بعد استنزاف الجهد و عودة المستعمر إلى حال سبيله وجدت النخب(8) التي تمكنت من طرد المستعمر نفسها لا تملك مشروعا حضاريا نهضويا فكريا متكاملا ،بل إن مشروعها كان ناقصا ،الأمر الذي أدى إلى انقسام هذه النخب (ظاهرة التحزيب) ،و النتيجة هي أن الفئة التي قاتلت المستعمر قد تسلمت السلطة وسط هتافات الجماهير التي عقدت عليها العزم, بل ربطت مصيرها بانتقال السلطة إلى هؤلاء، و بما أن مشروع هؤلاء النخب كان ناقصا فقد تم التفطن إلى أن المستعمر قد طُرِدَ "كزَيٍ" من الشوارع،لكن ثقافته قد تم التشبث بها "سلوكا" ،وهنا ستظهر فئة مهمتها هي رفض موقف النخبة ،منذ ذلك الحين الى الآن شوهدت عدة سيناريوهات "نضالية/سلمية" (حالة المغرب و الجزائر في شمال افريقيا ) او "نزاعية/مسلحة/دموية" (حالة الاكراد،و الصراع الشيعي السني في المشرق ). وهنا فهم على أن التاريخ قد يعيد نفسه بصياغات متعددة، فالنخب "الحداثية الأمازيغية" الآن تبحث لنفسها عن موطئ قدم داخل النسق السياسي لممارسة "السلطة" ،في الوقت الذي "توهم" فيه شريحة مهمة من المغاربة بأن ما ينقصهم هو الإصرار بطريقة مبالغ فيها على سؤال الهوية،علما أن استغراق المزيد من الوقت في البحث عن إجابة لهذا السؤال من شأنه أن يعيق التنمية،ويدخلنا في دهاليز القرن الذي نعيشه غير حاسمين في ما نرمي اليه. خطورة الأمر لن تنجلي لنا إلا بعد انصرام الزمن ،مثلما أن هويتنا لن تنضج إلا بالانفتاح على تجارب معاصرة ،فإذا كان المغرب قد انشغل عن سؤال الهوية بدسترة اللغة الأمازيغية (شان باقي الدول العربية والإسلامية التي تنشغل بهوياتها العرقية أو الدينية أو الإيديولوجية..)و إذا كان الفاعلون الأمازيغيون يرون في ذلك مدخلا لتحقيق "الهوية الكاملة" لهم ،فإن لحظة التوثيق التشريعي /القانوني تختلف كليا ،فالحراك الذي عرفته مجموعة من الأقطار كان دافعه غياب التنمية و ضيق الأفق السياسي وانسداده ،ولم يكن البثة نتيجة تعصب ديني أو عرقي أو مذهبي ... إلا أنه في خضم هذا الحراك و لمزيد من الاحتقان وإضفاء زخم على هذه "الثورات" تم الاستعانة إما بنعرات عرقية ،كما هو حال تملق رئيس سوريا بشار الأسد للأكراد بمنحهم الجنسية السورية، أو بنعرات طائفية كالتدعيم الباعث للصراع السني الشيعي ،ولعل المنصت البسيط للتكبيرات المرافقة لكل طلقة رشاش أو لِلِحَى العديد ممن يسمون أنفسهم "مجاهدين" دليل على أن الحراك الشعبي له دافع قبلي مخالف للتأزيم البعدي الذي تشعله النعرات العرقية أو الطائفية... خلاصة قولي هنا أن النعرات السالفة الذكر هي مجرد "خلايا نائمة" غالبا ما يتم ايقاظها في الوقت المناسب لتحقيق غايات بأجندات مفارقة لواقع الناس ،وهي تلعب في نهاية المطاف دور العائق اكثر منه دور المسوغ للتنمية. 4. «الهوية الكونية» و «الإقلاع الحضاري» و «الحرية»: يورد إدغار موران تساؤلا مبنيا على تشخيص منتبه إليه: "أي تنوع مذهل لا يحصي على كوكب الأرض هذا ،حيث تنوع الأجناس و تعدد الإختلاط،وكما تبين الجغرافية المتعددة الألوان ،فإن الأمم آخذة في الازدياد و الإثنيات أكثر عددا و تنوعا من الأمم بعد،وقد ازدهرت آلاف اللغات مع تنوع لامتناه لقواعد اللغة و تراكيب الكلام و المفردات و الأصوات التي تميز بينها. و إذا كان كثير من اللغات ضئيلة الأهمية تموت حاليا فذلك لأن اللغات المهمة تخنقها،لكن تظهر لهجات دارجة و لغات مختلطة و رطانات في كل مكان..." (9) ، وفي خضم حديثه يشير ادغار موران إلى أنه برغم التنوع الذي تعرفه كل مناحي الحياة البشرية, سواء كان تنوعا عرقيا،دينيا،لغويا،ثقافيا،اجتماعيا (قبائل ،طبقات،فقراء ،أغنياء...)،فيزيولوجيا (الشكل، الطول،الجهاز العصبي،اللون...)، نفسيا (الشخصيات ،الطباع، الجبلة، الادراك، الامزجة...)... برغم هذا التنوع يقر موران بأنه" بقدر وضوح التنوع البشري للعيان أصبحت الوحدة البشرية اليوم واضحة للأذهان"(10) ليتوصل إلى إمكانية بناء هوية بشرية مشتركة بناء على عناصر الوحدة التي تجمع بين البشر،وحدة إزاء الموت و الثقافة و السوسيولوجيا ،منطلقا من أنه ليس هناك تعريف للثقافة يشمل جميع الثقافات من غير النظر إلى اختلافاتها، كما أنه بداخل مجتمع ثمة موسيقى، غناء، شعر، عقلانية، دين، تقنية، سحر، طقوس، عبادة... ليصل بعد ذلك إلى فكرة مفادها أن التنوع و التعدد يمكنه أن يكون أصلا للوحدة" ثمة وحدة بشرية.وثمة اختلاف بشري.وثمة وحدة داخل الاختلاف البشري،وثمة اختلاف داخل الوحدة البشرية...و لا ينبغي للاختلاف الشديد أن يخفي الوحدة،ولا للوحدة الأساسية أن تخفي الاختلاف". (11) يصعب التفكير فعلا في تأسيس وطن بدون هوية،مثلما يصعب التنظير لكيفية الانتقال "إلى الهوية الكونية" لكن الأصعب أيضا أن نستمر في طرح سؤال الهوية بالشكل الذي نكرسه حاليا، فعوض أن يلعب السؤال دور المساعد على تحقيق الإقلاع الحضاري المرتبط بالإقلاع في كافة المجالات الحيوية ،بما فيها ضمان الحرية، لازلنا ننظر إليه كسؤال يعيق تحقيق هذا الإقلاع ،نظرا لاختزالنا للهوية في مجالات محدودة أدت إلى تكريس انغلاقنا بما ينفع فئة دون باقي الفئات ،و لعلي سأكون حالما،ومنسجما مع بنات أفكاري، إن قلت أن الهوية لا بد أن ترتبط أكثر بالإنتماء الوجودي و التموقع الاجتماعي و إلا ما فائدة هوية مفتقدة لمحركات تسهل عملية الإقلاع؟ ألم تقلع اسبانيا رغم الإرث الثقيل لهويتها المنقسمة على ثلاث؟ وهل نخبنا مستعدة للتخلي عن تصوراتها الضيقة لمفهوم الهوية لتجاوز وضعنا المتخلف؟. 5. خلاصات: إن التاريخ البشري منذ عصور ما قبل التاريخ لم يعرف لحظات قطيعة مطلقة، ولن أحتاج للتذكير بأن الجنس البشري ينتمي، رغم اختلافه، إلى نفس النوع كما أننا نمتلك السمات الأساسية نفسها ،وما وضع التشتت أو الشتات الذي نعيشه كما عايشناه في الماضي القريب إلا وضعا مرحليا ،علما أن هذا الوضع أدى إلى ظهور الإبداع الإنساني في أحلى صوره (اللغة ،الفنون، العادات ،الاخلاق،...)، بمعنى أن التنوع الذي عرفته الذهنية و الثقافة البشرية كان مصدرا للتجديد في كافة مجالات الحياة ،وهذا لا يعني أن حالة التعصب لواقع هوياتي من شأنه أن يساهم في بناء هوية كونية تضمن الحرية والكرامة للجميع وتحفظ هبة الضعيف كما القوي...بل على العكس فما نعاينه الآن من توتر و استقواء عنيف ما هو إلا ردة فعل تنطلق من سمو هوية على أخرى فوحدة الهوية، كفكرة ممكنه التحقق إذا ما تم استحضار قيمة المحافظة على الأجيال اللاحقة، هي مصدر الإبداع المولد للتنمية والمحقق للإقلاع ،أما اختزالية الهوية في مكون واحد، فهو قصور استراتيجي لا يفضي إلا إلى تكريس العنف ماديا كان أم معنويا، ومعلوم من يستفيد من مثل هذا الوضع. إن سؤال الهوية الآن ينبغي أن ينطلق من الإنسان لتحريره من اكراهاته الاجتماعية، اللسنية، المذهبية و العقدية... خصوصا في ظل ظرفية لم يعد فيه هذا الكائن منعزلا ،بل إنه يتحمل مسؤوليته الأخلاقية على الأقل في كل ما يقع في العالم من تحول نحو الأسوء. نعم أننا ندرك أن الطريق إلى ما نحلم به لا بد أن يكون متدرجا و ذلك لعدة معطيات أبرزها التخلف الثقافي والاستبداد والتدخل الخارجي و الأمية ...إلا أن هذه الرؤية لا ينبغي أن تجعلنا عازفين على الطموح لغد أفضل ،لهذا فتربية الأجيال القادمة على منظور سليم للهوية يحصن أمننا و يجنبنا صدام الهويات حتى لا أقول صدام الحضارات. الهوامش : (1) جان فرانسوا ماركييه "مرايا الهوية : الادب المسكون بالفلسفة" ترجمة أ.كميل داغر ،مراجعة لطيف الزيتوني. بدعم من مؤسسة الفكر العربي .دار النشر "المنظمة العربية للترجمة"الطبعة الاولى .شتنبر 2005 . ص 13. (2) نفسه ص 15. (3) راجع مقالتنا " اللغة كساء الفكر " المنشورة من طرف مركز آفاق للدراسات والبحوث . http://aafaqcenter.com/index.php/post/1333 (4) تكثر في قاموسنا التداولي عدة عبارات ذات حمولة قدحية الغرض منها التقليل من العربي أو من الأمازيغي مثلا (أعراب إجان : العربي كريه الرائحة و الشلح الغربوز: الأمازيغي المغفل) (5) محمد عابد الجابري "التراث و الحداثة :دراسات و مناقشات".مركز دراسات الوحدة العربية .الطبعة الاولى .يوليوز 1991 .ص 11 (6) محمد عابد الجابري مقالة "تشكُّل الهوية العربية " المنشورة بجريدة الاتحاد الاشتراكي العدد الصادر بتاريخ 6 ابريل 2010 والتي عنونت ب "الهوية العربية :من صحيفة النبي الى تفكك الخلافة العباسية" بالموقع الخاص بالكاتب http://www.aljabriabed.net/conceptislamiques_9.htm (7) نفسه . (8) في المغرب يمكن القول أن المستعمر عندما فشل في تحقيق شرخ في "الهوية الوطنية" للمغاربة على إثر إقراره لما عرف ب"الظهير البربري" والذي تجندوا (أي المغاربة)له بقراءة "اللطيف" داخل المساجد كإشارة رمزية توحي بقوة "الهوية الدينية" وان "الهوية الإثنية" تابعة لها ،قلت عندما فشل هذا المخطط مهد المستعمر لما عرف ب"ظاهرة التحزيب" وأشرك "الحركة الوطنية "في اتفاقية اكس ليبان ،و هو الامر الذي ساهم في خلق شرخ في "الهوية الايديولوجية "هذه المرة و هو ما أسفر عن التعددية السياسية فيما بعد... (9) إدغار موران "النهج،انسانية بشرية،الهوية البشرية". ترجمة د.هناء صبحي.هيئة أبو ظبي للثقافة و الثرات (كلمة).الطبعة الاولى 2009.ص 71. (10) نفسه ص74 . (11) نفسه ص ص 81 82.