8 كانت الوالدة للاّرقية وضُرّتاها تجلسن عند رأس الوالد الذي اشتد عليه حاله، وعجز حتى عن الكلام. فاقتحمت تلك الغرفة التي كانت تُسمى بالقبة الكبيرة، وأنا أصرخ و أردد جملتي : "سيدنا جاي عندنا". ولمّا تأكدت الوالدة من صدق الخبر، أمرت بإخلاء القُبّة، فتسارع من في الدار يوضبون وسائد القاعة وزرابيها. أما انأ فبعد أن بلّغتُ رسالتي، عُدتُ مسرعا وجميع من في الدار من الصّغار يتبعونني. ووجدنا موكب الفقيه يسير رويدا رويدا، لأن الشيخ كان يتوقف لأخذ نفسه بين خطوة وأخرى. كانت أبواب المنازل تُفتح على غير عادتها على رؤوس مشرئبة مبتهجة لمرور آخر أولياء الله الذي لم يسبق له أن مرّ من ذلك المكان. وكان من أبرز الواقفين سُكّانُ درب السباعي الذي يوجد فيه منزل الشريف مولاي عمر السنتيسي والد الإنسانة التي أراد الله سبحانه أن تصبح شريكة عمر الزعيم عبد الله إبراهيم، ورفيقة نضاله وجهاده، ثم بعد ذلك أمّا لأبنائه، طارق وليلى وشهاب وسارة، السيدة فاطمة السنتيسي. وأمام هذا الدرب تجمهر عدد من أبناء الأسرة المشهورة بالمسعوديين، وكانوا يملكون جزءا مهما من حومة القصور، بالإضافة إلى الدرب الذي يسمى عليهم : درب المسعوديين. الكل خرج ليتملى بالطلعة البهية لشيخ الطريقة التيجانية سيدي امحمد النظيفي الذي أشرف موكبه على باب دربنا الشهير بسبع تلاوي درب فَحْل الزْفْرِيتي. ولحسن الطالع أن منزلنا كان في مقدمة الدرب وإلا لكان من الصعب على الشيح المسنود بولديه أن يدخله. من العسير علي وصف غبطة أهل الدار وتأثرهم ذكوراً وإناثاً عندما أقبل الشيخ النظيفي إلى صحن المنزل المكشوف في يوم مشرق من أيام الرّبيع، التي زادها حدث الزيارة نوراً وبهجةً وخشوعاً. وقد جاء في حديث قدسي: أن الله تعالى يقول "وجبت محبتي للمتحابين فيّ والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ". فهاهو البيت الكبير يجمع الحبيبين بعد سبعة شهور مضت والشيخ لم يغادر خلالها خلوته. وبدأ الوالد يُكابد محاولا رفع رأسه، ودموعه تنوبُ عن لسانه وكل جوارحه وأعضاء جسمه المشلول في ذلك اليوم المشهود. لم يكن السي لحسن قد تخطى عتبة البيت منذ وقت طويل، وهو في كنف الرعاية التامة للزوجات الثلاث رقيّة، ورقوش، وفاطمة، اللواتي كنّ يتناوبن بإنصاف على رعايته وتعطير الغرفة ببخور العود القماري وقضبان الند. وكان صاحبه الشيخ النظيفي قد فقد بصره، وظلت عيونه مفتوحة ومعلقة إلى السماء وهي في قمة الصفاء واللمعان. أجلسوه مقابل الوالد، فبدأ أبي يُكابد ليرفع رأسه، وبتوفيق من الله استطاع أن يواجه الشيخ مقترباً في محاولة منه لتقبيل رأسه، أو وجهه أو يديه، غير أن الفقيه، بسط كفيه وصار يمررهما على وجه أبي وهو ينفخ، ودموع الوالد تزداد انهماراً. ثم همس الشيخ بالأمازيغية، وكان كل حديثه همساً-: "منزا تروا نسي لحسن؟" ومعناها : أين أبناء السي لحسن؟ فأشار إلينا ولده السي حماد أن نقترب، فتقدمنا إخوتي وأنا ووقفنا أمام الفقيه، ثم رفع يده وملّس على رؤوسنا ودس في يد كل منا ورقة نقدية بقيمة 5 فرانكات قبل أن ينصرف. في منتصف ليلة تلك الجمعة، كنت نائماً عند رأس الوالد، فانتبهت على حركة الفقيه محماد المتوكي، يغمس ندفاً من الصوف في كوب ماء، ويُقطّره في فم السي لحسن، وهو يقرأ بعضا من القران، وصوت أمي للاّ رقيّة في صحن الدار تطلب من الجميع أن يكبروا الله دون عويل. لفظ السي لحسن أنفاسه الأخيرة. وأدرك الجميع أن زيارة الشيخ كانت زيارة وداع. كان كل من الشيخ النظيفي والسي لحسن أحجام في حياتهما يرفع الأكف إلى الله داعيا أن يقف صاحبه على جنازته، فشاء تعالى أن يقبض روح الوالد وهو في الثالثة والستين، ويقف على جنازته شيخه البالغ المائة، وقيل أربعة وتسعون، ولكن الأرجح هو تجاوزه المائة بدليل بروز أسنان في صفاء الحليب، وفي حجم أسنان الأطفال عندما تكتمل. وقد رأيتها بأم عينيّ بارزة في إحدى الزيارات رفقة والدي لخلوته، وأثناء تمليسه على رؤوسنا في جمعة الوداع. وسبق ما سبق في علم الله. ورغم أن الوالدة لم تكن قادرة على إخفاء دموعها المنهمرة فوق الوجنتين، فإنها حاولت إقناع جميع من في الدار بكتم الصوت، وعدم الخوض في العويل والصراخ تنفيذا لوصية الرّاحل الذي سافرت روحه وبقيت جثته هامدة باردة في جناح من البيت الكبير تنتظر عودة أخي الأكبر عبد الله والصهر أحمد الحيري من الزاوية بتعليمات صاحب الخلوة والرأي السديد الحاج امحمد النظيفي. ثم بدأ كل من لم يجد في نفسه صبرا يختفي عن الأنظار ليبكي الراحل، إلاّ عمتي طيمة الأخت الشقيقة الكبرى لوالدي، والتي قدمت من أمزميز منذ عجز أخوها عن الوقوف. لم يستطع أحد أن يحد من انفعالها أو يجرؤ على معاتبتها لأنها كانت الأحب إلى قلب أبي وفيها يرى جميع الراحلين من أهله. وكان والدي لها المعيل الأوحد والراعي لأبنائها ولزوجها العجوز الذي يقارب عمره عمر الشيخ. كان نحيب العمة طيمة يملأ الأجواء ويزيد من بالمنزل حزنا وألما، وهي لا تتوقف عن الترديد بالأمازيغية "تديت أكَّما..تفلتيي أكَّما..ماسول إلاّ داري أكَّما" ومعناها بالعربية "ذهبت أخي..تركتني أخي.. من لي بعدك أخي". كان من بِدَع بعض المتصوفين في ذلك الزمان، تجهيزُ قُبُورهم في حياتهم. ومنهم من كان يُجهّزُ أكثر من قبر ليمنحهُ لحبيب أو قريب أو عابر سبيل وافته منيّتُه في أرض غريبة. ورغم أن الشيخ النظيفي كان من أعرف الناس بقوله تعالى:"وما تدري نفس بأي أرض تموت"، فقد وقف على تجهيز قبره بنفسه. وتلبية لرغبة إحدى زوجاته، السيدة فاطمة علي، فقد جهز لها مدفنا يُحادي قبره. وبمجرد أن بلغه خبر وفاة صاحبه السي الحسن أحجام، أمر بدفنه في واحد من القبرين الجاهزين، و قيل في قبر السيدة فاطمة علي التي تقاسم معها والدي حليب الإناء، فأصبحت تُناديه أخي وصرنا نناديها بعمتي فاطمة علي. وأعطى الشيخ قْشّابَة بدون عنق ولا أكمام، وأوصى أن يُدفن فيها الراحل تحت الكفن، ولا أحد يعلم سر ذلك الرداء. المُهم أن الشيخ أصرّ أن يحضر الدفن بعد صلاة الظُهر، فحملوه من خلوته التي لا تبعد عن قبة الدّفن إلاّ ببضع خطوات. لم تكن ساحة الزاوية النظيفية تتسع لكل ذلك الكم من المُشيّعين، فمن بقي خارجها يتعدى بكثير من دخل. وكان عدد الناس هائلا بالنظر إلى أن المُسجى رجل عادي، لا هو من أهل السلطة ولا المال، إن هو إلاّ حلاّق زاهد متواضع في علمه، وفهمه، وانتماءه. وكان من فضل الله عليه أن سيّرَ في جنازته تلك الحشود من عُلماء مراكش وفقهاءها وأعيانها وفقراءها وفي مقدمتهم حفدة مؤسس الطريقة التيجانية الذين كانوا يتنقلون باستمرار بين عين ماض بالجزائر وفاس حيث يوجد قبره، ثم مراكش التي انتشر فيها أتباعه، وعلى رأس الحفدة: السيد محمد الحبيب وصهره الشيخ الطيب والد زوجته للاّزهور أم محمود، وهذا الأخير أرضعته والدتي معي فصار لي أخًا في الرضاعة، وكذلك شقيقه زين العابدين الذي تقاسم حليب أمّي مع أختي فاطمة، والثلاثة استقر بهم المطاف في عاصمة دولة السنيغال دكار ليتوارثوا مَشيخة الطريقة هناك، إلى أن مات محمد الحبيب، فتولّى أخي في الرضاعة محمود هذه المهمة، وبعد وفاته هو الآخر، تسلمها زين العابدين إلى أن التحق بأبيه وأخيه رحمهم الله جميعا. عرفت مراسيم جنازة السي لحسن أحجام مشاركة هائلة من أبناء قبيلة والدي المزامزة: ايت بولخضرت والسيد الصبّان قائد المنطقة، وايت بوحسين، وايت وانعيم. إضافة إلى أقارب والدتي "للاّرقية" يتقدمهم شيخ ماريغان السيد عمر ايت واحمان وابن شقيقه السيد محمد ابو رحيم والد السيد احمد التوفيق. ومن نفس المنطقة التي اشتهرت بواديها النفيس، قيادة ويركان،- قَدمت جماعة أخرى من أسرة زوجة أبي احبيبتي رقوش وكلهم من سكان عاصمة الموحدين، وجيران مسجدهم العتيق مسجد تنمل. ونظرا لهذا الكم الهائل المتنوع من العلماء، والأهل و الأقرباء وأتباع الطريقة، فإن الباشا بنفسه أظهر اهتماما بالغا وأمر خادمه القوي "الحاج إدار" بالإشراف على التنظيم المُحكم تقديرا لما يحظى به الشيخ النظيفي من اعتبار عنده. أذكر وأنا ابنُ سبع، ذلك اليوم المهيب. طمس بطن الأرض جُثمان رجل. وتفرق الناس وهم يرددون عبارات الثناء عليه وعلى زُهده. وأنا وسط المعمعة، التقطت أذني كلمات لأحد المشيعين- أظنه كان واحدا ممن شملهم إحسان جُمعة الخير، قال وهو يشير إلى الدرب الذي يسكنه آل النظيفي، ويسمى درب الحركاصة: "هنا كان يجمعنا السي لحسن الحجام في رمضان بعد صلاة المغرب مباشرة، ويصب بيده لكل واحد منا نصيبه من شربة الحريرة، ورجلان قويان يحملان قدرا نحاسيا كبيرا ويسيران من خلفه من بداية صف اليمين ذهابا إلى نهاية صف الشمال إيابا. وعندما ينتهي، يجلس بجانب آخر واحد منّا ليتناول شربته معنا وبيننا، وهكذا يداوم طيلة الشهر الكريم كله". عند سماعي تلك الكلمات ، تراقصت أمامي تلك الصور، وتذكرت المرة التي كنت قد حضرتها معه في رمضان وسجلتها ذاكرتي الصغيرة. بين الناس لمحت أيضا وجها أعرفه، اقتربت لأتأكد، فصدق ظني. كان الوجه لجار لنا مُصابٌ بداء السرقة، غفر الله لنا وله. تعود هذا الجار أن يسطو على سطح منزلنا آخذا كل ما يجد من ملابس و زرابي منشورة. وكان أبي رغم الأذى الذي يصيبنا من جور الجار، يأبى إبلاغ الشرطة مخافة أن يتهمه باطلا أو أن يُبطَشَ بالرجل، فيأثم به. ولكن ماهي إلاّ أيامٌ حتى قبض عليه في سرقة أخرى، واعترف عند التحقيق معه أن من جملة من سرق: دار السي الحسن الحجام. أتى رجال الشرطة بالمتهم ليتحققوا من صدق قوله، لكن أبي، رفض دخولهم ونفى أن يكون جاره قد سرق منه شيء. علمنا في ما بعد أن أقوال والدي كانت سببا في تخفيف الحكم عن الرجل الذي رأيته يذرف دموع الحزن وهو يشيع جنازة جاره السّموح. انتشر الناس وكُنت أتمنى ألا يتفرقوا وأن يستمروا في الحديث عن والدي بما عرفته وما كنت أجهله. كنت أراه حيا على شفاههم، وخشيت أن يتلاشى من أمامي إن هموا رحلوا. ولكن دوام الحال من المحال، فسرعان ما انصرف كلٌ إلى سبيله، ووجدت يدي في يد ابن عمتي محمد بن ابراهيم الكباص الملقب بعد الاستقلال بالواردي. كان يزيد سنه عن سني بحوالي الست سنوات وكان يفوقني تجربة وخبرة، ذُو موهبة، كثير التردد على حلقات جامع الفناء، مغرم بكرة القدم لا يتخلف عن أي مباراة تجري في المشور الملكي بحي القصبة، يتفنن في طرز الطّواقي بخيوط الحرير الملونة، وينسج منها زخارف ورسومات بمهارة يده ومُخطافه. وكان يتمتع بخط جميل وذاكرة تثير إعجاب الكبار والصغار. كنت أسير معه وأنا لا أتوقف عن البكاء رغم كل محاولاته لتهدءتي بما يحفظه من جميل الآيات، وتسليتي بما التقطه في جامع الفناء من خرافات ونكات. دموعي لم تكن لتتوقف، فقد استوعبت لتوّي أن الذي لم يكن يناديني إلا "بالحاج محمد" قد صمت إلى الأبد. لم أكن أتصور هذه الحياة بدون السي الحسن.. لأن الحياة كانت هي السي الحسن. في تلك اللحظة أحسست بأنها النهاية، نهاية كل شيء.. قد مات أبي. يتبع.. *سيرة ذاتية للفنان المغربي الكبير محمد حسن الجندي بعنوان "ولد القصور"، تنشرها هسبريس مُنَجمة عبر حلقات يومية في شهر رمضان الكريم.