السلطة، ولكن الطريق كان مظلما، يملؤه بساط من النباتات الطفيلية التي زين بها الربيع تلك الهضباتِ فجاء فصل الصيف بشمسه الحارقة وجعلها لا تصلح إلاّ حطبا، فصيّرها مصدرا للمزيد من الخوف؛ إذ كُلّمَا أسرعنا الخُطى، زاد حَفِيفُهَا وهو صوت ملفت في سكون الليل الذي لا يخرقه إلاّ نقيق الضفادع ونباح الكلاب. بعد أن طال بنا المسير، فقدتُ كل صَبْرٍ وعجزت عن الاستمرار فلم تعد عضلاتي الصغيرة تقوى على حمل أيّ شيء. رميت بالقفة، ورغم محاولة المعلم تشجيعي وحثي على المزيد من الصّبر لم يكن ذلك مُمكنا أبدا. أخرج المعلم من قُفّته حبلا متينا رغم رُفْعِهِ كان قد لفه على هيئة كرة، ثم ربط طرفيه بقبضتي القفة، وقطع منه بقدر مناسب وأعطاني طرفا وأخذ هو الطرف الآخر. فبدأنا نجر سويا القفة حتى لا يُدركنا الصّباح وينكشف أمرنا فنُأخَذ بجرم لم نرتكبه أصلا. كانت تلك ليلة لن أنساها أبدا لم تذق فيها عيني طعم النوم وأنا أفكر في المجهول. ليلة سوادٍ في سوادٍ في سواد، وما كُنّا أنا ومعلمي نصدق أن الخيط الأبيض يظهر في ليلتنا تلك دون أن نتعرض للسعة ثعبان أو غيره، ونحن نتخطى جُحورَ تلك المخلوقات المخيفة. مع بزوغ شمس يوم جديد، بدأت تلوح لَنَا مداشرٌ متفرقة ومَاعِزٌ وأغنامٌ تغادرها وتتسابق إلى المَرَاعي. استدل المعلم المُفلعَصْ من الرّعاة على منزل الشيخ موحا.. فقيل لنا إنه صاحب تلك الماشية، وأشاروا إلى منزله غير البعيد.علمنا فيما بعد أن الرجل جاء متأخرا بعض الوقت لاستقبالنا فلم يعثر لنا على أثر. بعد تناول فطور جعله الجوع والعياء ألذ طعام وأشهاه، سمح لنا السي موحا بأخذ قسط من الراحة قبل التوجه إلى دار الخليفة للشروع في العمل، وهناك بدأ المعلم يُسند إليّ مهاما لا علم مسبقا لي بها، وكُلما ظهر عجزي عن فهم شيء، إلاّ وتفاجئني صفعة على قفاي، ووابل شتائمٍ وسباب. أذكرُ أنه أعطاني يوما قطعة خشب لأنشُرَهَا، فتكسر المِنْشَارُ في يدي. انطلق الوحش وأخذ حبلا كان قريبا منه ولم يترك مكانا في جسمي إلاّ وألهبه بشحطاتٍ كتلك التي كان يهبط بها سائق العربة على ظهر بغلته المسكينة. طفح كيلي وبلغ سيلي الزبى، وقررت أن أثور على هذا المعلم المعتوه سليط اللسان واليد. بعد تناول وجبة العشاء كما تيسر، أخذت قنديل "الكاربون" بعيدا عن الجماعة التي كانت تشاركنا الطعام والمبيت فوق سطح المنزل نفسه الذي نشتغل فيه، وارتميت على حصير بعد أن وضعت المصباح جانبا. كان النور المنبعث منه يجلب أسرابا من الحشرات الطائرة، تظل تحوم إلى أن تسقط ميتة، ومنها من يملك حاسة الإدراك لفعل النار فتظهر لتختفي ثم تظهر من جديد إلى أن تنطفئ جميع القناديل إلاّ ذاك الذي أمامي، فقد تعودت أن أتركه إلى أن يستهلك كل ما فيه من طاقة كاربونية.. وهو ما يحدث بعد أن يكون العياء قد أرغمني على الاستسلام لسُبَاتٍ ما هو بنوم عميق، ترافقه الكوابيس. أما في تلك الليلة وبعد "المدلوكة" بحبل المعلم المفلعص، وما تركه من أثار على كل أطرافي، فقد جفاني النوم وحل الأرق على الأرق.. وكيف لمن في مثل سني وواجه من المتاعب ما واجهتُ، أن لا يأرق... كنت أراقب "المفلعص" الذي لا يملك من القوة إلا شر لسانه وهو النحيل، الهزيل، إذا قَفَزْتُ عليه أسقطه أرضا لا محالة. انتابتني ساعتها رغبة بأن ألكمه في وجهه مثلما كان يفعل الأبطال بالأشرار في الأفلام الأمريكية، التي كنت أصفق لها بإعجاب في السوليما القنارية.. خطرت ببالي ألف فكرة وفكرة، ولكنني وبعد صراع وتقلب فوق الحصير، وجدت في نفسي بواقي من تلك التربية الإسلامية التي أنشأنا عليها السي الحسن، واهتديت إلى أن أفضل من كل ذلك أن أنزل إحدى غرف ذلك المنزل وأحمل رُزمة ثيابي المتواضعة جدا، وأنطلق هاربا في اتجاه مراكش. وهكذا كان بالبعد عن مثل ذلك الشر زال عني الخوف من كل حشرات الأرض وحيواناتها حتى قطعت مسافة لا يُستهانُ بِهَا، إلى أن بلغت الطريق المُعَبّد. ومن حسن الحظ أن الكلاب الضالة التي أعددت لها العدة بالعصا والحجر، عندما صادفتها وجدتها منشغلة عني ببعضها البعض. بعد ولوج النهار في الليل، كان أول من يعبر تلك الطريق هو الشاحنات العملاقة التي تحمل المعادن المهربة من الجبل بحق الحماية الذي يراد به باطل. لم يكن أحد يجرؤ في ذلك الزمان على التلويح باليد "أوطو سطوب"- وخاصة لمثل هذا النوع من وسائل النقل.. السيارات والحافلات والشاحنات، فلا أمل في الرّكُوبِ إلاّ لِمَنْ يملك الرّيالات. كانت لالة رقية تجلس مع بعض من ظلوا في رعاية دار السي الحسن من النّساء، وهن ينقّين الزرع من الحجر. أثار انتباهها صوت خوخة الباب الذي أصبح بلا بواب. رفعت رأسها وتوقفت نظراتها في اتجاهي وكأنها لا تستبعد هذا القُدُومَ المُبَكّرْ. وبمجرد ما اقتربت منها وقبلت رأسها حتى قالت: "كان قلبي حاسس أولدي ما غدي يشدك قنت.. وكل صباح كنقول إلى ما جيتي اليوم غدا تبان.. حيت عارفاك قليل الصبر". قلت لوالدتي: "واش ندير أمي؟ هداك المعلم ما عرفوه غير هدوك اللي سماوه المفلعص والمنحوس.. بغيتي نبقا ناكل العصا صباح عشية بسبب وبلا سبب؟". والدتي: "ما عرفت اش نقول لك أولدي.. الرجا فالله". يتبع.. * سيرة ذاتية للفنان المغربي الكبير محمد حسن الجندي، بعنوان "ولد القصور"، تنشرها هسبريس مُنَجمة على حلقات يومية في شهر رمضان الكريم.