مع حلول شهر رمضان يعود إلى الواجهة موضوع الإفطار العلني ووجوب الصيام من عدمه، فنجد من يتحدث عن الحرية الفردية وأننا نعيش في عالم معاصر يتعدى سلوكيات المجتمعات القديمة، ومن يركز على مفهوم الجماعة وعدم استفزاز مشاعر الأغلبية، ومن يذكرنا بالقانون الذي يعاقب كل من سولت له نفسه الإفطار علنا، وربما لأن الأمر حساس وهام قد تنضاف له تهمة زعزعة العقيدة والإخلال بالنظام العام..لكن ألا تظنون معي أن الموضوع يتعلق بهويتنا المجتمعية، وهو أكبر من أن يكون مجرد صراع بين من أفطر ومن صام. هذا النقاش الدائر حول الحريات الفردية والثوابت الراسخات ومعنى الحقوق ومعنى الواجبات ما هو إلا مخاض لهويتنا المغربية في ولادتها المعاصرة؛ وبما أننا نعيش مرحلة انتقالية بكل ما في الكلمة من معنى، إذ الإصلاح والبناء مستمر في كل المجالات، من إرساء للهياكل السياسية والتنظيمية واستثمار في البنية التحتية والثروة البشرية إلى تحديث للمنظومة الاقتصادية وتطوير للمقررات والمناهج التعليمية وارتقاء بالصحة والقضاء وكل ما يخص الحياة المجتمعية، فنحن كذلك نتعلم كيف نبني هوية مغربية على أساس المواطنة تحفظ للمجتمع تماسكه ولا تقصي أي مكون من مكوناته الاثنية أو اللغوية أو الدينية. دعونا نعترف أولا بأنه يوجد بيننا أقلية دينية تُعتبر إحدى المكونات التاريخية للهوية المغربية، فالثقافة العبرية كانت ولازالت جزءا لا يتجزأ من الثقافة المغربية، واليهود المغاربة هم أولا وقبل كل شيء مغاربة كما ينص على ذلك دستور المملكة الجديد؛ وهذا أكبر دليل على أن الهوية الدينية هي مجرد هوية فرعية بالنسبة للهوية المغربية، وليست هوية شاملة؛ بمعنى أن تكون مغربيا لا يعني ضمنيا وعلى وجه الحصر أن تكون مسلما، فالأغلبية لا تعني المطلق. كما يوجد بيننا من لا يؤمن بالأديان، ويعتبر الرسل مجرد عقول ذكية تفوقت على كل معاصريها، فأسست منهاجا مجتمعيا بُنيت عليه حضارةٌ بثقافة وهوية موحدة؛ ومن بينهم من لا يؤمن أصلا بوجود إله خلق الكون والعباد ويسبح له الطير والجماد؛ وهؤلاء كثر نعرفهم حق المعرفة فهم لا يُخفون تصورهم هذا للكون والوجود، ونحن طبعا لا يضيق صدرنا بهم ولا بأفكارهم. وكلما سنحت لنا الفرصة للحديث في هذا الموضوع حاولنا جاهدين إقناعهم وكأننا بذلك نُثَبِّت قناعاتنا ونتفادى التأثر بمثل هذه الأفكار، وغالبا ما ينتهي الحديث على وقع النكتة والمواقف المضحكة، في محاولة لإيجاد مخرج من جدال عقيم لا غالب فيه ولا مغلوب؛ ومهما كان الجدال حادا ومتعصبا فإننا لا نشك أبدا في مواطنتهم وهويتهم المغربية. يوجد بيننا كذلك من لازال إيمانه بوجود إله خالق راسخا لا يتزحزح، ولكنه وجد ضالته الروحانية في دين مختلف عن دين الأغلبية، فاعتنق المسيحية أو البهائية أو البوذية أو غيرها من الأديان القائمة. وخلافا للحالة السابقة، حيث يتعلق الأمر بحالات منفردة وإن كانت متعددة، ولكن لا تنتظم ضمن جماعة بعينها، فهنا ينتج عن هذا الإيمان انتماء تلقائي إلى جماعة دينية جديدة. هكذا ستنضاف هوية فرعية أخرى إلى مجموع الهويات الفرعية التي يحتضنها المجتمع الواحد؛ لذلك فعلاقتنا بهؤلاء مختلفة وفيها نوع من الحذر والريبة، وكأنهم فجأة لم يعودوا مغاربة حقيقيين، وربما سيخدمون مصالح جهة أخرى معادية... لكن لنتذكر أن هؤلاء هم فعلا مغاربة وسيضلون كذلك، وما قاموا به سوى ممارسة لحقهم العالمي في اختيار العقيدة، وهذا أيضا متضمن في دستورنا الجديد. من ناحية أخرى، تعد الهوية الإثنية وجها آخر لأوجه الهوية المجتمعية المتعددة؛ فالهوية الأمازيغية مثلا هي أيضا هوية فرعية متضمنة في دستور المملكة الجديد، ودليل آخر على أن الهوية المغربية الجامعة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون مبنية على العرق أو على الدين. والهوية الإثنية والهوية الدينية ما هما إلا هويتان فرعيتان ضمن أخرى تشكل في مجمعها هوية مجتمعية جامعة هي الهوية المغربية. وحين تتواجد مجتمعات عرقية أو دينية داخل المجتمع نفسه، تُطرح بشدة مسألة التعايش بأبعاده المجتمعية والحقوقية والقانونية. وبعيدا عن التعصب والدفاع الأعمى عن إحدى هذه الهويات الفرعية، يتطلب موضوع التعايش مشورة هادئة لإيجاد نظرة جماعية تمثل كل أطياف المجتمع وفئاته، ويكون هدفها هو تحقيق المصلحة المشتركة للبلد الواحد وليس فقط مصلحة الفئة أو الجماعة. والمطالبة بالحق في الإفطار العلني في رمضان من طرف الفئة اللادينية أو العلمانية وبعض من يناصرونها باسم الحرية والحقوق المدنية، من جهة، وتمسك الأغلبية المسلمة بضرورة الالتزام ب"الثوابت" واحترام مشاعر الأغلبية، من جهة ثانية، ما هي إلا إحدى مظاهر الصراع بين الهويات الفرعية في مجتمع يتميز بالتعددية. المفروض هو أن يتحول الصراع إلى حوار يهدف إلى إيجاد رؤية موحدة تحترم كل مكونات المجتمع، بعيدا عن التعصب وفرض الواقع، وفي الوقت نفسه تحترم الأولويات والظروف المحيطة. سيكون هذا الحوار مبنيا على أسس التعايش والعيش المشترك في مجتمع اختار أن يكون شعاره هو "الوحدة في الاختلاف"؛ وهذا هو شعار المجتمعات المتقدمة التي ترى في كل مواطنيها ثروة لا تقدر بثمن وتعمل جاهدة على احتضان الجميع والمساواة بينهم على أساس المواطنة. رمضان، وليس الصيام، من أهم رموز الهوية المغربية؛ وبالتالي يعد المساس بكل الطقوس المحيطة به، من امتناع عن الأكل والشرب "بكل أنواعه"، وارتداء الجلابيب والتخفيف من علامات الزينة في النهار بالنسبة للنساء، وفي الليل امتلاء المساجد والمقاهي على حد سواء، وموائد رمضان ومسلسلات رمضان...(يعد) وكأنه تغيير في الهوية المجتمعية؛ وذلك لأنه يعبر عن الهوية الدينية عند الأغلبية من جهة، ومن جهة أخرى، فهو يخضع لتوازنات سياسية واجتماعية واقتصادية تأسست منذ سنين عديدة وازدادت قوة وصلابة مع مرور الأيام. المراد بهذا التحليل ليس الدعوة إلى الإفطار العلني، ولكن إلى فهمٍ لمكونات مجتمعنا وهوياته الفرعية ومصدر عاداته وممارساته التي يختلط فيها الدين بالتقاليد والعلم الحديث بالموروث القديم. وإن كانت هناك دعوة فهي إلى ترسيخ مبدإ التعايش واحترام الحريات وحقوق الأقليات بقدر احترامنا لمشاعر الأغلبية. أظن أن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس، وما تحقق من إنجاز في مجال الديمقراطية والتعددية ودولة الحق والقانون واحترام حقوق الإنسان بأبعادها الدولية المتعارف عليها لا يمكن إنكاره أو التخلي عنه. ومغرب الغد سيكون أفضل بلا شك ما دمنا ملتزمين بالحوار الجاد والبناء بين مكونات المجتمع دون إقصاء. ومهما اختلفنا وتخالفنا علينا احترام بعضنا البعض، فنحن كلنا مغاربة ولسنا أبدا أعداء. #لنبن_مغربا_أفضل #لنبن_عالما_أفضل