مسيرات 24 أبريل التي شهدتها أكثر من مائة نقطة في مختلف المناطق الحضرية والقروية تدل بشكل واضح على أن المغرب لا يشكل استثناء في العالم العربي وأن الشباب الثائر يعرف ما يريد وأنه عازم على تحقيق مطالبه، كل مطالبه، حتى يرى قرارات سياسية شجاعة تنسجم مع التغيير الحقيقي الذي يريد.. من المؤكد أن الدينامية السياسية التي أطلقتها حركة عشرين فبراير في أعقاب الثورتين التونسية والمصرية بدأت تؤتي أكلها منذ خطاب 9 مارس الذي رسم عناوين الإصلاح الدستوري والذي لم يكن منتظرا بالنظر إلى سياق التراجعات المنهجية التي كانت تعرفها بلادنا على المستوى السياسي والاقتصادي والحقوقي والإعلامي.. ورقة الإصلاح الدستوري لم تكن كافية لوقف غضب الشارع، ونزل الناس من جديد يوم 20 مارس للمطالبة بإجراءات سياسية مواكبة تزرع الثقة في المشروع الجديد.. لم تستسلم حركة الشارع للعديد من الدعوات الانهزامية والمناورات الدعائية التي استخدمت من أجل توقيف حركة الاحتجاج المدني والسلمي التي انطلقت في المغرب، وهي تستلهم روح الثورات العربية التي تبرهن على انتصار إرادة الشعب، وتستنشق رياح الديموقراطية القادمة تحت شعارات الجماهير الواعية بهذه اللحظة التاريخية، لحظة التغيير الشامل والعميق ولحظة الانتقال الحقيقي إلى الدولة الديمقراطية. وبرغم الإشارات التي أقدمت عليها الدولة من قبيل إطلاق سراح بعض المعتقلين السياسيين وبعض المعتقلين في قضايا ما سمي بالإرهاب فإن الجميع على وعي تام بأن هذه الإجراءات لازالت بعيدة عن تحقيق التغيير المطلوب، فلازال هناك معتقلون ينتمون إلى ما سمي بتيار السلفية الجهادية يقبعون وراء القضبان بعدما ثبت أن عددا كبيرا منهم تعرض للاختطاف وانتزعت منهم اعترافات تحت وقع التعذيب الذي مورس عليهم في معتقلات سرية ومنها مركز تمارة الذي لم يعد سريا، وتم الزج بهم في محاكمات صورية اختل فيها ميزان العدالة لفائدة المقاربة الأمنية المتوحشة. لم يعد الناس يثقون في الوعود وفي الإشارات السياسية الفوقية، وينتظرون قرارات شجاعة تلامس الواقع اليومي وتعطي بالدليل أن بلادنا قررت الانخراط في مرحلة جديدة يشعر فيها الفرد بمواطنته الكاملة ويستشعر فيها قيمة الحرية والمساواة والعدل بين الناس. والمطلوب اليوم الإقدام على اتخاذ قرارات شجاعة من قبيل الإفراج عن باقي المعتقلين على خلفية قانون الإرهاب، وفتح تحقيق نزيه في أحداث 16 ماي، والتجاوب مع مطلب إبعاد كل من فؤاد عالي الهمة ومنير الماجيدي عن المحيط الملكي، وعدم عرقلة تشكيل لجنة تقصي الحقائق حول معتقل تمارة السري، وبلورة مشروع الإصلاحات الدستورية في وثيقة تستجيب في مضامينها لمواصفات الملكية البرلمانية كما هي متعارف عليها عالميا، ومحاكمة رموز الفساد، وتحرير الإعلام الرسمي من قبضة الدولة وأجهزتها الدعائية وتحويله إلى إعلام عمومي حقيقي... إن المشاركة العفوية والتلقائية للعديد من الشرائح الاجتماعية في هذه الاحتجاجات لا ينبغي أن تنسينا مسؤولية التنظيمات السياسية في ضرورة الدعم السياسي لهذه الاحتجاجات ومواكبتها بالرعاية والاحتضان، والأهم من كل هذا القيام بمراجعات سريعة لجزء من الثقافة السياسية الذي لم يعد صالحا بعد لحظة عشرين فبراير.. إن التغيير الذي يريده الشعب يملي مسؤولية تاريخية على القوى الحية في البلد لكي تقوم بدورها المطلوب في هذه المرحلة، فلا ديموقراطية بدون ديموقراطيين ولاديموقراطية بدون أحزاب سياسية حقيقية تعبر عن نبض الشارع وتتفاعل مع مطالبه واحتياجاته المشروعة. في مراحل سياسية سابقة، وبفعل سنوات القمع والتنكيل التي تعرض لها مناضلو الأحزاب السياسية الحقيقية، تم اختزال مفهوم العمل الحزبي لدى جزء من الطبقة السياسية في كيفية تدبير العلاقة مع الدولة، و أضحى السياسي الناجح والحزب الشاطر هو الذي يكسب ود الدولة ويحظى بالقرب منها، وبدا وكأن الدولة هي مصدر شرعية العمل الحزبي ، وهي مصدر جميع المكتسبات التي يحققها هذا الحزب أو ذاك، وتبلورت نظرية سياسية بسيطة تربط أي إصلاح بإرادة النظام القائم وهو ما دفعها للرهان عليه بشكل كامل وتجنب كل ما من شأنه أن يقحمها في متاهات أي شكل من أشكال الصراع معه. لقد أدى التضييق على المعارضة السياسية في السابق إلى ترويض جزء من اليسار الذي راهن بشكل كامل على استراتيجية الاندماج مع الدولة توجت بالانخراط في تجربة التناوب المفتقد إلى أي ضمانات دستورية أو سياسية، فكانت النتيجة هي مزيد من العزلة عن الجماهير الشعبية وتعميق نفسية الإحباط وعدم الثقة في الأحزاب السياسية.. المعارضة الحالية ممثلة في حزب العدالة والتنمية تعرضت بدورها لمسلسل من التنكيل منذ أحداث 16 ماي، وصلت إلى درجة التهديد بحل الحزب والضغط عليه في جميع الاستحقاقات الانتخابية التي تلتها، وهو ما انتهى بها إلى الاقتناع بأنها تمثل قوى سياسية واجتماعية غير مرغوب فيها من طرف الدولة وجعل قيادتها تقتنع بضرورة بعث رسائل الطمأنة والتأكيد على أن عملها السياسي لا يحمل أي تهديد للوضع السياسي القائم، بل وتمت المبالغة في تأكيد هذا المعنى عبر العديد من التصريحات التي تدفع المواطن إلى طرح تساؤلات مشروعة حول موقع تطلعاته وآماله المرجوة في الخطاب الرسمي للحزب الذي ينزع في فترات معينة إلى تغليب الهدنة مع الدولة ونزع أي توتر محتمل معها على القضايا الأساسية للمواطنين. اللحظة الحالية هي لحظة المراجعة الشاملة لثقافة سياسية نمت وترعرعت في مناخ من الاستبداد والقهر، ربما تكون قد أدت وظيفتها على نحو مقبول في زمن سابق، لكنها بدون شك تحتاج اليوم إلى ثورة حقيقية لمسايرة الإيقاع الذي رسمته ثقافة الثورة في العالم العربي وارتفاع سقف المطالب، ونجاح هذه الاحتجاجات في بلورة نموذج في التغيير من شأنه تحرير النخب السياسية من ثقل "براديغم الطاعة" وسيادة نمط من الثقافة الأبوية في العلاقة بين الحاكم والمحكوم الذي أطر هذه العلاقة لعقود طويلة، وأي تردد من طرف الأحزاب السياسية في التقاط هذه اللحظة التاريخية لن يزيد إلا في تعميق عزلتها عن الشعب وعن امتدادها الاجتماعي المفترض. إن نجاح الثورات العربية في فرض مطالبها لا يعفي الأحزاب السياسية من امتلاك رؤية سياسية واضحة لتدبير الزمن السياسي القادم، فرغم القيمة التاريخية للتحركات الشعبية العفوية فإن دور التنظيمات السياسية يبقى دورا حاسما لإنجاح أي تجربة في الانتقال الديموقراطي، والمطلوب منها اليوم أن تتحول إلى قوة ضغط مدنية وسياسية لعقلنة المطالب الشعبية ودفع الدولة إلى الانخراط في منطق التغيير الحقيقي الذي يريده الشعب بكافة مكوناته السياسية والاجتماعية والثقافية، والكف عن سياسة الترقيع وتقسيط الاستجابة للمطالب التي لا تجدي شيئا في زمن إرادة الشعوب، زمن الديموقراطية والكرامة والحرية، زمن التغيير الذي نريد...