لم تعد آفاق المعرفة محدودة كما كانت بالأمس، ولم نعد نسمع أن ساكن الجبل في القرى النائية لا يعرف لون البحر ولا يتصور شساعته، ولا يدرك إلا ما تحيط به حواسه في الأفق المنظور. ولم يعد ذاك الذي يملك أدوات القراءة والكتابة القادر على فك رموز ما هو مكتوب على الورق له ذلك الشأن الكبير في محيطه الاجتماعي. ولم يعد أحد يسلم بصدق ما يحتويه الكتاب دون أن يتجرأ أبدا على انتقاده؟. أصبحت المعرفة شائعة، لدرجة أن جميع المؤسسات والوكالات تعمل على ترويجها. فالصحافة الورقية والالكترونية تعمل على نشرها، وأجهزة المذياع تعمل على إسماعها، وأجهزة التلفاز تعمل على تقريبها ومشاهدتها، وتنفق الحكومات نسبة كبيرة من ميزانيتها لتوفير التعليم في المدن وفي أقصى القرى حتى يصبح الجميع قادرا على اكتساب المعرفة والارتقاء بها إلى مستوى التحليل والانتقاد والمساهمة في إنشائها. من المعلوم أن الإعلاميين يتنافسون على التقاط المعرفة ويذهبون بعيدا لتقريب المعلومة، علمية كانت أو إخبارية، لنشرها بين كل سكان كوكب الأرض. كما أن بعض البرامج التلفزية تقدم ندوات واستطلاعات وبرامج وثائقية في مختلف الفروع العلمية، وييسر محركو البحث الالكتروني للمهتمين والمتخصصين المعلومات التي يرغبون في الاطلاع عليها. ولم يعد هناك ما يحول دون الإنسان المهتم والمعرفة والاطلاع عليها، ولم تعد هناك حاجة لطلب العلم ولو في الصين أو في أماكن أخرى بعيدة. إذ أن المعرفة معنا في بيوتنا وفي جيوبنا أيضا بما يوفره التقدم الرقمي من أجهزة صغيرة في حجمها كبيرة في محتواها. إذا كان الأمر هكذا، علينا أن نتساءل عن نسبة المهتمين باكتساب المعرفة في وطننا؟ عن عدد الأطفال الذين يقرأون الكتب المتوفرة في مكتبة المدرسة أو المكتبات الثقافية؟ كم من الأبناء الذين عوّدهم آباؤهم القراءة منذ الصغر؟ كم من أب يفكر في إهداء كتاب مناسب لأبنائه في المناسبات بدلا من أن يشتري له لعبة متطورة قد تكون سلاحا رشاشا بالماء أو سيفا يعمل باللايزر يردي الأعداء؟ كم عدد المكتبات العمومية أو الأجنحة المخصصة لتوفير الكتب للصغار، في المدن الكبيرة والمتوسطة والصغيرة وفي الأحياء والقرى؟ إن الجواب على هذه التساؤلات قد يكون مخجلا. ومن المؤسف أن تشاهد بعض الأطر الهامة الذين درسوا سنين عديدة، بما فيهم رجال ونساء التعليم، قد لا يتوفرون في منزلهم على مكتبة يستفيد منها الكبار بله الصغار. ومن منا عندما يوزع مدخوله على المصاريف الشهرية يخصص نسبة ولو متواضعة لاقتناء الكتاب؟ اسأل أي شخص حولك كم كتابا قرأته في الشهر، في السنة، في عمرك المديد، قد تفاجأ مفاجأة لا تسر. إن عددا من الناس ينفقون على الهواتف الالكترونية الذكية مبلغا مهمّا، وما أكثر مستعملي الهواتف في كل مكان، في الإقامة والترحال، ولكن قل من يستعملها لاكتساب المزيد من المعرفة. ولعله من المفيد أن نتساءل السؤال القديم الأزلي، لماذا نحن هنا في هذه الأرض، ما هو الهدف من وجودنا على سطحها؟ لماذا خلق الخالق الإنسان وزوده بالعقل والذكاء؟ لا ريب أنك سمعت كما سمعنا جميعا الجواب القائل من أجل أن نعمرها. نعمرها بماذا؟ بالمباني والعمارات الشاهقة أم بالعلم واالمعرفة؟ والمعرفة مهما اتسع مداها وتوفرت بنسبة عالية لدى صاحبها، وتم التأكد من صحتها وجدواها، فإنها لا تكون مجدية إن لم تكن مقترنة بالتطبيق. ذلك أن المعرفة، ولو كانت محدودة، فإن فائدتها منوطة بتنزيلها إلى ميدان الواقع. إن طلب العلم، قل أو كثر، ليس مجرد ميل وموهبة، إنها ضرورة تحتمها ظروف العصر التي لا ترحم الأمي والجاهل بما يجب أن يعرف للإقبال عليه أو اجتنابه. والإنسان يتمكن من اكتساب أدوات المعرفة منذ الصغر إذا أحسن المربون، معلمون وأمهات وآباء ، رعاية غريزة حب الاستطلاع وتشجيعها. وبذلك تزرع عادة القراءة في حياته، فتنشأ الناشئة على حب المعرفة والتعلق بها، وتتحرر من المدارك الحسية وحدها وتسمو بأفكارهم إلى استعمال موهبة العقل والروح التي ميزهم الله بها، خاصة في هذا العصر الذي انفجر فيه ميدان العلم انفجارا لم يسبق له مثيل، يحتم على أفراد المجتمع أن يمتلكوا مهارة اكتسابه ليواكبوا مسيرة التقدم ويساهموا في بناء الحضارة الإنسانية التي لم تعد شرقية ولا غربية بقدر ما صارت حضارة عالمية. حدّث أحد الشباب قائلا: إنه التقى، في إحدى المباريات المهنية، بأصدقاء له جاءوا من جهات مختلفة لنفس الغرض، وفي الحديث الذي دار بينهم، تنبه إلى أن المعرفة التي يتوفر عليها تتوفر لدى الجميع. فدفعته هذه الظاهرة إلى إدراك أن المعرفة منتشرة انتشارا لا حد له، وأيقن بما لا يدعو مجالا للشك أن ما يعرفه المرء في إقليم يعرفه غيره في أقاليم أخرى، بفضل وسائل التواصل السمعي البصري وشبكات التواصل الاجتماعي، بل يتجاوز انتشار المعرفة في الوطن الواحد إلى جميع أقاليم الدنيا. وأنهى حديثه قائلا: إن إنسان اليوم إنسان عالمي. ولعله من المهم التساؤل مع حرص المسؤولين على توفير التعليم لجميع المواطنين وسهر الآباء والأمهات على جعل بنيهم يمتلكون قدرة القراءة وفهم ما هو مكتوب ومسموع ومشهود وانتشار المعرفة ووسائل اكتسابها بهذا القدر الواسع عما إذا كان من الإنصاف أن يعتمد الإنسان الناضج على غيره للوصول إلى المعرفة، ويتقاعس عن بذل المجهود الشخصي بحثا عنها، بدلا من الاعتماد على غيره وما يمليه عليه الآخرون؟ هل من المعقول أن يلقي بذكائه وعقله الذي ميزه الله به في دائرة الكسالة والخمول، معتمدا فقط على ما يُلقى إليه من فتات المعرفة؟